Al Jazirah NewsPaper Sunday  26/10/2008 G Issue 13177
الأحد 27 شوال 1429   العدد  13177
شيء من
شعرنا الشعبي المجني عليه
محمد بن عبداللطيف آل الشيخ

عظمة الشعر الجاهلي أنه كان يعبر عن اللغة (المحكية) في عصره. بمعنى أن لغته هي ذات اللغة التي يستعملها الناس في أحاديثهم، فلم يكن ذا لغة نخبوية لا يتقنها إلا الخاصة، كما هو الشعر الفصيح اليوم - مع تحفظي على التسمية -؛ أي أن الشعر الجاهلي كان في الواقع شعراً (عامياً) أو إن أردت: (شعبياً). بينما أن (علة) الشعر الفصيح المتداول الآن تكمن في لغته، وفي كون تعبيراته، وأغلب ألفاظه، لا علاقة لها باللغة المعاصرة. لذلك فإن الشاعر الفصيح لا يلق من الانتشار والاهتمام ما يلقاه الشاعر العامي، أو الشعبي. ولعل بروز الشاعر الراحل نزار قباني وانتشاره يعود في تقديري إلى أن لغته الشعرية في غاية المعاصرة إلى درجة كانت أقرب إلى العامية منها إلى لغة امرئ القيس، أو النابغة، أو حتى المتنبي. وأكاد أجزم لو أن امرأ القيس قام من قبره، وقرأت عليه إحدى قصائد نزار قباني فلن يكون فهمه لها أكثر من فهم محدثكم للهجة المغربية (العربية)؛ ألتقط منها القليل ويستعصي عليّ الكثير.

وكان العرب الأوائل يعتبرون (الشعر ديوان العرب)؛ أي أنه يحمل في مضامينه سجلاً لكل أنواع الحياة، سواء الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية لأولئك القوم. بينما لا يمكن أن نعتبر الشعر الفصيح يعبر عن حياتنا، أو لغتنا، أو اهتماماتنا، مثلما كان الشعر الجاهلي في عصور ما قبل الإسلام. ربما أنه قد يعبر عن اهتمامات (فئة) معينة، أما أغلب الناس فعلاقته بهم وتعبيره عنهم فتكاد تكون شبه معدومة.

نعم هناك الكثير من الشعر الشعبي الرخيص، الذي لا يتجاوز قصيدة غزلية (ساذجة) قالها مراهق في عشيقته؛ وهي لا تحمل من الشاعرية والأبعاد الفنية، والعمق، ما يجعلها أدباً محترماً؛ بل تجد في الغالب أن الخطابية، والمباشرة، و(الحوق والروق) هي سمتها الغالبة عليها؛ بشكل يجعلك (قد) تمج هذا النوع من الشعر وتزدريه.

غير أن هناك قصائد كتبت باللهجة العامية، هي من حيث البناء الفني وشروط الشعر في غاية الجمال؛ بل لن أكون مبالغاً لو قلت إنها تتفوق من حيث الشروط الشعرية - بغض النظر عن اللغة - على كثير من القصائد التي كتبت باللغة الفصحى.

خذ مثلاً قصيدة (حومة فكر) للشاعر الأمير خالد الفيصل، وحاول أن تقرأها قراءة فنية محايدة دون أن يكون لك موقف مسبق من (اللغة) التي كتبت بها، ثم حاول - بتجرد - أن ترصد الأبعاد الفنية، والإيحاءات التي تحتويها هذه القصيدة، ستدرك ما أعنيه؛ وهو - بالمناسبة - منذ أن (شب ضوه في الظلام) كما يقول في هذه القصيدة وحتى اللحظة هو يمارس (التنوير) قولاً وفعلاً. وفي السياق نفسه اقرأ قصيدة (ما ينقش العصفور في تمرة العذق) للشاعر الأمير بدر بن عبدالمحسن، وكيف استطاع بكل تمكن أن يطوع العامية بمهارة نادرة، قد تصل إلى مرحلة الإعجاز، لخدمة مشروعه الشعري الذي لم يبرحه قيد أنملة منذ (عطني المحبة) وحتى اليوم. كما أن الشاعر إبراهيم خفاجي واحد من الرموز الذين كانت لهم مساهمة في إثراء الأدب الشعبي باللهجة الحجازية؛ ولا تزال قصيدته (يا ريتني أملك الأفراح واتصرف بها وحدي) تتوارثها الأجيال، وتشنف أسماع الأبناء والأحفاد مثلما شنفت أسماع الآباء والأجداد؛ فالشاعر العظيم يبقى شامخاًَ لا يشيخ. ولا يمكن أن نتحدث عن الشعر العامي دون الحديث عن الشاعر فهد عافت، الذي يطرح شعراً لا يشابهه فيه إلا فهد عافت؛ ورغم قلة إنتاجه مؤخراً إلا أنه يبقى إحدى العلامات المضيئة في مسيرة شعرنا العامي المعاصر المكتظ شاعرية. كما أشير إلى إحدى القصائد العامية التي هي في تقديري من أهم القصائد (الرائعة) والمعاصرة، والتي لم تلق - في تقديري - من الاهتمام والحفاوة ما هي - بحق - جديرة بها، وهي قصيدة الشاعر مسفر الدوسري (منفوحة)، التي تطرقت إلى آفاق لم يسبقه أحد في التطرق إليها.

هؤلاء الشعراء الذين أتيت بهم - على سبيل المثال وليس الحصر - يؤكدون أن الشعر العامي، رغم المتطفلين، ورغم المدعين، هو جزء من مشروعنا الثقافي السعودي، لا يمكن أن يتجاهله، ويغبطه حقه في إثراء واقعنا الثقافي، إلا مكابر. إلى اللقاء.



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6816 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد