Al Jazirah NewsPaper Monday  08/09/2008 G Issue 13129
الأثنين 08 رمضان 1429   العدد  13129
يارا
اختبار المدن الحقيقية
عبد الله بن بخيت

كم إنسانا غريبا عن ثقافتك جلست معه في الأشهر الثلاثة أو الستة الأخيرة؟ طبيعة السؤال تساعدني على تفهم حقيقة وجودي القائمة على علاقتي بالآخر.

عندما أسافر خارج المملكة وأعيش أطول فترة ممكنة في المدن العالمية لندن باريس مونتريال لا يعني هذا أني ثري أو أبعزق الفلوس أو أن هناك من يتصدق عليَّ بالتذاكر، ولكن قانوني الذي هو القانون الإلهي أن الحياة قصيرة لا تتكرر. منحت لنا مرة واحدة. المثول لقانون الزمن كالتهاوي من شاهق. كلما مضى بك العمر تسارعت ساعة ارتطامك المروعة. بلغة الحياة نقول كلما كبرت في العمر أسرعت إليك النهاية. هذه الحياة القصيرة لا يمكن تبديدها بالتكرار ومضغ الأشياء نفسها يوما بعد يوم وسنة بعد أخرى كأنما الإنسان ثور في معصرة سمسم. كل ساعة أعيشها في المدن الحقيقية هي إضافة إلى الساعة التي عشتها قبل قليل. لا تكون حياتي مجرد سقوط في العمر بل صعود نحو الثراء والتجدد الدائم. إذا جربت العيش في مدن كلندن وباريس لن تردد قول الشاعر العربي القديم: (سئمت تكاليف الحياة..) مهما بلغت من العمر. لا يسأم من الحياة ويزين الموت لنفسه سوى ثور معصرة السمسم. المدينة ليست عددا كبيرا من البشر ومباني وشوارع وسيارات وبشر تقمعهم ثقافة واحدة. المدينة الحقيقية مجتمع عالمي يموج أمامك وفوقك وتحتك. أنت جزء منه على الرغم من استقلاليتك، بل إن استقلاليتك واحتفاظك بهذه الاستقلالية والتفاخر بها وممارستها علنا هو تعريف كلمة مدينة.

في الساعة الحادية عشرة أخرج من البيت (الشقة) وأنتحي في مقهى صغير أطلب قهوة أو عصيرا أو أي شيء آخر ثم أفتح الجريدة أطل منها على قليل من العالم، ثم ألتفت أو يلتفت الذي يجلس على الطاولة الأخرى ويسألني سؤالا كالسلام. نتحدث عن العالم وعن الأشياء. درس يومي تتعلم منه كيف تتحدث عن شيء واحد يهمك ويهم إنسان من الأرجواي. يهمك ويهم إنسان يهودي. يهمك ويهم إنسان شاذ. في المدن العالمية لا تعرف الإنسان الذي سيجلس إلى جانبك لذا تكون مداركك ورؤيتك للعالم في أقصي اتساعها فتتدرب على أن تكون مداركك تعمل دائماً بأقصى اتساعها. تتعلم أنك لست مسخا. لا يوجد معلم أو شيخ يسيطر عليك بالريموت كنترول. لديك ما هو أنت. فإذا كان هذا يهوديا لديه ما هو (هو)، فأنا مسلم لدي ما هو (أنا). لدي ثقافة ودين ووطن ولكن لدي فردية أعتز بها. المدينة الحديثة تجعل من كل هؤلاء في إطار عائلة واحدة مع احتفاظك واحتفاظهم بالاستقلال. هؤلاء المختلفون يسمحون لأنفسهم أن يجلسوا معي. لماذا لا أكون أنا مختلفا وأجلس معهم؟ لماذا أنا المرعوب من بينهم؟ مَن منا على صح ومن منا على خطأ؟ هذا ما يقرره اختبار العيش في المدن كباريس لندن ومونتريال. المرعوب من الآخر هو الإنسان الذي تعاني ثقافته من ثقب خطير. تعريضها للاختبار يعني فضحها. السؤال مرة أخرى: كم إنسانا غريبا عن ثقافتك جلست معه في الأشهر الأخيرة؟

YARA.BAKEET@GMAIL.COM


لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6406 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد