Al Jazirah NewsPaper Thursday  25/09/2008 G Issue 13146
الخميس 25 رمضان 1429   العدد  13146
شيء من
التاريخ عبرة أم قوقعة؟
محمد بن عبداللطيف آل الشيخ

أن تعتبر بالتاريخ وأحداثه، وتجعل من تجاربه مشعلاً يُنير لك الحاضر، وتحاول أن تستشرف المستقبل من خلاله، معنى ذلك أنك تمارس عملاً صحياً وصحيحاً؛ فالتجربة - كما يقولون - هي البرهان الذي لا يعلو عليه برهان. والذي يتجاهل التاريخ، أو لا يكترث به، هو أشبه ما يكون بالإنسان فاقد الذاكرة.

غير أن المشكلة التي يعاني منها بعضنا أنهم حينما يقرؤون التاريخ يتقوقعون فيه، فينفصلون عن واقعهم، وعن متطلبات هذا الواقع، فيكررون دون أن يشعروا قصة أهل الكهف التي وردت في القرآن الكريم، وهي قصة تحمل من العبر والدلالات الكثير.

تقرأ - مثلاً - كتابات بعض الكتاب الإسلاميين، فتلحظ أول ما تلحظ أنها لا تهتم ب(الفوارق) بين ما كان وما هو كائن، وتصر على اعتبار أن ما كان صالحاً للأمس هو صالح لليوم بالضرورة. وكأن الاستفادة من التاريخ يعني أن نعيد الأمس الزاهر، ونفرضه على زمننا، دون مراعاة للفوارق بين الزمنين.

فتجد - مثلاً - من يتحدث عن دولة الخلافة، بشوق وحرقة، وكأن بالإمكان إعادتها، وبعثها من جديد. ولو قرأ واحد من هؤلاء (الحالمين) تاريخ الخلافة العثمانية - مثلاً - قراءة متفحصة لوجد أن سر عظمتها، وقوتها، وسيطرتها، كان في قدرتها على التماهي مع متطلبات الحاضر آنذاك، لا العيش في كنف (الماضي). وعندما عجزت عن المعاصرة ومواكبة المتغيرات، (سقطت) ولم تستطع البقاء. أحد عظماء خلفائها كان (سليمان القانوني 1495م-1566م)؛ هذا الخليفة - مثلاً - يعود إليه الفضل في القوة والعظمة والمكانة الحضارية التي وصلت إليها هذه الدولة؛ حيث وضع نظام دولته على أسس إدارية وقانونية حديثة، جاعلاً من الشريعة الإسلامية المرجعية الأولى لهذه القوانين والنظم، ومستفيداً - في الوقت ذاته - مما وصل إليه علما القانون والإدارة في زمانه. ولو أن هذا الخليفة كان ذا عقلية (تقدس) الماضي، وتنكص إليه في تشكيل قناعاتها، وتتقوقع فيه، دون أي اعتبار بالحاضر ومتطلباته، لما وصلت هذه الدولة إلى ما وصلت إليه. أن (تعتبر) بتاريخ هذه الدولة - مثلاً - يعني أن تمارس اليوم (الدور) الذي مارسه سليمان القانوني في الأمس؛ أي أن تستفيد من تجربته في (التماهي) مع متطلبات (الحداثة)، فتواكبها، لا أن تتشبث في الماضي، أو حتى الراهن، وترفض التغيير الذي هو أس التطور والتنمية.

كما تلحظ - أيضاً - أن هناك قطيعة بين الواقع الذي نعيشه والحلول الإصلاحية الحضارية المطروحة (من قبلهم)؛ فكل (النظريات) والأمثلة، والشواهد، والأدلة، تبدأ من الماضي، لتستقر في الحاضر، ولا يهم بعد ذلك الفوارق بين ما كان وبين ما هو كائن، ولا يهم - أيضاً - إذا كانت هذه الحلول صالحة للتطبيق اليوم أو غير صالحة، بقدر ما يكون البحث منصباً على مدى صحة أو عدم صحة الشاهد والاستدلال من الناحية الثبوتية، وعندما تتوفر أركان الإثبات لهذه الأمثلة والشواهد، وتكون واقعاً في (الماضي)، يصبح استعادتها (اليوم) أمراً لا يرفضه إلا من في قلبه (زيغ) كما يردد البعض. وهذه - في تقديري - إحدى أهم تشوهاتنا الفكرية، التي تشكل عائقاً بيننا وبين التنمية.

وأنا هنا لا أدعو إلى نبذ التراث، وإلقائه في سلة المهملات، بقدر ما أدعو إلى الاستفادة من التراث والتاريخ بفهمه وتفهم ظروفه آنذاك، والاقتداء به في تجاربنا الحياتية، ولكن انطلاقاً من (الواقع) ومتطلبات هذه الظروف، وليس باستحضار التاريخ والتقوقع فيه، وكأننا نعيش مع أجدادنا في ظروفهم وبيئتهم. هذا كل ما هنالك باختصار شديد.



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6816 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد