Al Jazirah NewsPaper Thursday  18/09/2008 G Issue 13139
الخميس 18 رمضان 1429   العدد  13139

قـصة قصيرة
شفاه الفجر..
عبدالمؤمن القين

 

تكتظ شفاه البحر بوجد أشرقت عليه الشمس أملاً باسماً يهزم كل أمل جريح.. وحينها تلثم شفاه الفجر الحق الذي جرّ الباطل أذياله أمامه وغاب في اللامعنى.. فكم أطبق بمخالبه على خيرية النفس المؤمنة، فهو يرى فيها فريسة سهلة وضعفاً ينهار أمام بطشه.. لكن هيهات للباطل أن تكون له الغلبة مهما كانت صولاته وجولاته!!

تكتظ شفاه الفجر بوجد غير محدود العشق للحياة.. والأمل.. للتفاؤل، رغم (وكسته) في الدروب.. فليس المنطق عنده أن يعيش صاحبه في واقع مزيف برّاق.. لكن منطقه أن يظل صاحبه على سجية لا تكلف فيها ولا تصعير خد للناس.. سجية تأخذ مبادئ القوة من نصرة الضعيف لا من الاحتماء بالقوي والركون إليه، وإن كان ذلك لدى أصحاب المروءة منشوداً ومرتقباً. وليس أبلغ من بيان أن القوة بالضعيف هي نصر ورزق من الله عز وجل، حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يحثّ فيه على مؤازرة الضعفاء قائلاً: (فإنما تنصرون وترزقون بهم).

إن الوجد الذي تكتظ به شفاه البجر يكمن سرّه في التأمل.. تأكل في ماذا؟ في افترار تلك الشفاه عن بسمة وضيئة دافئة مخضلة بحنان متدفق كالذي تمنحه الأم لابنها الرضيع.. وعندئذ يأتي الفوز بالعمل الصالح ليكون منجاة لصاحبه من السوء.. أليس هذا بتأمل تتهادى أمامه (استباقات) الحمقى ذوي الخطى الخرقاء؟ لكم تمزقت صفحات دفتر الأيام بأيدي هؤلاء! لكن انتصاف الشمس في كبد السماء أعاد ترتيبها وأوضح مضمونها، فلله درّ ضيائها الرائع!!

أيها الوجد كم كنت شائهاً وأصبحت اليوم واضحاً.. ترمي ينهاك نحو الحقيقة وتسبر أغوارها فتصل إلى برّ أمانها.. لم تفقد القدرة على الاحتمال في سبيل الوصول إلى هذه الحقيقة، ولم يتكلم كثيراً أصحابك بل ربما كانوا مثل المهاتما غاندي الذي كان الصمت (مجنه) لمعرفة الحقيقة.. والصمت والكلام فيك أيها الوجد يأتي كل منهما في وقته نابعاً من الإيمان بالله أولاً وقبل كل شيء، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت). وهكذا نجد (الخير) مقياساً للكلام وجوهراً له، فلا غيبة ولا نميمة ولا نهش في أعراض الناس ومثالبهم وعيوبهم.. والأوْلى أن يشتغل المرء بعيبه لا بعيوب الناس، تبعاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس).. والفرق واضح، فالجنة لمن اشتغل بعيبه وأصلحه، وهو ممن يبتسم الفجر له!!

إن أشجان الوجد مهما تكاثفت فهي لا تساوي شيئاً أمام لحظة صفاء وصدق مع النفس.. فالصدق يرقى بصاحبه إلى درجة الصدّيقين.. لا مواربة ولا مداهنة فيه، بل هو لحمة الحقيقة وجوهرها حينما تضيء به.. لا بالكذب والافتئات والادعاء.. ينشر في النفس الرضا والقناعة.. وليست هذه السطور وعظاً بالصدق وقيمه في حياة الإنسان، بل هي إضاءة لمن يريد أن يرحم نفسه من العناء والعناد معاً.. دليل لمعرفة ماهية الصدق الذي يعتبر ميزاناً للتقوى، كما قال عز وجل {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }(33)سورة الزمر.. وماذا يتقي هؤلاء؟ إنهم يقون أنفسهم من النار وتكون نتيجة صدقهم تكفير أسوأ ما عملوا {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}(35) سورة الزمر.

