Al Jazirah NewsPaper Friday  26/09/2008 G Issue 13147
الجمعة 26 رمضان 1429   العدد  13147

بماذا نُتْبع رمضان؟
د. محمد بن سعد الشويعر

 

بالأمس استقبل كثير منا دخول رمضان، بالفرح والسرور، رغبة في نتائج الفرص المتاحة فيه، لأنه شهر عبادة هيأ الله فيه لعباده القائمين منحاً وعطايا، ويسر فيه ما يعينهم فيه بالطاعات قوة في الأبدان وهيأ للعبادات: ذكراً لله وتلاوة القرآن الكريم وقياماً في الليل وإعانة على الأعمال الطيبة بجميع الحواس: فالعين تكف عن المحرمات، واللسان يقف عن الدنايا وما يكتب

على المرء من سيئات، والبدن يمتنع بزاجر إيماني عن الموبقات، وكل جارحة فيمن أعانه الله، تحفظها قدسية هذا الشهر عن الاقتراب مما يغضب الله، لأن الله سبحانه جعل في الصوم (جنة)، يعني وقاية وحراسة تتنافى مع مكانة هذا الشهر.. ولذا كان جزاء الصائم المؤدي لحق الصيام على الوجه السليم، عند الله عظيم، يقول سبحانه في حديث قدسي: (الصوم لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي).

وقد خصص الله للصائمين باباً في مشهد من مشارق يوم القيامة ينادى عليهم: أين الصائمون؟ فإذا تتابعوا أقفل ولا يدخل معهم غيرهم.. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

والناس إذا أتموا شهر رمضان، على درجات: فمنهم المؤدي لحق هذا الشهر بنفس راضية وقلب مطمئن فهو محب للزيادة بعد ما ذاق طعم الإيمان وأنس بالقيام والصيام في شهر رمضان فهو يرغب المزيد.

ومنهم من كان لاهياً قبل رمضان، فوفقه الله وأعانه على نفسه في هذا الشهر ولعلها فاتحة خير له بالتوبة النصوح، فنرجو لمثل هذا أن يكون أنسه بشهر رمضان، وراحته بما قدم فيه معيناً له على المواصلة، لأن من أحب شيئاً داوم عليه، ومن أنس بعمل ومصاحبة أهله رغب فيما يديم هذا الوصال.

ومنهم المسرف على نفسه المقصر في حق الله، فإن في معاشرة أهل الخير في شهر رمضان فرصة للاقتداء والثبات، كما يقول الشاعر:

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم

إن التشبه بالكرام فلاح

والمخالطة تؤثر، فجلساء رمضان جلساء خير وما فيه من الأعمال تعين على الخير والمسلم يرجى له الخير أينما كان لأن الجوهر بحمد الله ثمين، والأساس قوي ومتين، وكما وصف المؤمن بأنه: كالتمرة طعمها حلو، وكالريحانة ريحها طيب.. ولمكانة رمضان.. فقد كان بعض السلف يدعون الله ستة أشهر بأن يبلغهم رمضان، فإذا خرج رمضان صاروا يدعونه ستة أشهر بأن يتقبل منهم رمضان.

ولما كان رمضان محبوباً عند كل مسلم، فإن من أحب شيئاً داوم عليه، فيأتي بعد رمضان: فرصتان غاليتان: الأولى العيد (عيد الفطر) الذي جعله الله لأمة الإسلام مع عيد الأضحى يأنسون ويتصافون فيهما ويتصدقون ويذكر الله فيهما شكراً على النعمة وتقرباً بالطاعات وبما أباحه لهم، وقد كان الأحباش في المدينة يرقصون ويطربون بما هو مباح فلم ينكر عليهم رسول الله بل كان يساعد عائشة رضي الله عنها في المشاهدة والسماع.

والثانية: بما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورغب فيه بصيام ست من شوال، حين قال: من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال، فكأنما صام الدهر كله).. فسر ذلك بعض العلماء بقوله: الحسنة بعشر أمثالها، صيام شهر رمضان عن صيام عشرة أشهر، وصيام ست من شوال: ستين يوماً، فذلك الدهر.

والمسرف على نفسه، والمقصر فرصة لهما إلحاق عبادات رمضان بعبادات في شوال، حتى يتعود من ذلك على الثبات، واستحباب اللزوم: محبة وطاعة.

والله سبحانه أحب الأعمال إليه من العبادة القليل مع المداومة وحسب طاقة الإنسان حيث يقول في آخر سورة البقرة: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا}. فلما ذكروا التقصير والاعتراف وطلب عدم المؤاخذة بالخطأ والنسيان، قال الله سبحانه: قد فعلت.

وهذا ضمن حديث طويل في أسباب النزول، ذكره ابن كثير والسيوطي وغيرهما في كتب التفسير.

والله سبحانه شديد الفرح بتوبة عبده، حيث شبه ذلك رسول الله بصاحب الناقة التي فقدها وعليها طعامه وشرابه، وهو في أرض فلاة فلما أيس منها نام تحت شجرة فاستيقظ، فإذا هي واقفة بجانبه فقال من شدة: اللهم أنت عبدي وأنا ربك.. غلط من شدة الفرح، فالله أشد فرحاً بتوبة عبده من صاحب الناقة هذه بناقته.

ويجب على كل فرد منا: محسناً أو مسيئاً أن يتمسك بعد هذا الشهر بنفحات رمضان وأن يكون بعد رمضان خيراً منه قبله، وأن يتقوى بما كان منه على الثبات بعد رمضان ولا يكون ممن يسيء على نفسه بعد نهاية شهر رمضان كما روى عن الإمام أحمد عن قوم حرصوا على الصلاة والدعاء والقيام والصيام في شهر رمضان فلما انتهى الشهر رجعوا إلى ما كانوا عليه وغاب عنهم: أن رب رمضان هو رب الأيام والشهور كلها فقال: بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان.

فإذا كان شهر رمضان، بما فيه من تسابق وصيام في النهار، وقيام في الليل، قد هذب النفوس التي أنست بالطاعة وذاقت حلاوة العبادة فإن هذه الحلاوة يجب أن يجاهد الإنسان نفسه للثبات عليها وصاحب الدخان والمخدرات والمشروبات التي تركها في شهر رمضان، وترك شهواته مع الصيام، الذي أعانه الله عليه بنفس صافية وحب للعبادة في هذا الشهر الذي رأى الناس فيه يتسابقون: كباراً وصغاراً ونساء، فإن عدو الله إبليس وأعوانه، قد صفدوا في هذا الشهر فضعف تأثيرهم.. وضيق المجرى الذي يسلكه الشيطان في جسم ابن آدم كما قال صلى الله عليه وسلم: بأن الصيام يضيق المجرى عليه.

ولعل ما أحس به المقصر من نشاط وروحانية في شهر رمضان وحب ومتابعة للأعمال الخيرية: عملاً وتلاوة بالقرآن الكريم الذي جعله الله هداته للبشر لعل ذلك كله مما يثبت عند أصحاب العادات السيئة عزيمة وقوة، بالاستمرار على نبذ ما تقوى على تركه في شهر رمضان.. ليسعد في نفسه ومع أسرته بالتوبة النصوح ويسعد به المجتمع مواطناً صالحاً ينفع نفسه ومن حوله ويفيد في بلده، بعد أن تحول إلى رجل صالح، تائب عما سلف.

ألم يقل سبحانه:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(53) سورة الزمر.

ولذا فإن من اللازم على كل مقصر في توبته وعمله في شهر رمضان.. بأن يعتبروا نور رمضان وما فيه ضياء يمهد طريق الخير ويعين على الاستقامة لتكونوا قد أتبعتم الحسنة بالحسنة وهي التي جعلها سبحانه ماحية للسيئة وآثارها على العباد والبلاد وعلى النفس والله الهادي.

حجام ثرثار:

ذكر ابن عبد ربه في كتابه العقد الفريد، أن السند بن شاهك قال: بعث إلي المأمون بريداً وأنا بخراسان، فطويت المراحل حتى أتيت باب أمير المؤمنين، وقد هاج بي الدم فوجدته نائماً فأعلمت بقصتي وقدمت إليه عذري وما هاج بي من الدم وانصرفت إلى منزلي فقلت أحضروا لي الحجام قالوا: هو محموم قلت فهاتوا لي حجاماً غيره ولا يكون فضولياً، فأتوني به فما هو إلا أن دارت يده على وجهي فقال: جعلت فداك هذا وجه لا أعرفه فمن أنت؟ قلت السند بن شاهك قال: ومن أين قدمت؟ فإني أرى أثر السفر عليك؟ قلت: من خراسان قال: وأي شيء أقدمك؟ قلت: وجه إلى أمير المؤمنين بريداً. ولكن إذا أفرغت فسأخبرك بالقصة على وجهها، قال: وتعرفني بالمنازل والسكك التي جئت عليها قلت: نعم.

فما هو إلا أن فرغ، حتى دخل رسول أمير المؤمنين ومعه كركي - نوع من الطيور- فقال: إن أمير المؤمنين يقرئك السلام وهو يعذرك فيما هاج بك من الدم، وقد أمرك بالتخلف في منزلك إلى أن تفدوا عليه إن شاء الله ويقول: ما أهدى إلينا اليوم، غير هذا الكركى فشأنك به وأشار إليهم بكيفية طبخ هذا الكركى، قال السندي: يصنع كما قال، ثم حلف على الحجام ألا يبرح حتى يتغدى معنا.

فلما طاب المجلس، قال السندي للحجام جعلت فداك، سألتني عن المنازل أو السكك التي قدمت عليها، وأنا مشغول في ذلك الوقت، وأنا أقصها عليك الآن فاستمع - ثم أمر به أن يعلق من العقبين ثم قال: خرجت من خراسان وقت كذا، فنزلت كذا، يا غلام اضرب فضربه عشرة أسواط ثم قلت: وخرجت منه إلى مكان كذا، يا غلام أوجع.. أوجع فضربه عشرة أسواط أخرى، ولم يزل يضربه لكل سكة عشرة، حتى انتهى إلى سبعين سوطاً، فالتفت الحجام إلي وقال: يا سيدي سألتك بالله، إلى أين تريد أن تبلغ؟ قلت: إلى بغداد قال: لست تبلغ حتى تقتلني. قلت: فأنا تاركك على ألا تعود؟ قال: والله لا أعود أبداً، قال: فتركته، وأمرت له بسبعين درهماً. فلما دخلت على المأمون أخبرته الخبر، قال: وددت أنك بلغت به إلى أن تأتي على نفسه (العقد الفريد 8: 134).

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5068 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد