Al Jazirah NewsPaper Tuesday  07/10/2008 G Issue 13158
الثلاثاء 08 شوال 1429   العدد  13158
شيء من
الثوابت وسد الذرائع
محمد عبداللطيف آل الشيخ

نحن من حيث البدء دولة تحكم بالشريعة، وهي المرجع الوحيد الذي نحتكم إليه عند الاختلاف. هذه قضية لا خلاف عليها لدى أغلب السعوديين. ولعل أهم سبب من أسباب بقاء هذه الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، يعود إلى قدرتها على المرونة والتماهي مع المتغيرات، وتلمس المصالح، شريطة ألا تتعارض مع الثوابت.

غير أننا مازلنا مختلفين على ما هي هذه (الثوابت).

ولو قرأ أيّ مراقب الحراك الثقافي (الصحي) الذي يدور في مجتمعنا في الآونة الأخيرة، لأدرك بسهولة أن الخلاف بين أغلب التيارات الثقافية في المملكة يكمن في تحديد هذه (الثوابت) التي ترتكز عليها دولة الشريعة؛ بمعنى أن حوارنا يفتقر إلى إيجاد معايير دقيقة، واضحة، من خلالها نستطيع أن نحكم على هذا الأمر بأنه (ثابت)، وعلى آخر بأنه (متغيّر)، ويجوز بالتالي إعمال البحث فيه، وتغييره أو تعديله، إما لخدمة مصلحة راجحة، أو لدفع مفسدة محتملة.

التيار المتشدد، أو المغالي، يُحاولُ -ما وسعه ذلك- أن يمد من رقعة هذه الثوابت في كل الاتجاهات، ويضم إليها رؤاه، واجتهاداته، وتخرجاته، بالشكل الذي يجعل منطقة (المسموح) محصورة في أشيق نطاق. ليس ذلك فحسب، وإنما يحاول أن يتلمس الأسباب والحجج، حتى بليّ أعناق النصوص، أو تفسيراتها، أو تأويلها، لإخضاعها في النتيجة إلى أن تكون في المحصلة من (الثوابت)، التي -كما يقولون- لا يرفضها إلا (زائغ).

تعود إلى معنى (المباح) شرعاً فتجده: (ما لا يُثابُ المسلم على فعله، ولا يُعاقبُ على تركِهِ). وقد اتفق الفقهاء على أن الأصل في الأمور (الإباحة). غير أن هناك الكثير من الممارسات التي ضيقت من نطاق المباح، وأدخلته في نطاق المحظور؛ وأهم هذه الممارسات الإفراط في إعمال قاعدة (سد الذرائع) على اعتبار أن (للوسائل أحكام المقاصد)؛ ولأن الوسائل تقديرية، وغير محكمة، وتختلف فيها الاجتهادات والرؤى، وتفتقر إلى (النص) الواضح المباشر الذي يُبين حكمها، أصبحت هذه الوسائل هي ذاتها (وسيلة) لتضييق نطاق المسموح، أو المباح؛ ومع الزمن ارتقت (مخرجاتها) لتصبح من (الثوابت).

ولعل أقرب مثال على ذلك قضية (الاختلاط)؛ فالمبالغة في رفضها أفضى إلى تعطيل عمل المرأة، ومصادرة حقوقها، وقدرتها على أن تتلمس رزقها؛ وقد ارتقى البعض بهذه القضية (المختلفة) إلى أن جعلها من (الثوابت)، رغم أنها تفتقر إلى (النص) الواضح الذي يدعم حرمتها. وهذا ما ينطبق - أيضاً - على قيادة المرأة للسيارة، أو بصورة أدق: (حق المرأة في الحركة).

ولا يمكن أن تكون الأحكام التي نتجت اعتماداً على قاعدة سد الذرائع (ثوابت) وإنما هي (متغيرات)، تتغير حسب مقتضيات المصلحة؛ يقول ابن تيمية - مثلاً-: (النهي إذا كان لسدّ الذريعة أبيح للمصلحة الراجحة)؛ ويقول القرافي: (قد تكون وسيلة المحرّم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة). ويقول ابن القيم: (ما حرم للذريعة يباح للمصلحة الراجحة). معنى ذلك أن ما تم تحريمه سداً للذرائع مسألة (متغيرة)، أو هي على الأصح: (تقديرية) مرتبطة بتقدير المصلحة وتغيّرها؛ فكيف -بالتالي- يعتبتر بعض الغلاة (مُخرجاتها) ضرباً من ضروب (الثوابت)؟.

وأغلب خلافاتنا مع التيار المتشدد تتمحور حول القضايا التي يرفضونها (سداً للذريعة)؛ فإذا كانت هذه القضايا مسألة تقديرية؛ فهي بالضرورة المنطقية لا يمكن أن تكون من الثوابت.

مما تقدم يتضح أن الثوابت (تنحصر) فيما نص عليه الشارع من أحكام (قطعية)، والتي لا تتغير بتغير الزمان، أو تقلبات المصلحة، ولم تنشأ سداً للذرائع، ولا تحتمل إلا القبول، كما أنها لا تخضع للرد مطلقاً. وما دون ذلك فليست في تقديري من (الثوابت)؛ ودعوا عنا المزايدات. إلى اللقاء.



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6816 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد