Al Jazirah NewsPaper Tuesday  23/09/2008 G Issue 13144
الثلاثاء 23 رمضان 1429   العدد  13144
يا بَحرُ رَاضَكَ قَاهِرُ الصَّحراءِ
د. حسن بن فهد الهويمل

تمر بي هذا اليوم ذكرى (اليوم الوطني) وأنا أنقب في رفوف مكتبتي، لعلي أبلغ الأسباب، أسباب نشوء الدول وسقوطها، في ظل أضغاث الأحلام (بنظام عالمي جديد) أو (بعولمة شاملة) تدمر كل شيء أنت عليه.

وكم جالت في الذاكرة مثل هذه الدراسات التي تتقصى سنن التداول والتدافع والدورة التاريخية، وأحسب أن أقواها علوقاً في الذهن كتاب (نشوء وسقوط الدول العظمى) ل(بول كيندي) -وتركيب العنوان لا يقبله النحاة لتفريقه بين المتضايفين- وكتب أخرى ذات نوازع دينية ك(أسباب هلاك الأمم) ل(عبدالله التليدي) أو ذات نوازع أخرى متعددة، ومن قبل هذه كلها (سد تطور الأمم) للعالم الفرنسي الشهير (غوستاف لوبون) ت 1931م الذي ترجم قبل تسعة عقود وفيما أنا ألوب الحقول المعرفية عثرت على القصة الكاملة للزيارة التاريخية التي قام بها الملك (عبدالعزيز) رحمه الله إلى مصر عام 1365ه - 1946م. وتذكرت معها القصيدة العصماء التي أبدعها المفكر العربي الكبير (عباس محمود العقاد ت 1964م) بهذه المناسبة، وإذ بالتداعيات تجلب إلى الذاكرة قوله:

أسد العرين يخوض غيل الماء

يا بحر راضك قاهر الصحراء

وإذ بي التقط العجز ليكون صدراً لمقالي عن تلك المناسبة الوطنية، المحببة إلى كل من نعم برغد العيش، واستظل بوارف الظلال، واغتبط بوافر العطاء، في وطن أعطى لأبنائه الكثير، ولم يظفر منهم إلا باليسير.

و(العقاد) بما وهبه الله من معارف وقدرات، لا تخطئ نظرته، ولا يخيب ظنه، لقد بهرته شخصية الملك عبدالعزيز، ووجد فيه ضالته، حين صحبه في رحلته إلى مصر، ضمن بعثة الشرف التي رافقته على ظهر اليخت الملكي (المحروسة)، وقصة الرحلة، وخلفياتها، ومقابلة الملك عبدالعزيز لأبرز شخصيتين عالميتين: (روزفلت) و(تشرشل) في مصر تحتاج إلى مزيد من الأحاديث المستفيضة، لتفكيك بنية الحدث الأهم في تلك المرحلة، وتجلية المنطويات، متى عُلم أنَّ العالم لما يزل يعيش مخاضات تلك الحقبة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.

والعقاد من قبل مغرم بشخصيات العظماء، ولقد شد عضده في سبر أغوارهم واكتشاف مواهبهم وعوامل تألقهم (المذهب النفسي في النقد) الذي تبناه من قبله (لوبون) فكان أن أنشأ العبقريات التي شغلت الناس، وأثارت فضولهم، واضطربت فيها آراؤهم، وقصيدته ومقالاته التي كتبها في أجواء هذه المناسبة تنحو هذا المنحى التحليلي.

والعقاد ليس صحفياً تصرفه المناسبات، بل هو المفكر العميق التفكير، والمثقف الواسع الثقافة، والعالم الغزير المعرفة، والصريح الذي لا تأخذه بالحق لومة لائم، إنه شاهد على العصر، وموثق لأحداثه بصدق وأمانة وصراحة. ولعلنا ونحن نقرأ (اليوم الوطني) ونستشرف مستقبله أن نتذكر ما كنا قد قرأناه من قبل في كتاب (سر تطور الأمم) وبخاصة حديثه المستفيض عن (روح الأمة) وأثر هذه الروح في توجيه أعمالها، وترسيخ دعائمها.

والروح عند (غوستاف لوبون) بمثابة النسق الثقافي أو السمة الغالبة. ولست معنياً بترويض مبالغاته ولا باستدراك شطحاته فالذين ضبطوا النص المترجم ووضعوا الحواشي استدركوا ما يمكن استدراكه، وللمؤلف كتب أخرى عن تجليات الروح في الاجتماع والسياسة والاشتراكية، مثلما كتب عن (روح الشعوب) في كتابه هذا، والذي يعنينا في هذه المناسبة الوطنية تحسس هذه الروح في سياسة المؤسس، وأثرها في تشكل هذا الكيان وتجذره.

فقد يستبق القارئ أشياء قائمة بالفعل، كالشجاعة والكرم والحزم والقوة والعدل، ليقول بدون عناء أو تردد إن (روح الأمة) المتمثلة بقائدها تكمن في الكرم، أو في الشجاعة، أو في القوة، أو في العدل، مجتمعة أو متفرقة، متماثلة أو متفاوتة، متلازمة أو متتالية، وليس على أصحاب تلك الخيارات من بأس، غير أن صفة من هذه الصفات قد تطغى على كل ما سواها أو تسبقها، ثم تغني عن ذكرها، وتكون بمثابة (الروح)، وهذا ما عناه (غوستاف لوبون) ب(روح الأمة). والعقاد الذي استوعب فكر (لوبون) ومنهجه النفسي في عبقرياته، التقط (العدل) و(القوة) في شخصية (عمر بن الخطاب) و(العزم) و(الصدق) في شخصية (أبي بكر) وهذا لا يعني انعدام الصدق عند (عمر)، ولا يعني انعدام العدل عند (أبي بكر) وأحسب أن من حقي -والحالة تلك- التماس هذه الروح المستبدة في مرحلة التأسيس، وحصرها في خصلة متبدية للعيان تتمثل في (التسامح)، فالصفة المحورية حين تطغى على ما سواها تكون بمثابة الروح للأمة، ويقيني أن الذين ينقبون في مسيرة المؤسس يجدون هذه الروح بارزة كأنصع ما يكون البروز، ثابتة كأرسى ما يكون الثبات، غالبة كأقوى ما تكون الغلبة ومن ثم يحق لي أن أقول: إن (التسامح) يمكن أن تكون هي روح الأمة آنذاك، وهي الخليقة التي انطوى عليها الملك عبدالعزيز في معركتي التكوين والبناء.

وسيرته العطرة شاهد على ما أقول، فلقد استمرت معركة التكوين زهاء ثلاثة عقود، عرف فيها خصومه الذين قاوموه باللسان والسنان، وحين دال سلطانهم، أشرب في قلبه مقولة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل مكة: اذهبوا فأنتم الطلقاء، وقول الرسول: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن) فقرّب الخصوم، وأقال عثرتهم، وصاهر بعضهم، واستوزر البعض وأعاد لهم مكانتهم في قومهم، وأثنى عليهم، ورد إليهم ما كان قد سلب منهم، مثلما امتثل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر ربه: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) فلقد نادى (عثمان بن طلحة) وأعطاه مفتاح الكعبة، بوصفه سادناً للبيت، على الرغم من أن العباس بن عبدالمطلب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطنيه يا رسول الله. ليجمع بين السقاية والسدانة، في ظل الصراع القبلي المستمر بين الهاشميين والأمويين، هذه الخصلة الغالية جعلت الروح السائدة هي (التسامح).

وهي الروح التي نحن أحوج ما نكون إليها في ظل هذه الفتن العمياء والتشتت الفكري المخيف، والتنابز المخل بالألقاب والغزو العنيف على كل الصعد.

والملك عبدالعزيز في شأنه كله يجنح إلى التسامح، وما وقف على مفترق طرق إلا اختار أمضاها في التأليف وبث الثقة، لقد قبل أن يكون (سلطان نجد) إرضاء لمن لم يعرفوا الملكية، وأن يكون (ملك الحجاز) إرضاء لمن لم يعرفوا السلطنة. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، وانتهت معركة التكوين، أراد أن يستأنف معركة البناء: بناء الوطن وبناء الذات وكيف لا يكون البناء معركة أقوى مما سواها، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، إن بناء الوطن جهاد أكبر من معركة السلاح، ولقد كان من مقتضيات استئناف معركة البناء أن يوحد الاسم للبلاد والصفة لحاكمها، فكانت (المملكة العربية السعودية) وكان (ملك المملكة العربية السعودية)، ويومها كان (اليوم الوطني) الذي يحتفي به أنجال المؤسس مع أنجال رجاله الذين بذلوا من أجل مشروعه الوحدوي الأموال والأنفس، هذا الكيان شاهد على عظمة الباني وعظمة البناة معه، والوفاء له ولرجاله أن نُهْدَى إلى القول السديد والعمل الشريد، ليسعدوا في قبورهم، ويثقوا بأن الأمانة في أيد قوية حفيظة عليمة أمينة: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}.

إن الوفاء للوطن ألا نكتفي بإضمار الحب الجِبِلِّي، بل نترجمه بالأقوال والأفعال: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}كما أن الشكر قول يؤيد بالعمل: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا}، فالحب الحق أن نحمي الساقة ونرود في المقدمة وإن نجتنب ما يسيء للمحبوب في وحدتيه: الفكرية والإقليمية وسائر قيمه الأخلاقية والسلوكية فالراشي والمرتشي، والغاش والمطفف، والضال الفكر، السارق من بيت المال، والمتهاون بالحقوق والواجبات، والمواطئ على الخطيئات، والمستغل لمنصبه، والمعطل لحاجات الناس، والمشيع لقالة السوء، والمروج للشائعات، والجشع والمحتكر والمتلاعب بالأسعار، والمبذر للأموال العامة، والمعطل للمشروعات المهمة، والمسكون بالإقليمية البغيضة والعصبية المقيتة، والمتستر على العمالة، والمستغل لثغرات النظام، والمؤوي للمحدث، والسلبي الذي لا تهمه المصلحة العامة، والمصدع للوحدة الفكرية، والموالي والمداهن، المعطي الدنية في الدين. كل أولئك وإن جاهروا بالمحبة، وتغنوا بالأمجاد، ليسوا مواطنين إلا بالهوية، إذ قد يكون البعض منهم محباً لوطنه حباً جِبِلِّياً، وفي الحديث حين لعن بعض الصحابة شارب الخمر لتكرار فعله (لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله)، ونفي المواطنة عن مثل هؤلاء نفي أدائي لا نفي انتمائي، كما في الحديث: (من غشنا فليس منا)، وكيف يَشرفُ الوطن بهذا الصنف من الناس وهم يعرضونه لخلل الوحدة الفكرية والإقليمية التي هي ترجمة عملية لليوم الوطني.

إن هذه المناسبة السعيدة لكي نتخطى بها الشكليات والثناء الزائف يجب أن تكون لحظة مراجعة ومساءلة ومحاسبة للنفس، ماذا قدمنا؟ وماذا يجب أن نقدم لهذا الوطن في ظل هذه الظروف العصيبة؟

إن نعماً كثيرة أسبغها الله علينا تحتاج إلى تقييد، لكيلا نقع في محيط: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ}.

والمناسبات السعيدة لكي تكون إيجابية لابد أن نتفادى الوقوع في الإفراط أو التفريط بحيث يتنازع الفُرَقَاءُ حول طرفي قصد الأمور، فيكون الفشل وذهاب الريح.

ومن أشد الظواهر فداحة فهم الأشياء على غير مراد المشرع، فمن أراد الوطن بلا هوية لم ينفعه الاحتفاء المؤقت وأُسُّ الهوية العقيدة السليمة، وما أكثر الذين يتيمهم الحب ثم يرضون بتناغم المتناقضات واختلاط النسك بالخلاعة واتباع ما تشابه (ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله)، ومن أراد الوطن بهوية انعزالية حرمه من التفاعل الإيجابي، وما أكثر المثاليين الطوباويين الذين يحلمون بالمستحيل فَيُفَوِّتُون الممكن، إن بعض الخطابات المتعالية تريد لهذا الوطن أن يقتاد العالم بعصا موسى، وتحتم تطهير الأرض من أدرانها، وإكراه الناس على الدخول في الدين كافة وإشاعة العدل والمساواة، وحقن الدماء، ورد المظالم، وفتح مغاليق السجون، وكأن أمره بين الكاف والنون، وتلك مغامرة طائشة وتخيل مستحيل؛ فالمؤسس الذي نحتفي بخطوةٍ رائدةٍ من خطواته لم يكن حالماً يعد ب(المدينة الفاضلة) ولا مغامراً يكلف وطنه فوق وسعه، بل هو الإنسان السوي الواقعي الذي انشقت عنه الصحراء ليكون ابنها الذي تتهادى بين يديه في طريق الخلوص من الثالوث البغيض ومستلزماته، والأقربون أولى بالمعروف، وعلينا أن ندع العالم من أحلامنا ولو إلى حين، فما أحوجنا إلى استعادة روح التسامح والواقعية.

{ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا}



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5183 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد