Al Jazirah NewsPaper Friday  12/09/2008 G Issue 13133
الجمعة 12 رمضان 1429   العدد  13133

لَبَطَة أبو عُقَيقة (*)

 

(اتقوا غيظ القلوب وإن كان قلب بهيمة).

قال أبو عبدالرحمن: هذه أول كلمة سمعتها منه بعد تحية الإسلام، وكنت زرته؛ إذ بلغني أنه في إعياء منذ شهر صفر من هذا العام.. وجدت شويخاً مسحت آثار الكهولة مظهرية الشباب فحسب، ولكن بقيِتْ سحناته ناقعة بحيويَّة الشباب بسمةً وفألاً وحُسنَ منادمةٍ على الرغم من أنه جلد على عظم.. ولم أفهم معنى هذه الكلمة؛ فاستزدته علماً؛ فقال لي: هذه كلمة استفدتها من الصوفية.

قلت: ما عهدتك تطرب لهم، أو تعتزُّ بفكرهم؟..

فنهض من ضجعته جالساً، وقال: هذه الكلمة من الصوفية كلمة حق، والله وسع كل شيء رحمة وعلماً، وكتب الله الإحسان في كل شيء، وفي كل نفس رطبة أجر..(1) ولكل ما هبَّ ودب من الأحياء قلوب تُسَرُّ وتغتاظ؛ وإن المؤمن الصادق ليسترُّ من فرح القلوب؛ وهذا أبو سعيد الخدري رضي الله عنه اشترى نُغيراً (عصيفيراً) من صبي، ثم أطلقه في الهواء رحمة به.. وحديث ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء من الأحاديث المسلسلة التي توارثتها الأجيال من عدول الأمة بالسند متناً وهيئة للراوي.. ومالي لا أستفيد من كلامهم وقد أفاد منهم جِلَّةُ العلماء؛ فالإمام الشافعي رحمه الله تعالى يَذكر أن أجمل ما استفاده منهم: (الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك)..

ودخل في حيِّز التصوف ثلاث فئات: الفئة الأولى: زُهَّادٌ آثروا الخشونة والاستغناء عن بعض الملذَّات يرجون ثواباً من الله أكثر، وفيهم من صدرت عنه كلمات لا يدل عليها شرع ولا عقل أمثال إبراهيم بن أدهم، وذو النون، وأمير المؤمنين في الحديث والفقه والزهد والتفسير سفيان بن سعيد الثوري رحمهم الله، ويروى له على طريقة القوم تقسيمات غير محقَّقة نقلاً وعقلاً كقوله: (الزهد زهدان: زهد فريضة، وزهد نافلة؛ فالفرض أن تدع الفخر والكبر والعلو والرياء والسمعة والتزيُّن للناس، وأما زهد النافلة فأن تدع ما أعطاك الله من الحلال؛ فإذا تركت شيئاً من ذلك صار فريضة عليك أن لا تتركه إلا لله)؛ فهذا تقسيم قاصر غير حاصر؛ فالنوافل من الورع والزهد لا تُحصى كثرة، وما فرضه الله من المتروكات فليس من باب الزهد؛ وإنما هو شرائع واجبة في ترك ما حرم الله..

والزهد في اصطلاحهم العُرفي ترك الطَّيِّبات المباحة تقشُّفاً، وإطلاق الزهد على ترك ما حرَّم الله مجاز لغوي وليس عُرْفاً عاماً..

ولا أعلم نصّاً شرعيّاً (2) على وجوب نوع من الزهد العرفي، بل كان كل ذلك مندوباً إليه بشرطه، وأهمُّ شرطٍ اعتقاد الحلِّ..

ولا زهد في الملذَّات بإطلاق الشرع؛ وإنما حرَّم الله لذة الفاحشة القبيحة الضارة بلذة الزواج، وعوَّض عن استثقالِ الِّلحية بدخول المؤمنين الجنة مُرداً..

وهكذا، وهكذا..

هذا أخف ما عند هؤلاء من الزهاد، وإذا تصفحت كلام إبراهيم بن أدهم رحمه الله وجدت كلاماً كثيراً لا يُعقل كقوله ((من تعوَّد أفخاذ النساء لم يفلح))..

وهذا تبتُّلٌ ممنوع شرعاً، بل الزواج من نعم الدنيا والآخرة، وفي بِضْع أحدكم صدقة.

وقال رحمه الله: ((الزهد منه فرض وهو ترك الحرام، وزهد سلامة وهو الزهد في الشبهات، وزهد فضل وهو الزهد في الحلال))..

وهذا خطأ محض؛ فترك الحرام ليس هو الزهد العرفي، وفي تركه عوض عنه من الحلال اللذيذ، وزهد الشبهات زهدُ ورعٍ يتراوح بين الوجوب والندب حسب غلبة الظن..

والزهد في الحلال ليس جائزاً بإطلاق، وإنما منه زهد مندوب إليه بشرطه..

ومن قوله رحمه الله: ((لم ينبل عندنا من نَبُل بالجهاد ولا بالحج، بل من كان يعقل ما يدخل في بطنه..

ماذا أنعم الله على الفقراء؟!!..

لا يسألهم عن زكاة، ولا عن جهاد، ولا عن صلة؛ وإنما يُسأل عن هذا هؤلاء (يعني الأغنياء) المساكين))؛ فهذا مذهب الصوفيَّة المتفقِّرة، والمحقق أن الغنى والفقر ليسا حكمين شرعيَّيْن، بل هما موضعان للحكم الشرعي من الشكر والصبر وبذل المال في حِلِّه والتعفُّف؛ فإذا استوت أحكام الغني والفقير عاد الفضل للغنيِّ؛ لأن أهل الدثور ذهبوا بالأجور، ولأن الغنى نعمة من الله كونية، والسبق بالأجر نعمة شرعية كونية (فلولا الله ما اهتدينا)؛ فكان الغنيُّ العابد المساوي للفقير في العبادة أعظمَ منفعةٍ لعباد الله؛ فقد منَّ الله عليه بنفعه نفسه، ونفعه خلقه، والفقير أقصر باعاً في نفع غيره، والله يؤتي فضله من يشاء..

وكثرت رواية كرامات له بعضها من بيِّنات الأنبياء عليهم السلام، ولم تحصل لمن هم أفضل الخلق بعد النبيين والمرسلين عليهم الصلاة والسلام من خيار الصحابة رضوان الله عليهم، ومن تلك المعجزات ما ساقه أبو نعيم في الحلية بإسناده إلى عيسى بن حازم النيسابوري قال: كنا بمكة (المكرمة) مع إبراهيم بن أدهم؛ فقال: ((لو أن مؤمناً مُسْتكملَ الإيمان يهزُّ الجبَلَ لتحرَّك.. فتحرَّك أبو قبيس؛ فقال (أي إبراهيم بن أدهم): اُسكُنْ.. ليس إياك أردتُ))؟!!..

فأرجو أن يكون هذا الخبر مكذوباً على إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى، وأما وقوعه فهو محال دالٌّ على أن الخبر مكذوب مهما كانت حال من قام في غَلَبَةِ الظن أنه علة الكذب في سند الخبر؛ لأن هذا إعجاز لا كرامة، ولستُ أُنكر الكرامات إذا صحت نقلا، ولكنني أفرِّق بين المعجزات والكرامات؛ فمثل قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه (يا سارية الجبل) كرامة ليست خارقة لناموس الكون، ولكنها خارقة للمعتاد في تاريخ البشر، وإلا فمن ناموس الله في هذا الموضع أن يُقَرَّب الصوت، ويُرَى البعيد بواسطة ملك من ملائكة الرحمن الكرام..

وقد يهزُّ الملك الجبل بأمر الله، إلا أن هذا الهز خارقٌ ناموس الطبيعة، ولا يكون إلا بينة لنبي على جميع أنبياء الله ورسله أفضل الصلاة والسلام، ثم إن دعواهم هنا أن مُستْكمل الإيمان هو الذي يهز الجبل.. أي بكمال إيمانه!!..

وليست كل كرامة تُدَّعَى لمن يُدَّعَى أنه وليٌّ نقبلها إذا لم يكن مثلها للعُبَّاد على بصيرة من علم مُحَقَّق أو سؤال لأهل الذكر؛ فكم من عاميّ عابد تكاد الطير تأكل من يده..

ولو وقع هذا الحدث الكاذب لتواترت به الرواية، أو تعدَّدت الطرق الصحيحة بالخبر، ولتغنَّت به الشعراء، ولذكره المؤرخون؛ فهذا حدث نادر يحرص المؤرِّخون على ما هو دونه..

وفي الحلية وتاريخ ابن عساكر من مثل هذا الهذيان أن إبراهيم بن أدهم رحمه الله رأى الخَضِر، وعلم الاسم الأعظم، وأن تعليم الخضر تعليم من داوود عليه السلام!!؟، ولو كان الخضر عليه السلام حيّاً لكان من أصجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الشرائع نُسخت بشريعته، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بالخبر الصحيح أنه لا يبقى أحد بعد مائة سنة من أصحابه رضوان الله عليهم..

وفي هذين المصدرين عن الإمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى: ((كان إبراهيم بن أدهم يُشبه إبراهيم الخليل (عليه السلام) ولو كان في الصحابة (رضوان الله عليهم) لكان رجلاً فاضلاً))؛ فهم لم يروا إبراهيم الخليل عليه السلام فيكون التشبيه للهيئة الحسية، ولقد جاءت النصوص الشرعية بوصف إبراهيم عليه السلام، وجاء النص بنفي صفة عنه؛ ففي صحيح البخاري بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما..

قال: ((دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت فوجد فيه صورة إبراهيم (عليه السلام)، وصورة مريم (عليها السلام) (3)؛ فقال صلى الله عليه وسلم: أمَا هم فقد سمعوا أن الملائكة (عليهم السلام) لا تدخل بيتاً فيه صورة.. هذا إبراهيم عليه السلام مُصَوَّر؛ فما له يَسْتقْسِم؟)) (4).. يعني بالأزلام..

وفي رواية عند البخاري زيادة ثقة، وتشعر أنه أعاد الكلام لما رأى صورة إسماعيل عليه السلام..

قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((ورأى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بأيديهما الأزلام؛ فقال: قاتلهم الله.. والله إنْ استقسما بالأزلام قط)) (5)..

فإن زعم زاعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما أنكر الاستقسام بالأزلام، ولم ينكر مطابقة الصُّوَر: فالجواب أنه لم يُنقل وصف هذه الصور فيصح التشبيه، بل أمر صلى الله عليه وسلم بمحوها فمُحِيتْ..

ثم إن الكذب في رسمهما عليهما السلام يستقسمان، وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك يعطي الرجحان بأن الصورتين مُخْتلقتان؛ لأن مَن كذب في هيئة الاستقسام فالراجح أنه كذب في ادعاء الصورة المطابقة..

وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سَمُرة بن جندب رضي الله عنه..

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتاني الليلةَ آتيان فأتَيْنا على رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولاً، وإنه إبراهيم صلى الله عليه وسلم)) (6)؛ فهذا غير الإسراء المذكور في القرآن الكريم بالروح والجسد، وإنما هو إسراء آخر في المنام..

ولو كان تشبيه إبراهيم بن أدهم رحمه الله بالخليل في الطول لوجب تقييد التشبيه بالطول، ثم إنه لا يُعلم مقدار طوله عليه السلام فيصحُّ التشبيه، وكم من رجل طويل؟!.

وإبراهيم عليه السلام قبل نقص الأعمار ونقص الأجسام.

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((أما إبراهيمُ فانظروا إلى صاحبكم)) (7) شبهه صلى الله عليه وسلم بنفسه؛ فهذا تشبيه مقارب وليس وصفاً مطابقاً؛ لأن محمداً لم يكن كأبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام طويلاً لا تكاد ترى رأسه طولاً، بل جاء وصفه بأبي هو وأمي في كتب السيرة المحمدية المطهرة: ((ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير)) (8)، وهيئة محمد صلى الله عليه وسلم بعد نقص الأعمار والأجسام؛ فعاد التشبيه بمحمد صلى الله عليه وسلم..

وسياق الخبر عن ابن أدهم: (لو كان من الصحابة)؛ فالسياق يدل على أن التشبيه في الدين والعبادة؛ فلم يبقَ إلا التشبيه في الدين؛ فتصبح الكلمة كذبة صلعاء مُحالة من وجوه: أولها: أننا لا نعرف تعبُّد إبراهيم عليه السلام كما نعرف تعبُّد محمد صلى الله عليه وسلم؛ وإنما نعرف أنه أمة وحده، وأنه حنيفي، وأنه خليل الرحمن، وأن الله جعل البرهان على لسانه، وأنه من المصطفين الأخيار، وأنه قانت.. إلخ ما جاء به الخطاب الشرعي الصحيح، ولم يرد وصف كيفية عبادته؛ ليصح التشبيه.

وثانيها: أن صِدِّيق الأمة أبا بكر رضي الله عنه لا يجوز تشبيهه بإبراهيم الخليل عليه السلام في الدين مع أنه ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين عليهم الصلاة والسلام على أفضل من أبي بكر رضي الله عنه.

وثالثها: أنه خبر متناقض؛ فكيف يشبه إبراهيم بن أدهم رحمه الله إبراهيم الخليل عليه السلام في الدين وهم يرون تَخَلُّفه عن درجة الصحابة؟!..

وله رحمه الله مسندُ حديثٍ في كراسة، ولكنه في العلم الشرعي ليس كمتوسطي أئمة العلم الشرعي العُبَّاد.

ورابعها: أن سفيان الثوري رحمه الله أجل من أن يقول ذلك؛ فأرجو أن لا يصح الخبر عنه، ولو صح لكان (زَلَّةَ عالمٍ حُذِّرنا عن مثلها).

وهذه الفئة من الصوفية أحبهم الأئمة وصحبوهم، وأثنى عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الاستقامة، بل كان كتاب مدارج السالكين لابن قيم الجوزية رحمه الله تسويغاً لشطحاتهم بالتأويل، والأولى التماس العذر لهم بغياب كثير من العلم الشرعي، وهم قدوة مشكورون فيما وافقوا فيه السنة، ويُعتذر لمحسنهم بِغِياب العلم..

والطيبات من الرزق واجب الأكل منها بمقدار ما يقوى على أمور دينه ودنياه ولو لقيمات يُقمن صلبه..

وليس الزهد قعوداً، ولكنه كسب وعمل وإغداق على الأهل والولد والقريب والجار والضعيف والصديق، ثم له أن يمسك عن بعض المشهِّيات وهو قادر على ذلك مالك له؛ من أجل الله دون أن يُخل بصحته..

وكان سفيان الثوري رحمه الله مع زهده وورعه كثير المزاح يأكل بنهم إذا جاع ثم يقوم ليله في العبادة، وهو صاحب الكلمة المشهورة: (أشبع الزنجي وكُدَّه)، والكد عربية فصيحة لا ذنب لها إلا أن العامة تستعملها وأن المثقفين يهجرونها.

والفئة الثانية: صوفيون بدعيون تلقَّوا المنامات والحكايات وتأويل النصوص تأويلاً بتحريف معانيها من علماء الضلال فضلوا.

والفئة الثالثة: صوفيون ملحدون، وهذه صوفية الحلول والاتحاد، ونحكم بكفر هذا التصوف ولا نحكم بكفر متعاطيه حتى تقوم عليه الحجة ويرتفع العذر؛ ومحيى الدين ابن عربي الذي جمع بين النقيضين (ظاهرية الفقه وكُفريات التصوف الباطني) اختلف الناس في شأنه؛ لما في كلامه من كفر أصلع..

إلا أن شيخ الإسلام ابن تيمية من المتقدمين والدكتور محمود قاسم من المتأخرين رحمهما الله يجزمان بأنه مغلوب على أمره برئيًّ يتلاعب به..

والعبرة بهذه الغلبة أول الأمر هل كانت اضطراراً أو اختياراً بتجاوزِ ما شرعه الله حتى وقع في غير حرز حصين مكين..

ومن الذين جمعوا بين النقيضين المذكورين الفقيه الظاهري (رُوَيمْ) إلا أن تصوُّفه على منهج ذي النون وابن أدهم رحمهم الله..

وبعض من هؤلاء الصوفية جهلة كما أسلفت..

صَحِبتهم خلال إقامتي خارج بلدي؛ فاهتدى كثير منهم بفضل الله على يدي؛ وإنما يُخاف عليهم الغلو.

قال أبو عبدالرحمن: فحمدت الله على سؤالي له؛ إذ حصلت على هذه الفوائد، وأشعرته بذلك، وأشعرته باستغرابي كلامه عن (غيظ القلوب)؛ فما مناسبته لزيارة استشفاء كهذه؟..

فأَنَّ أنّةً هي إلى نفحة الطرب أقرب منها إلى الحزن، وقال: إنك تحاول أن تجعل شجوني في المغطس.

قلت: والله ما أرى في سحناتك حزناً، بل إنك أكثرُ مزاحاً من الإمام سفيان الثوري الذي ذكرته رحمه الله.

قال: يا أخي خذ جبال الهملايا، وضم إليها جبل طويق، وجبلي أجا وسلمى، وجبل ذهلان، وجبال السروات كلَّها: فإنني أحمل من الهموم أثقل منها..

وأما البسمة والمزح فمن أمرين: أحدهما غير محمود وذلك انهماك لي في منعطفات حياتي مع الظرفاء من كل مُتَبَحْبِحٍ غير كيِّس ولا فطن..

وثانيهما منحة من واهب النعم سبحانه ربَّت القلبَ على الشجاعة إيماناً بالله واتِّكالاً عليه وعدم حسرة على ما فات أو تخوُّفٍ مما هو آتٍ..

وهل أمراض العصر يا أخي إلا من ضعف اليقين وقلة المغذِّي لقوة القلوب.

قلت: إذن حدثني عن هذه الشجون الخانقة وأنا أراك متفتِّحاً؟.

قال: لا أحصيها لك، وكلُّها استعنت بالله عليه وقصمته بقوة اليقين؛ فلم أعد أنوءُ بتلك المُنَغِّصات..

فألححت عليه أن يذكر لي ما تيسَّر منها ولو واحدة..

قال: إذن أعطيك أبسطها وأتفهها وهو لَبَطَةُ أبو عُقيقة.

قلت: أما أبو عقيقة فلا أعرفه؛ وأما لَبَطَةُ فذلك ابن الفرزدق العاق فما شأنك ببني تميم؟.

قال: هم حصاة البلد وبيضتها، وأثقل أمة على الدجال، وأهل الشرف في مضر بعد قريش، ولكل ظاهرة شواذ، وما جعل الله العصمة لفرد فكيف تكون لقبيلة؟!.

قلت: يا أبا لَبَطَةَ سيكون حديثنا كحديثِ (ألفُ ليلة وليلة) (9)؛ فكل ليلة يدرك شهرزاد الصباح؛ فتترك الكلام المباح؛ فاختصر لي الطريق رحم الله والديك وأخبرني ماذا تعني؟.

قال: ذلك ابني لَبَطَةُ أبو عُقَيقة الذي أشبعني عقوقاً.

قلت: أليس متعلِّماً؟.

فقال: بخٍ بخٍ..

حدِّث عنه في العلم ولا حرج: عليك أبا عُقَيْقَةَ فاختبره فكل العلم عند أبي عُقيقة.

لولا أنه مع هذا العلم الغزير لا يدري: أَسَعدُ اللهِ أكثرُ أم جُذام؟! (10).

قلت: لم أفقه شيئاً.

قال: العلم الصحيح هو ما تحت الرَّغْوة -وهي محبوبة لذيذة- من لبنٍ صريح، وأما الغُثاء (وهو مكروه غير مُسْتطاب) فتَحْته سيل جارف.

قلت: زدني رحم الله والديك لم أفقه شيئاً..

قال: إنه ذو ثقافة خطَّافية، وله ولع بالكتاب، ولكنه لم يدرس دراسة منهجية مؤصلة، وعلمه بأمور دينه كعلمي باللغة الروسية، والعلم النافع الذي يكون معه البر والصلة أن تكون البداية تأصيلاً في أمور الدين عقيدة وفقهاً وآداباً وأصولاً مع علم الآلة من اللغة، ثم يتخصص بعد ذلك فيما يقدر عليه من حقل علمي أو أكثر، ثم لابد مع ذلك من موهبة فكرية أو رياضتها إن كانت خاملة بالقراءات العقلية الفكرية والحذق لنظرية المعرفة، ولا بد بعد ذلك للعالم والأمي من الاتصال بكلام الله يوميّاً تلاوة أو سماعاً بتدبُّرٍ وسؤالٍ لأهل الذكر؛ لأن من يهجر كلام الله يكون متعمداً للفرار من مسؤولية الخطاب الشرعي، وقد حكم فيه شرع الله بقوله سبحانه وتعالى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً}(99-101) سورة طه. {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}.. سورة طه (124-127).

فهذا نسيها بتناسيها؛ إذْ صَدَّ عنها وهجرها.. وقال سبحانه: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً * وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} سورة الفرقان (27-30).. ولا بد مع ذلك من العبادة، ولبطة مُظلم الوجه ليس فيه نور إيمان، ولا يعرف الله طرفة عين {وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(27) سورة يونس، ويتوب الله على من تاب.. ولقد رأيت بوادر عقوقه منذ بلوغه الحلم عابساً مقطباً كأن عبسته ذرق حمَّاء، وهي التي تمكو، وتمادى عقوقه إلى أن وصلتُ هذه المرحلة من العمر؛ فعلمت أن الله لا بد غالبه إن لم يرجع إلى ربه، وجاش من خاطري هذا البيت:

ولن يشكر العرفانَ منه عُقَيقَةٌ

فكُلُّ عَقوقٍ مُوثَقٌ بعقوقهِ

وفي هذا الموضع غير الخيِّر ما أجمل توالي العين والقاف على نسق (وليس قرب قبرِ حرب قبرُ)!!؛(11) فسوف يلقى ربه ويحاسبه، والعامة تقول عن البر والعقوق: (سَلَفٌ مردود) بمعنى أن العاق لأبيهِ سَيُبْلَى بولدٍ أعقَّ منه..

وبحمد الله لم أضعف أمام شيخوختي؛ لأن عندي من الولد البررة كفاية، ولأن شيخوختي قد قُدَّتْ من شَباة حسام إن ضربْتَ به مكروهةً فَصَلاْ، وأيُّ أثرٍ لِمُتَبَوِّلٍ إذا تناطح البحران، ولست أقول فحسب:

وابن اللبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ

لمْ يستطعْ صولةَ البُزْل القناعيسِ

ولكنني أعدُّهُ ذباباً طار في لهوات ليث..

وإذا كانت مصائب قوم عند قوم فوائد فإن عزائي في أهل عصرٍ بلغ زمانهم منتهى السماجة منذ أربعين عاماً تقريباً؛ فكان الولد غيظاً، وأخشى أن يكون المطر قيظاً.. وكنا نذمُّ قبل ذلك زماننا الجميل (زمانَ أهل الفطرة) لنقصٍ في الكماليات، واليوم نقول بعد الدعاء بالسقْي والرعي: بكيت منها فصرت اليوم أبكيها.

قال أبو عبدالرحمن: فتألمت من هيئته وهو يردد هذا الكلام بمرارة؛ فبدر مني هذا التساؤل: إنك مثقلٌ بالهمِّ فعلاً، وإن حديثك المتدفق بمرارة هزني جدّاً..

فازداد نهوضاً في قِعْدَته، وعادت حيويته وهو يقول: النفس لوامة إذا حصل منها تفريط، ومني تقصير اضطراري لا اختياري، ولكن براءتي أنه لا ينطبق عليَّ قول شاعرين..

القول الأول: لا تلم الأبناء في فعلهمُ لو سادَ آباؤهم سادوا فهذه لم أُفرِّط فيها؛ لأنني عصامي بالصاد المهملة لا عظامي بالظاء المعجمة، وكيف يكون لي تقصير في هذا الجانب وثنائي على ربي الذي ألازمه دائماً في هذا النص: (الحمد لله الذي أغناني بعد عَيْلَة، وأعزني بعد ذِلَّة، وكثَّرني بعد قِلَّة)..

قلت ذلك لأن معاني هذا الدعاء شرعية، والرسول (صلى الله عليه وسلم) يتأول القرآن..

أي يحمل معانيه الصحيحة على عبادته التي يتعبَّد بها لربه سبحانه..

وأما القول الثاني فهذا البيت لأبي العلاء المعري: وينشأُ ناشئ الفتيانِ منا على ما كان عوَّده أبوه فلمّا كانت ظروف طالب العلم تلتهم وقته حتى يكاد ينسى نفسه، ولما كانت الأمُّ معينة على الشر غير مساعفة على الخير: حرصت على دراستهم المنهجية؛ فكنتُ أُدخِلُهم في مدارس الحضانة قبل الابتدائي على حسابي، ثم بعد ذلك أتنقَّل بهم من مدارس حكومية إلى مدارس أهلية حسب تغيراتهم التي أوجبت عليَّ ذلك، وكنت أستأجر مدرِّسين في البيت لتدريسهم، وكنت وقتها أفقر من حجَّام ساباط..

وكان بيتي عامراً بالضيوف، وأحرص على جذبه هو وإخوته منذ الصغر ليأنسوا بضيوفي وينعتق هو بالذات من انطوائيته، وهكذا أحاول حملهم معي في سيارتي إذا كنتُ مدعوَّاً فلا أُفلِح في ذلك، وإن أفلحت في بعض ذلك فإنه بعد عناءٍ شديد..

وطالب العلم شحيحٌ بوقته، ومع هذا أسرق من وقتي من أجل نزهتهم في البَرِّ مع والدي، أو آخذهم معي لشراء ذبيحة والذهاب بها إلى الجزَّار، ثم أذهب بهم لسوق الفاكهة والخضار، أو أدور بهم في حارات بها أحواش للإبل ليتفرجوا، أو أدخل بهم السوق لشراء ما يُفرحهم.

قال أبو عبدالرحمن: فقبَّلتُ جبينه، وقلت: هذا جميل جليل جداً، فكيف كانت النتيجة عكسية، وما شأن إخوانه ذكوراً وإناثاً والحالة هذه؟.

قال: أجيبك على شرط أن تسمح لي بمنعطف لن يطول إن شاء الله.

قال أبو عبدالرحمن: قلت: وأنا أفعل أيضاً إن شاء الله، ولكنني أرجو من شيخنا الفاضل أن يختصر الحديث في ليلة؛ فلا طاقة لي بألف ليلة وليلة..

فتنهد هذه المرة تنهداً يجيش حسرة، وقال: إن المرأة أكثر سعادة للرجل أو شقاءً عليه، وأول ما تزوجت امرأة فاضلة من أسرة كريمة، وقد نشبت شحناء بينها وبين أبي رحمه الله، وكانت هي المعتدية بشهادتي؛ فاستعملتُ كل حيلة للإصلاح مع رجاء الوالد أن يصبر، و شفاعات من المشايخ عند أهلِها كلما ادَّعتْ خلافاً مع أبي وجارت عليه في القول، وكنت أحبها حباً شديداً؛ فلما رأيت الهضم على أبي على الرغم من صبره، وعلى الرغم من حثه لي على إمساكها، وأن صبره لن يضيع، وستتعدل الأمور: أبتْ كل مشاعري، وطلَّقتها رجاءً لما عند الله، وكان لي منها بنتان؛ وكنت إذا أخذتهما للزيارة آخر الأسبوع شممتهما، وتذكرت قول نزار قباني: أخذتها مقبلاً باكياً أما بها من أمها رائحة ولم يَقرَّ لي قرار حتى علمتُ أن الله يسَّر أمرها بالزواج، ثم سعدتُ لما أنجبت وكان الزوج صالحاً؛ فارتاح ضميري، ولم تنقطع الصلة والبر بيني وبينها، وبين أهلها وزوجها، ثم بعد ذلك شقيت شقاءً منغِّصاً طيلة ثلاثين عاماً منذ زواجي الثاني؛ حتى وصلت الحال أنني آخذ سجادتي ومصحفي وبعض كتبي إلى المسجد؛ فإذا قضيت الفرض ذهبت إلى أبي أو أحد أقاربي لتناول وجبة عشاء أو غداء مشفقاً على نفسي من سماع ما لا يرضيني، أو إهدار ذمتي بالوقاحة ومدِّ اليد؛ ثم تزوجت ثالثة في آخر حياة أبي رحمه الله خفية عنه من امرأة صالحة تفوقني حسباً ونسباً؛ فهي من بني الضَّبُعِ من جهينة، وسجلات أنسابهم في سوهاج بصعيد مصر عند مشايخ جهينة مثل نقابة الأشراف، وأنجبتْ مني اثني عشر ولداً ما بين ذكر وأنثى إضافة إلى ثلاثة من السقط، ووُلد لي ثلاثة أبناء خارج المملكة؛ فلما علم أبي وأنا ذاهب به في الطائرة للعلاج سُرَّ وانبسط، ووعدني بمشيئة الله أن يُوِّفق بين الزوجتين، وأن تهتدي الثانية بهداية الثالثة، وقد توفي رحمه الله ولم يتم شيء من التوفيق، بل عشت في عذابها أكثر؛ فاضطررت إلى فراقها، واشتريت لها ولذريتها فلتين بسور واحد، وقمت بنفقتهم اليومية والأسبوعية والموسمية ومساعدات المناسبات إلى حد التبذير..

وعودة إلى الزوجة الثالثة فإنني قد تعلمت منها موضع الإحسان والإساءة، وأعانتني على نفسي بعد الله في أمور كثيرة دنيا وآخرة، وكانت سناً يضحك دائماً: لا تضيق بأحد، وتكرم الوافد، وترحم الفقير..

بل كانت تقوم بشؤون أولاد زوجها من زوجته الثانية، وصبرتْ على ما نالها من الأذى..

تريد احتساباً أولاً، وتشفق على إخوان أولادها ثانياً، وتسعى لراحتي ودفع همي ثالثاً، ثم هذا هو معتاد نشأتها في قريتها رابعاً؛ فقابلوا إحسانها بالبغضاء والافتراء والإيذاء، ولا سيما لبطة وشقيقتاه التي يأتي الحديث عنهما؛ فأين هم من بِرِّ عبدالله بن عمر رضي الله عنهما الذي نزل عن بغلته من أجل أعرابي؛ فقالوا يرحمك الله يا أبا عبدالرحمن (12) تنزل عن بغلتك لأعرابي جِلْف !!..

قال: إنه وُدُّ عمر (أي صديق والده رضي الله عنهما)..

وأما الزوجة الثانية أم لبطة وكان لي منها اثنا عشر ولداً أيضاً ما بين ذكر وأنثى فستأتي قصتها إن شاء الله.

قال أبو عبدالرحمن: فقاطعته، وقلت: الظاهر أننا لن نخرج من ألف ليلة وليلة؟!.

قال: اصبر وما صبرك إلا بالله..

أما الزوجة الثانية فقد لقيت منها أكثر مما لقي سقراط من زوجته؛ حتى كنت أفكر في العزوبة والتبتُّل غير المشروع، وقد أرغمني عليها والدي رحمه الله عن غير علم بالواقع؛ وإنما خُدِع بأن أختها زوجة أخي؛ فلم أستطع عصيان الوالد، ثم صبرت عليها رحمة لها؛ لأنها كرب وبلاء خِلقة وخُلُقاً، وواصلتُ النفقة التبذيرية مع شدة فقري؛ حتى لا يُحِسُّوا بالحرمان، ولا تشره أنفسهم إلى ما في أيدي الناس؛ فكنت أعثر في كل مدة يسيرة على ما لا يسرني: مثل مطالبات لي من أصحاب المحلات بديونٍ باهظة من قبلهم على الرغم من نفقتي التبذيرية، ومنها ما أتفاجأُ به في مكتبي من خطابات تعقيبية من المدارس على أولادي، وكانت تَعْلم بغيابهم، وتخفي عني بلاغات المدرسة؛ فكنت في عناء من أجل التبديل من مدرسة إلى مدرسة، ومن ترميم الوضع مع المدرسة نفسها..

ومنها ملاحقتي للأولاد بالنصيحة والترجي والتشجيع بالهدايا، ومنها أنني أُفاجأُ بوقوع الأولاد في محرَّمات ووالدتهم تخفي علي، ومنها تعبي مع أصحاب المحلات في تسديد قيم بضائع سرقها أولادي بتشجيع من والدتهم؛ لتأخذ المسروق وتكافئهم، بل بلغ الأمر تكليفها أولادها بسرقة شقة لي مشحونة بأثاث جديد للبيت الذي أعمره تزيد قيمته على مائة ألف ريال، وقد انكشف الأمر باعتراف الأولاد أنفسهم، وتسرُّبِ قطع الأثاث في أسواق الجلب والبيع، وتركت هذا الأمر احتساباً..

ومنها ابتعاد أهلي وأقربائي وخاصتي عن زيارتي بعوائلهم، بل كانوا كثيري الإلحاح عليَّ في التخلص من هذه المرأة؛ فلما أبيت هجرني بعضهم..

ومنها أن وجبات الفطور والغداء والعشاء تجمعنا على السماط؛ فكل يوم أجد نقصاً في الأولاد؛ فتعتذر لي بأن فلاناً مريض، وفلانة عند صديقتها، وفلانٌ نائم ولا سيما لبطة؛ فكنت أُخرجه من غرفته التي يقفلها على نفسه وفيها بعض الكتب يطالعها، وقفله للغرفة في النوم واليقظة معاً، فإذا عتبت عليه كشَّر بوجهه ولم يرد علي..

ومنها أن أولادي غير الصغار جداً لا يدخلون عندي في مكتبتي ولا سيما بنتيَّ من الزوجة الأولى؛ فتبيَّن لي أنها تمنعهم، وتقول بكل وقاحة: (عيب على الذي يُشْغل أبوه)، وما قصدها إلا إخفاء الاضطهاد الذي تلقاه بنتاي، بل كانت إحداهما تأكل التفاحة خفية تحت الدرجة خوفاً منها..

وأخيراً استسلمتُ للواقع؛ فرضيت بذهابهما عند أهل أمهما وأنا كارهٌ ذلك، ولكن سعادة ابنتيَّ أهم علي من ذلك، وقد حصل لإحداهما بسببها مرض لا تزال تعاني منه ويشتد حتى هذه اللحظة..

ومنها إن إحدى الأسر الكريمة تقدمت لخطبة بنتي الكبيرة منها، ففرحتُ بذلك؛ لعلمي بالمعدن الكريم للأسرة، وألححتُ على أن يراها وتراه بمحضري؛ فحصل ذلك برضا الطرفين، ثم فوجئتُ بعد أسابيع بأن المهر أُعيد لأصحابه؛ فلما سألتهم عن ذلك قالوا: (استخاروا وطلبوا فسخ الخطوبة وإعادة المهر)..

فقلت: (الله يجعل في الأمر خيراً)، ثم تبين لي فيما بعد أنهم هم الذين أعادوا المهر طلباً للزيادة من وسخ الدنيا، وتعلقاً بشاب رمى بثقله عليهم فلم ترَ من زواجه منه خيراً، وهو كذلك..

هذا تفصيل لا أستطيع الزيادة عليه؛ فلا تسألني عن أكثر من ذلك.

قال أبو عبدالرحمن: فعصر الألم قلبي حيرة بين هذه المعاناة التي وقعت، وبين عجز شيخنا الفاضل عن معالجة ذلك بحزم..

ولكن من خلال تفهُّمي لحديثه، وملامح هيئته وهو يتحدث علمت أنه مثقل بذرية كثيرة، ولا علاج للموضوع إلا بالطلاق وتفرق الأسرة، وما كان يحق لي أن أثقل على نفسيته بالأسئلة، ولكنني مازحته قليلاً، وخرجت به عن هذه الأجواء حتى ردَّ الدم في وجهه؛ فقلت: يا شيخنا: هذه سفاهة مراهق..

أما كنت تتحملها، وتسعى في تزويجه لعله يستقر؟..

قال: لا أذكر في حياتي قط أنني ضربته وإن كنت أُعنِّف القول والتهديد، وأما الزواج فهو أبو عُقَيْقَة كما تعلم؛ فهو ذو ولد، ومنذ بلغ الحلم ولم يرضَ باختياري زوجته تركته يختار، ثم أخذ بيدي كالخروف لأخطب له؛ فخطبتُ، وقمت بتكاليف الزواج، وقد بلغت نصف مليون، وكانت أسرة فاضلة، ورزقه الله منها ولداً صالحاً، ولكنها لم تقعد عنده سوى مدة قصيرة..

آذاها بغير سبب، وتحكم في حريتها تحكماً أرعن، وإذا انعكست الآية فلم يرضَ عن والده: منعها من زيارة والده مع أنهم لا يخرجون إلا بالإكرام والخيرات الكثيرة..

ثم التمَسَ زوجة ثانية، وطلب أن يقودني كالخروف للخطبة؛ فأخذت عليه عهد الله وميثاقه على التحري من الأسرة، وأن تكون زوجته في الدنيا والآخرة ما دام سيأخذها عن مشاهدة من الطرفين بعد طول مجالسة، وألا يعتدي بالضرب والشتم، وأن يشركني في الأمر لحل إشكال إن وقع، وأن يُبعد عن اعتياد التلفظ بالطلاق؛ فلم تبق معه إلا يسيراً ثم طلقها بلا علمي ولا مشورتي، ولم يستطع ظلمها بأخذه بنتها؛ إذ أنجبت منه بنتاً كما فعل مع الأولى التي اغتصب منها ولدها، ومنعها من رؤيته، وصار الولد تترامى به الأقدار بين حمقه وسوء تربية أهله..

ولكنه كان عصامياً، صالحاً، متفوِّقاً في دراسته..

وجاء المرة الثالثة ليأخذني كالخروف أخطب له امرأة، وقلت له..

(إنني لست ممن تَتَمَنْدل به يا عاق، وإن عندي ذرية تبلغ ستة وعشرين من بين ذكر وأنثى، ولهم حق مثلك)، ورفضتُ أن أحضر الزواج نهائياً؛ فتزوجها، وعجبتُ من قبولهم مع تخلُّف والده عن حضور خطبة الزواج وحفلته..

ومع هذا أدركتني عاطفة الأبوة بعد مدة، فدفعت شيئاً من بقايا تكاليف الزواج، وتحمَّلت أعباء تسديد أكثر ديونه الحمقاء..

وهي تعيش عنده الآن في عذاب بينها وبين أهله؛ فإذا أراد أن يتملق لي بحاجة بعث أهله تمهيداً لزياراته المتتالية؛ فإذا قضى حاجته لقَّاني سوءته، وكان أول عقوقه في مثل هذه الحالة أن يمنع أهله من زيارتي، وأنا الرابح في ذلك؛ لأنني أسلم من الخسائر الباهظة ومن وجع الرأس.

قال أبو عبدالرحمن: يا أبا لَبَطَة: لا ريب أن هذا عقوق يقتضي هَجْره، وما أعرفه من فضلك سيمنعك من الدعاء عليه، ولعلي أكون طرفاً في علاج هذا الموقف؛ فزدني حديثاً عن عقوقه؛ لأكون متفهماً للموقف؟..

فقال: أما أن يوجد طرف من قريب أو صديق أو بعيد لعلاج الموقف؛ فهذا لن يدخل في بقية عمري البتة إن شاء الله؛ فلا أقبل أن تراه عيناي بقية عمري، بل سأمنع من دخوله عليَّ لو كنت على فراش الموت، وأما الدعاء فلو دعوتُ عليه من قلبي ولا سيما آخر الليل في السجود لقصمه الله سريعاً، أو أوقعه الله في هموم ومصائب لا خلاص له منها، ولن أدعو على أحد منهم ولا على والدته؛ وإنما أدعو الله في سجودي، وفي كل وقت بصلاحهم؛ فإذا عظُم غبني؛ لشدة إيذاء جديد منهم قلت ثلاثاً ((اللهم أصلح نيتي، وذريتي، وأهلي، وجميع أمري.. اللهم مَن أرادني أو أهلي أو ولدي -من قريب أو بعيد- ومن جن وإنس، ومن ذكر وأنثى -فأشغله في نفسه..

اللهم إني أعوذ بك من شرورهم، واجعلك في نحورهم..

اللهم اكفنيهم بما شئت وأنت السميع العليم..

الله الله ربي لا أشرك به شيئاً (ثلاث مرات)..

اللهم أنت عضدنا، وأنت نصيرنا..

بك نجول، وبك نصول، وبك نقاتل)؛ وإنما سأدعو آخر الليل في سجودي على شقيقتين له أصغر من شقيقتيه الكبريين، وتليانهما في السن؛ فهاتان المجرمتان تعاملهما مع والدهما لا يفعله عتاة الكفار، وقد سلب الله من قلبيهما ووجهيهما النور، وأرجو الله أن يحيطهما بنقمته، وأن يريني فيهما عجائب قدرته، وأن تقرَّ عيني بمصائبهما الدنيوية قبل الأخروية..

وكنت أنوي قتلهما بطلقتين؛ فمنعني من ذلك عصمة ربي، وكثرة فراري إليه سبحانه..

وأما عقوق لَبَطَة أبي عُقَيْقَة فلا أدري بماذا أبدأ، ولا بماذا أنتهي، وحسبك من نتن عقوقه ما يجيش به خاطري الآن؛ فمن ذلك أنه يكتب لي الرسائل التي أحتفظ بها عندي، وفيها الكلام القذر، والشتائم لوالده.. ومنها أنني لا أذكر في حياتي قط أنه أطاعني في شيء ودعك من أن يستشيرني في أمر، بل إنه سريع إلى عكس ما أريده له من خير، وإلى تنفيذ ما يغيظني..

ومنها أنني أسافر مئات الأسفار، وتأتيني وعكات فأكون طريح الفراش فلا يزورني، بل يمر العام والعامان ما رأيته، ولا أذكر في حياتي أنه خرج يستقبلني في أي سفر؛ وإنما أستثني زيارات له متكررة متتابعة على غير المعتاد بعد تمهيد بشفعاء أو وسطاء، وبإرسال أهله وذريته الذين منعهم من زيارتي: يكثر تقبيل اليد، وكثرة التحية والسؤال عن الحال، ويشتري لي بعض الكتب، وربما أهدى قلماً أو قارورة عطر؛ فأحمد الله في أعماقي أنْ رده رداً جميلاً، ثم تعلمت على طول المدى أن هذا الفعل لغير وجه الله، وأن تودُّده كتودد الأعداء؛ فهو يذكرك بقول الشاعر:

حياك من لم تكن تُرجى تحيته

لولا الحوائج ما حياك إنسان

فما تمر بضعة أيام حتى أجد وراء ذلك طلبات ترهقني: من سداد ديون باهظة حمقاء، ومن طلبات تبذيرية من أجل النفقة، ومن طلب شفاعة، هذا مع ما جُبلِتُ عليه من سخاء ابتداءً وتبرعاً من غير طلب له ولأهله ولولده، وكنت أدفع رسوم دراسة ولده في المدارس الأهلية، فإذا قضى حاجته أدبر كإدبار إبليس عند سماع الأذان فلا أراه إلا لمناسبات نفعية كالتي أسلفت؛ حتى كرهت زيارته؛ فلم تكن كحلاوة زورة بلا ميعاد ممن تودُّه، وإني نسيت الآن الاهتمام به؛ فلم يكن كعزَّة تتمثل لكُثيِّر بكل سبيل..

وبلغ من وقاحته ثلاثة أمور تنهدُّ لها الجبال هداً: أولها: أنني أحضر يوم عيد الأضحى المبارك لأذبح عند والدته إحدى عشرة أضحية تبرُّعاً مني، ويكون في البيت، ويمر من عندي؛ فيحتجب في غرفته ولا يسلم عليَّ مع أنه إلى هذه اللحظة ساكن في إحدى فللي هو وأهله، ونفقاتهم تصلهم مني في البيت.

وثانيها: أنه شَجَرَ بيني وبين بعض المتشبِّثين باللغة رحمه الله تعالى خلاف؛ فرددتُ عليه برفق وتأصيل، وسترتُ بعض عيوبه الصلعاء كجعله (ما) مصدرٍ ما استفهامية؛ فإذا بلبطة يكتب ردّْاً على والده، ويسلمه لإحدى المجلات؛ فطردته المجلة، وأرسلتْ إليَّ المقالة؛ فأشفقت عليه من جهل أرعن؛ فهو لا يحذق شيئاً من أصول اللغة وأسرارها، ومن تكلم في غير فنه -إن كان له فنٌّ- أتى بالعجائب..

ولكن الأمر الذي اقشعر منه جلدي بذاءته مع والده، ونبوُّ عباراته كأنه يردُّ على علماني بعيد لا على والدٍ مؤمن بار بوالديه وذوي القربى، والأهل والولد..

وصارحته بعد مدة طويلة جداً في مناسبةِ معاتبةٍ، فأظلم وجهه زيادة على ما عنده من إظلام، ولم يستطع الإنكار.. ولا أزال أحتفظ بهذه المقالة الخاسئة.

وثالثها: أنني كلفته بمهمة ثقافية لا علمية مع علمي أنه غير أهل لذلك؛ وإنما أردت تشجيعه علمياً ونفعه مادياً؛ إذْ أغدقت عليه لهذا الغرض ما يُعدُّ رأس التبذير، فمرت شهور لا أراه مع كثرة مجيئي من الأسفار، ومع أنني أكثر المرات طريح الفراش أحياناً فلا أراه مبادرة من نفسه، وأكتب له الرسائل مستفهماً، وأوصي من يتصل به؛ فلا يرد عليَّ، ثم يرسل لي عُقيقة بفاتورة في حدود أربعين ألف ريال لتسديدها..

ومع حبي لعقيقة لصلاحه وذكائه فقد أعدتُ معه الفاتورة، وأبلغته أن لا أرى أحداً منهم؛ ومع أن لبطة طلَّاع عليَّ مع الخطوب غير مساعف في شدة أو رخاء تعاظمت هذا العمل الإيجابي منه في العقوق، وأما غير ذلك فهو مع خبثه سِلبيٌ عاجز جبان..

خذلني في المساعدة في تربية أشقائه؛ فبعضهم طريح في المصحات النفسية؛ لتعاطيهم ما حرم الله، ومن لم يكن في المصحة فهو بأمس الحاجة إليها الآن..

بل بلغ من تفاهته وقلة إيمانه أن صرح بلسانه أنه غير مسؤول عن أحد حتى لو رأى الحمار على البقرة..

إنني يا أبا عبدالرحمن لم أذق حلاوة الإنفاق والعناء من أجلهم كما تلذذوا بحلاوة الإعطاء، وإنما أعيش مرارة العقوق.

قال أبو عبدالرحمن: فاقشعر جلدي وارتعشت يدي، وقلت هذا عقوق يقرب من الكفر، والدعاء عليه واجب، ولا يحق لمسلم أن يسعى في الشفاعة له عند والده..

ثم رفعت طرفي مفاجئاً فإذا عينا أبي لبطة مغرورقتان بالدمع، وما ظننت أن هذا الرجل المبتسم دائماً يكون عرضةً للبكاء لحظة واحدة من حياته.

قال أبو لبطة: لا تظنن يا أبا عبدالرحمن أن حَزَني على فائت منه وأشقائه، ولكن لم يذق مرارة الحزن من لم يذق موت الولد البار: ليس عُدْمُ المالِ عُدْماً ولكنْ فَقْدُ مَن رُزِئتَه الإعدام فقد كان لي من الزوجة الثالثة ابن مات في ريعان شبابه، وهو وبعض إخوته تعرضوا لإغواء إخوتهم غير الأشقاء؛ فكثير منهم نجا، واستدركتُ الباقين بفضل الله، ولكن ولد هاته الزوجة الصالحة من ذكر وأنثى (مهما مرَّ به من مراهقة) يجمعهم البِرُّ بي مع عنفي في تأديبهم؛ فإن تناولت أحدهم بالتأديب كلاماً أو ضرباً طأطأ برأسه، ووعدني خيراً من ناحية الاستقامة، وما أعلم أن أحداً منهم رد عليَّ بكلام محتمل مُغْتَفَر، وكان أكبرهم إذا أخذني في سيارته لبعض الأشغال يوقف السيارة على عجل، ثم يبادر لفتح الباب لأنزل، وقد نشر الشمسية فوق رأسي إن كنا في وقت مطر أو شمس حامية، وإنني لأخفي دمعتي عنه تأثُّراً بِبرِّه..

وأما أشقاء لبطة فمنهم بنتان صغيرتان وابن صغير لا أحمِّلهما المسؤولية وإن ظهرت منهما بوادر العقوق؛ لصغرهما، وتأثرهما بالتربية غير الصالحة.

قال أبو عبدالرحمن: فكنت في شبه ذهول مما سمعته، وكنت محرجاً من طرح أحد الأسئلة عليه، ولكن لم تخنِّي الشجاعة فقلت: يا أبا لبطة: (13) إنني محرج من طرح سؤال، وأنت في أمواج من هذا الحزن؟.

قال: اطرح ما تشاء فقد فوَّضت أمري إلى الله، ومزقت همومي بكثرة الابتهال والاتكال وتغذية القلب بما يقوِّيه من الأدوية الشرعية.

قال أبو عبدالرحمن: سؤالي رحم الله والديك حول تحسين الأسماء؛ فلماذا اخترت لبطة وأنت تعلم أن تحسين الأسماء مطلب شرعي، ولا سيما أنك تعرف أن لبطة بن الفرزدق من العققة، وكيف سمَّى لبطة ولده عقيقة وهو يعلم أن العقوق كما قال العامة: (سلف مردود)؟.

قال أبو لبطة: يا أخي الكريم هذان الاسمان رمزيَّان لمَّا غرقتُ في عقوقه؛ وإلا فقد عبَّدته لله، وسميته على جدي، وكان معروفاً في قريتي بأنه أبو الأيتام على الرغم من قلة ذات يده، وتوالى على بيته الضيق ست أسر من أقربائه قام بشأنهم، وأدركت أحدهم من أثرياء الكويت كنت أنا ووالدي رحمهما الله على سفرته؛ فتعمد أن يحضر على المائدة رأس خروف، ويُقطِّع آذانه حوالي عشرين قطعة، ويقول: هكذا كان خالي رحمه الله (يعني جدي) يوزع علينا الطريفة، ولا يمر بفمه شيء.. ثم تقاطرت دموعه على السفرة..

والطريفة عند العامة ما تشتريه من الجزار، ويسمونه أيضاً الشِّرْك؛ لأن الناس شركاء في شرائه؛ فإن كان رأساً وأكارع وكرشة ومصراناً وفطحة (وهي التي فوق الذنَبة) سموه رِفْدَاً..

وأما عُقيقة فاسمه الحقيقي أنه مسمى عليَّ، وعلى الرغم من صلاحه وذكائه ونجابته فقد كان الأب يسومه سوء العذاب لغير سبب إلا لبغضه لوالدته حتى شحن قلبه حقداً.

قال أبو عبدالرحمن: إذن لن أقول يا أبا لبطة وإنما نتذكر قول العامة: (العقوق سلف مردود).. ألا ترى أن في هذا تقاضياً؟.

قال شيخنا: كلا، بل أظن ذلك عقوبة دنيوية لما سلف لي من تقصير وإسراف في أمري، والله إذا أحب عبده أصاب منه؛ فيكاد يقوى يقيني بأن هذا تكفير، وأنني ألقى الله إن شاء الله يوم النشور والحشر مُطهَّراً من المعايب بهذه المصايب، وأما تعاملي مع والدي وأقربائي فإنني بحمد الله مضرِب المثل في البر بذوي القربى ولا أزكي نفسي عند الله، ولا أجحد تقصيري وبعض أخطائي، وكان أبي رحمه الله سريع الغضب، محكِمٌ القبضة على حريتي، ومع هذا كنت أَطْوعَ له من خاتمه وإن حصل بيننا بعد ما كبُرت شد وجذب بسبب اختلاف الرأي، ولكن لا تمر سويعات أو أقل إلا وقد أرضيته وأضحكته، وكنت منذ الصغر رفيقه في الأسفار خارج الرياض، وخارج المملكة..

على الحمار، والناقة، وسيارة حمَّالي، والماك، والأيف، والقطار، والطائرة، وكان أكثر اليوم الذي توفي فيه يدعو لي.

ومرة كان والدي مدعوّاً للغداء من أحد أرحامه، وقدَّموا قبل الغداء لبناً يمزجونه بكثير من الماء؛ لكثرة الناس؛ فانسللتُ إلى لبن لم يُخلط بالماء بعد، وأفرغت منه كأساً؛ فانسللت إلى الوالد، وأخذت الكأس منه بالقوة، وأعطيته الكأس الذي جئتُ به..

وكان يرقبني؛ فاغرورقت عيناه من الدمع؛ لهذا البِرِّ على صِغَر سني.

قال أبو عبدالرحمن: قلت: جزاك الله خيراً يا شيخنا، ولكنني أراك متأثراً بكتيِّب (العققة والبررة) لأبي عبيدة معمر بن المثنى؟.

قال: ما برهانك؟.

قلت: برهاني أشجانك أولاً، وقولك: (عليك أبا عُقيقة فاختبره)؛ فقد وجدته تصرُّفاً في البيت الأول من البيتين اللذين قالهما إسحاق بن إبراهيم الموصلي يمدح أبا عبيدة ويذم الأصمعي، وذلك قوله:

عليك أبا عبيدة فاصطنعه

فإن العلم عند أبي عبيدة

وقدِّمه وآثره عليه

ودع عنك القريد ابن القريدة

قال شيخنا: كذب الموصلي الشعوبي الفارسي؛ وإنما مدح أبا عبيدة لشعوبيته العفِنة، وهو لا يرقى إلى مرتبة الأصمعي سَعةَ روايةٍ وصدقاً، ولا آمن أنه أراد بالقريدة العرب؛ لأنه لا شهرة لوالدة الأصمعي رحمهما الله، ولا ريب أنني تصرفتُ في البيت الأول؛ لأن أبا عبيدة مطابق وزناً للكنية التي اخترعتها، وهي أبو عُقَيقَة، ولست متأثراً بهذا الكتاب في أشجاني وإن كان يعجبني ما أورده من قول موسى بن جابر في ابنه العاق (الخُنَافِر)؛ ففيه بيان أثر المرأة القبيحة في التربية العفنة:

فذلك من لا يستحي من خِزَاية

وبعلُ الإماءِ وابنُهنَّ الخُنافرُ(14)

وأما أن أشجان ذلك الكتيب غير أشجاني؛ فلأن ذلك الكتيب يشتكي عقوق الأبناء بعدم المساعدة في الشدائد، وبعدم النفقة، وباعتداء أحدهم على أبيه بالضرب؛ فأما الأولى فليس لبطة أهلاً للشدائد، وأما الثانية فلستُ بحاجته في نفقة، فتقاعدي يكفيني، ويكفي زوجتي، وخادمة تخدمنا لو كنتُ مقطوع الصيحةِ؛ فكيف وأنا بين أولاد بررة من الزوجة الثالثة، وزوجة صالحة مع كثرة القريب والصديق المواسي..

وأما الثالثة فهو أعجز من العجز، ولو تبايعت معه بالأرواح على الرغم من شيخوختي لعمَّقت أنفه في الرَّغام..

ولقد أدركني يا أبا عبدالرحمن الكَلَال والإعياء فاتركني أرتاح، واستودعك الله غير مشْنوء، واذكر بخير شهرزاد لما أدركها الصباح وتركت الكلام المباح، والله المستعان.

وكتبه لكم

أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري

عفا الله عنه

*******

* (بفتح اللام والباء الفوقية الموحَّدة والطاء المهملة، وضم العين المهملة وفتح القاف الأولى والثانية)

الهوامش: 1- إذا كان الكلام مستأنفاً حسنت علامة النقطتين الأفقيتين، لأن ما زاد على النقطتين للحذف، فتكون النقطتان لقطع العطف بالاستئناف.

2- إذا كان الثاني من الحرف المشدد منوناً فالأفضل أن تجعل على الشدة سكوناً، ويغني عن الفتحة التنوين.

3- يصلى عليها ويسلم استقلالاً وإن لم تكن نبية، لأن الله أوحى إليها، وهي من المصطفيات، وأم نبي في كفالة نبي.

4- صحيح البخاري/ كتاب أحاديث الأبنياء عليهم الصلاة والسلام برقم 3351 كما في فتح الباري 7-641 بتحقيق البراك، والفارابي، وانظر المصدر السابق 9-404 كتاب المغازي برقم 4720.

5- المصدر السابق 4-529 كتاب الحج برقم 1601.

6- المصدر السابق 7-641 كتاب الأنبياء برقم 3354، و 16 - 418 كتاب التعبير برقم 7047.

7- المصدر السابق 4-419 - 420 كتاب الأنبياء برقم 3355, و 13 - 421 - كتاب اللباس برقم 5913.

8- انظر مثلاً جوامع السيرة للإمام ابن حزم رحمه الله تعالى ص 19 دار الجيل ببيروت، ومكتبة التراث الإسلامي، وهو تلخيص لما في الأحاديث الصحيحة من صفته صلى الله عليه وسلم وفقما صح عنده، وهو صلى الله عليه وسلم يطول أحياناً إعجازاً كما قال الإمام ابن حزم رحمه الله في صفته في سياق الكلام عن معجزاته ص 11: (وكان صلوات الله وسلامه عليه نحو الربعة، فإذا مشى مع الطوال طالهم)، فإن صح الخبر فهو وصف غير ملازم، وإنما هو إعجاز، كما أن أطول الطوال من أمته لا يصل إلى طول إبراهيم علهما الصلاة والسلام، لأنه قريب عهد بعاد وثمود، وكانوا أضخم أجساماً، وأبعد طولاً، وكان طول آدم عليه السلام ستين ذراعاً، وما زال الخلق ينقص حتى استقر على ما هو عليه في أمة محمد صلى الله عليه وسلم (أمة الاجابة، وأمة الدعة)، وقد صح بذلك النص الشرعي القطعي.

9- الضم على الحكاية.

10- سعد الله حضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم بنو سعد بن بكر من هوازن، وهم أقل وأشرف.. وجذام بن عدي من كهلان من قحطان، وفيه أيضاً بنو سعد، وهم أكثر.

11- منهجي إيراد علامات الترقيم إذا كانت متوالية.

12- ههنا لا توضع النقطتان الرأسيتان، لأن حرف النداء والمنادى جاء ضمن القول منذ (يرحمك)، فلا تنبيه بالنداء هنا كما سيأتي بيانه إن شاء الله.

13- جرت عادة الكتاب أن يضعوا بعد المنادى فصلة هكذا (،) وهذا خطأ، بل يوضع نقطتان قبل النداء؛ لأنه قول للتنبيه.. ونقطتان بعد النداء؛ لأن القول المقصود يأتي بعده.

14- انظر العققة والبررة ضمن نوادر المخطوطات 2- 393، ومثله ص 389 عن خليبج بن منازل بن فرغان، وقد عق منازل أباه، فعقه ابنه خليبح.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد