Al Jazirah NewsPaper Wednesday  01/10/2008 G Issue 13152
الاربعاء 02 شوال 1429   العدد  13152
مركاز
موعد أمي!
حسين علي حسين

في الخامس والعشرين من كل عام، كنت أصطحب أسرتي ونذهب سوياً لقضاء الأيام الأخيرة من شهر رمضان وأيام العيد، وكنت حالما استقر في الفندق أذهب إلى منزل العائلة الذي أكلته السنون، نجلس مع الوالدة، نشرب الشاي ونتبادل الأحاديث إذا بقي منها شيء، فقد كنت آخذ الأخبار منها أولاً بأول بواسطة الهاتف، لكن اللقاء المباشر غير لقاء الفضاء أو الهواء، تفرح أمي بزوجتي وبالأبناء، ولم يكن لها من هم إلا إشفاقها عليّ وكأنني طفل صغير، كانت تستكثر ما أجلبه لها من هدايا بسيطة، معللة الأمر دائماً بكثرة أبنائي وقلة مواردي المادية، ولم أستطع في أي وقت إقناعها بأن أموري المادية متوسطة، ولم أصل في أي وقت إلى حد الحاجة أو مد اليد أو السلف.

لكن كل كلامي ومبرراتي كانت تذهب أدراج الريح، خاصة وهي توحي بأن أشتري لفلان من الأبناء كذا وكذا.

حتى ما أجلبه من مواد غذائية لي ولعائلتي ونحن في المنزل كانت تتفقده وتبدي استياءها من التبذير في الصرف على أمور لا تحتاجها ولا تعرفها أصلاً!

كنت أدخل الدار عصر كل يوم لآخذها إلى الفندق، هناك نفطر معا، نصلي نشرب الشاي والقهوة، وحالما يؤذن العشاء كانت تتهيأ للذهاب، كانت تتطير من الأسانسير ما يضطرني للنزول معها على الدرج، درجة، درجة حتى نصل إلى صالة الفندق، حيث تأخذ طريقها مشياً على الأقدام حتى منزلنا القديم، المواجه لقبة الحرم النبوي، خطوتان وهي في الدار، في الدار تجد أمامها بقية إخوتي، تشرب الشاي ثم تأخذ طريقها إلى دار مواجهة لسماع دعاء رمضان، ساعة، ساعتين، تعود بعدها للدار، لتناول كسرة خبز وعلبة زبادي ثم تتوسد يديها وتنام حتى الفجر لا تعرف المرتبة ولا السرير لا تعرف اللحوم ولا الخضار ولا الحلويات على السحور، وجبة المساء محددة منذ سنوات طويلة حتى انتقلت إلى رحمة الله.

هذه الأم كانت تستيقظ فجراً لتجلس أمام الصاج الأسود تخبز قرصان الصباح، تخلطها لنا مرة باللبن ومرة بالمرق ومرة بالمرق الحلو المخلوط بالهيل وفي بعض المناسبات تخلط هذه القرصان بالملوخية، حتى هلَّ علينا الخبز الأحمر أو البر ومعه الخبز الشامي، حتى هذا الخبز لم يدخل إلى منزلنا، مرة تدخله إلى منزلنا صباحاً ومرة مساءً، وهكذا خطوة خطوة حتى رأينا الوالدة تهمل الصاج والعجين، لكنها لم تتوقف عن تربية الأغنام والدجاج في العشة الصغيرة، أمام باب منزلنا، إلا بعد توديع الصاج بسنوات، عندما غزا الأسواق الحليب المعلب والزبادي والبيض والدجاج، حينذاك ودعت العشة إلى الأبد، فغدا الوقت أمامها طويلاً، فزادت مشاويرها للحرم النبوي كانت تأخذ الحصة الممنوحة للنساء كاملة.

كان لونها يشبه لوني تماماً، وهو معاكس للون أبي، أخذت منها حدة المزاج وعدم التردد في اتخاذ القرارات الشخصية والميل إلى طلب الوحدة أو العزلة، لكنني لم آخذ عنها كتمان الأسرار، فأنا مولع بأخذ الأخبار ونشرها، والسعي وراء التفاصيل الجديدة، ما جعلني أنخرط مبكراً في الصحافة، مخبرا فمحررا فكاتبا.. فأخذت من خيرها وشرها بالتساوي!

أخذت منها العديد من الدروس، فقد كانت تنصحني بالبعد عن بعض الأصدقاء والتصرفات، لكنني لم ألتفت إلى كلامها حتى اكتشفت مع الوقت أن رؤيتها كانت أصوب من رؤيتي، ما جعلني أؤمن بأن الخبرة أحياناً تعادل أطناناً من الكتب!

لم أعرف امرأة أكثر جرأة وقوة من أمي حتى قبل وفاتها بلحظات كانت تقول لأخي سلمان: (أعطني قليلاً من الماء، وحالما شربت الماء قالت له: لا تقلق إذا مت.. ولم تمضِ دقائق حتى وافتها المنية...!).

قبل وفاتها كانت بصحة جيدة ولم يتوقع أخي أنها ستصدق في كلامها، إنها إرادة الله أولاً وأخيراً..

حالما يحل الخامس والعشرون من رمضان أفتقد أمي! ولم أجرؤ على الكتابة عن حياتها أو وفاتها قبل سنوات إلا الآن... عذراً.



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5137 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد