من المتداول في الذهنية العامة أننا عندما نقرأ التاريخ ونحاول معاينة تفاصيله ووعي معطياته، فإنّما نفعل ذلك انطلاقاً مما يوفره التاريخ لنا من فوائد جمّة وعبر عديدة ذات بُعد وعظي، وهذا ولا ريب له وجاهته من الصحة..
.. لكن ثمة لوعي التاريخ وفهم معالمه فوائد أخرى على قدر عال من الأهمية في مسائل استشراف المستقبل وتحسس اللاحق الزمني والتعمق في وعي العلوم وفي مسائل التربية والإبداع والتجديد، أذكر جزءاً منها من خلال النقاط التالية:
- المجتمعات الراقية والشعوب المتحضرة تتعاطى مع التاريخ باعتباره وسيلة للتوجيه وأداة للتربية إذ تحيل المعطيات الإبداعية التي أنتجها الأسلاف الأوائل إلى أدوات حاثة على التسامي وحاضة على العطاء اللامتناهي - وهذا إذا جرى على نحو ناء عن المبالغة المفرطة والتهويل اللاموضوعي والقراءة ذات الملامح الوجدانية - يعتبر أمراً مرحباً به، وفيه فائدة عظمى لمن رام المنفعة، ثمة تباين رحب بين القائمين على شؤون التربية من مربين ومعلمين وآباء في التعاطي مع ما يعتبر مصلحة معرفية وأخلاقية، فشريحة منهم تعتمد تلك الحصيلة للتدليل على المهارة الفائقة للأوائل والانحطاط اللامتناهي للأواخر ونمط آخر يتوسلها لتربية النشء على التسليم الانقيادي والإذعان لعادات وتقاليد المجتمع والتكيف مع الواقع المتعيّن على الأرض، بينما ثمة شح في عدد أولئك الذين يوظفون المستخصلات التاريخية في دعم الوعي وإيقاظ الذهن وتمتين الحس النقدي والحض على معانقة قمم الإبداع، ويبدو أنّ الباعث على محدودية هذا الضرب من التربية والتعليم يرجع إلى أننا حين نباشر قراءة التاريخ لا ننتظر منه أن يفيدنا في وعي راهننا وفهم معالمه والارتقاء به إلى الأفضل، إنّ السواد الأعظم من شبابنا يمضون أوقاتهم منصرفين إلى تلبية الرغبات الآنية غارقين إلى آذانهم في هموم توفير المتطلّبات الضرورية وجملة غير قليلة منهم تسيطر عليهم الحيرة فهم حائرون في شؤونهم وفي مستقبلهم! ومن الإيجابيات التي يؤمنها التاريخ حين يُدرس بآلية صحيحة أن يعين الفئة الشبابية على الانفصال عن الواقع وينتشلهم من الغرق في مستنقعاته، ويحررهم من أسر قيوده إنه لا بد أن ندرس مع التاريخ فلسفته وفقهه وأن نولد الأسئلة والاستفهامات المتتالية حول أسباب وقائعه وتفاصيله ونبحث عن البواعث والجذور الأساسية الضاربة في الأعماق، ونحاول تلمس سنن الباري - جل وعلا في الاجتماع الإنساني. حينما يجري تعليم التاريخ وتدريس مفرداته بهذه الطريقة فإنّ هذا يضاعف درجة البصيرة لدى المتعلمين ويمنحهم الأدوات التي تمكنهم من انتقاد الواقع وتقييمه مع التحلي بقدر كاف من الممانعة والتطبع بفضيلة التأبي.
- التأمل في بنائنا العرفي يوقفنا على قصور ملحوظ لا يعزب عن عين الناقد البصير يتجلّى ذلك في إهمال تاريخ العلوم وعدم الجدية في اكتشاف الأبعاد المقاصدية للتشريع فضلاً عن التقصير الجلي في التعرُّف على سنن الله في الخلق والتقصير في معرفة طبائع الأشياء وخصوصاً الطبيعة البشرية. إنّ العلوم الإنسانية والعلوم المحضة كذلك تُصدّر للطلاب مبتوتة الصلة من جانبها التاريخي فتتمرأى للدارس وكأنها تخلقت منذ البداية على الصورة التي عليها الآن، حيث لا يتوفر لدى الدارسين معرفة متكاملة بتاريخ نشوئها ولا المراحل التي مرت بها، كما لا يدركون شيئاً ذا بال عن العلماء العظام والرجال الأفذاذ الذين كانت لهم بصمات جلية عليها. إنه من المؤكد أنه لن يتسنّى لنا فهم أي علم ولن يتيسر لنا وعي محتوياته وبشكل مؤصل إلا بشرط إدراكنا لتاريخه وفهمنا لخارطة تكوينه وتحولاته، إن التقدم العلمي لن يكون بمقدورنا تجسيده من غير معاينة المراحل السالفة والسابقة لعلومنا، إنّ اطلاعنا على تاريخ العلوم تمنحنا معرفة إضافية بأسباب الاجتماع والعوائق التي تقف في سبيله وتمكننا من معاينة الأشياء من عدّة زوايا، كما أنها تتيح المزيد من المرونة الذهنية.