وإذا كان وجد الإنسان يحتم عليه - أحياناً- أن يلبس أردية مختلفة فليس معنى ذلك أن يشبه هذا أو ذاك، بل لأن هذا أو ذاك لا يفهمه إلا بطريقة وجده هو، وهذا نوع من (التعايش) مباح ما دامت التقوى عامرة قلبه، يقول تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ}

(28)سورة آل عمران.. والتحذير في الآية سببه لئلا ينغمس المؤمن في حياة الكافر فيصبح مثله. إن الليالي الربد حينما تخص وتعمّ يتشرنق الوجد بدماء الخاص والعام فيها ويتحول لونه إلى أحمر قان.. هو ليس شائهاً هنا فمقياس الظلم يعلو فيه على مقياس الإنصاف ليس إلا!! ولقد نوه الشاعر عبدالمحسن الكاظمي بهذه الليالي قائلاً:

قل لليالي الرُّبد خصّي

ما تشائين وعُمّي

فقد استوى الأمر عنده في معاناته التي أحاطت بغربته وفقره.. ولكي يأخذ العدل مجراه لا بد من مرور وقت طال أم قصر لتندكّ حصون الظلم تحت وهج العدالة التي تنصر الحق ولا تخضع للكذب والبهتان.. والمسألة مسألة وقت كما يقال وهذا الوقت خاضع للقدرة على الاحتمال التي تأبى على نفس صاحبها بكيل الصاع صاعين ليقلب الحقائق ويخضعها لميزان الكذب لا الصدق والسموّ به إلى آفاق اليقين.. ولذلك يقول الشاعر:

أنا من أناس كلهم

بدر ولكن عند تِمّ

كرموا ولما يلبسوا

لأعدائهم جلباب لؤم

وقد يتساءل المرء ما هو الوجد الشائه؟ فيمكن القول إنه التشبث بأمل الفهم لدى من لا فهم عنده.. بل النزق والطيش هما ديدنه والسخرية هي طبعه.. تمتد يد نزقه وطيشه لتمزّق أجمل صفحات دفتر الأيام.. ولا يكتفي بسخريته قولاً فقط بل يمد لسانه استهزاء بما حوته تلك الصفحات من معاناة عمر.. وحينما يقول له الطرف الآخر: إنني أحبك.. غاضاً طرفه عن إساءته على أمل أن يشعر به لكن هيهات!! فذلك هو الوجد الشائه الذي يرتسم في آفاق الحب خطوطاً لا تبين وألواناً متراكبة ليست كألوان الطيف السبعة بأي حال من الأحوال. إن أعماق الذات تصبح حينذاك قاعاً صفصفاً.. ثخينة الجراح نازفتها، لا تقف دماؤها لتلتئم جراحها الغائرة.. بل تظل مفتوحة الفوهات لا أمل في التئامها.

ولكن يبرز السؤال: هل من أمل جديد يطل على الوجد الجريح؟ نعم إنه حقيقة الانتفاع لا الفقد الذي اغتال ذلك الوجد.. ولكي تكتمل المنفعة هنا لا بد أن تكون الضريبة طرفاً في القضية.. وهذا منطق إنساني قبل أن يكون منطقاً اقتصادياً.. (فأنسنة) الوجد هي أنسنة الوجود كله، تعترف بخيره وشرّه وتتعايش مع منطق الأشياء فتخاطبها -أحياناً- بلغتها حتى تبدو وكأنها تعبر الزمان والمكان في سياحة عبر الكون عائدة إلى الماضي تارة وحاضرة في الحاضر تارة ثانية ومستشرقة المستقبل تارة ثالثة.. وليس أجمل من أن ترتدي الأنسنة ثوب العفوية والصراحة والصدق والوضوح، لتسمو ليس فوق الكذب والافتئات فقط ولكن لتعيش حالات من الرضا لا ينضب معينها، حالات من الحب الحقيقي مع رمز الحب نفسه، ذلك الرمز الذي يفكر ألف مرة في قوله، لا يجرح مشاعر الآخرين ولكن يهديها أملاً جديداً للنهوض.. فهي لم تكن ميّتة بسبب بلادة الإحساس بقدر ما تخضع المسألة نفسها لظروف خارجة عن إرادتهم. قال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}(122) سورة الأنعام.. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}(243)سورة البقرة.

إن التماس العذر للآخرين من شأنه ترسيخ الحب بيننا وبينهم في وجد متألق الإشراق، محاط بإلهامات فيوض الله عز وجل ذي الفضل والمنة والثناء الحسن، وما توفيقي إلا بالله.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد