Al Jazirah NewsPaper Wednesday  29/10/2008 G Issue 13180
الاربعاء 01 ذو القعدة 1429   العدد  13180
الكاتب الإسباني أورتيجا وفكرة الأجيال
عبدالرحمن بن سعود الهواوي

عندما تبدأ دولة أو أمة أو حضارة بالانهيار والتفكك ينهض من أبنائها مفكرون ومثقفون وفلاسفة وأصحاب رأي ودراية في تلمس المسببات التي أدت إلى ذلك، مع محاولة تشخيص العوامل التي يمكن بها أن تنهض الدولة أو الأمة أو الحضارة من كبوتها وانحسارها، والأمثلة على هذه الحالة كثيرة.....

.....في التاريخ الإنساني، والدول العربية والأمة العربية والحضارة العربية في حاجة ماسة في عصرها الحاضر إلى جهد أبنائها من مثقف ومفكر وفيلسوف ورجل دين وعالم في معرفة الأسباب التي أدت بها إلى الضعف والتردي، وهنا سنتطرق إلى ما قام به بعض المفكرين والكتاب والمثقفين والفلاسفة لدول أوروبية لها علاقة قديمة ووثيقة مع الحضارة العربية في أوج بريقها ولمعانها على الدنيا، وهذه الدولة هي إسبانيا، وسنتطرق هنا إلى أحد الكتاب الإسبان الذي حاول في كتاباته تسليط الضوء على الخلل الذي أدى بدولته وحضارت إلى الضعف والوهن والانحسار، وهذا الكاتب هو خوسيه أورتيجا إي جاسيت المولود في عام 1883م والمتوفى في سنة 1955م.

كانت إسبانيا في القرنين السادس عشر والسابع عشر سيدة أوروبا ومن أقوى دول العالم، وفي سنة 1898م هزمت إسبانيا هزيمة منكرة أوقعتها بها الولايات المتحدة الأمريكية في خليج مانيلا - الفلبين وفي الوقت نفسه نجحت ثورة كوبا بمؤازرة الولايات المتحدة الأمريكية، وبهذا فقدت إسبانيا كل مستعمراتها في أمريكا، وفي المحيط الهادي، وأضحت دولة صغيرة (بدوى: 1984م) وصاحبنا هذا، أورتيجا كان أحد أعلام النهضة الإسبانية الروحية المعاصرة التي بدأت بالجيل الذي يطلقون عليه اسم: جيل (العام الثامن والتسعين)، إذ في تلك السنة، سنة 1898م والتي كما أشرنا هزمت فيها إسبانيا وفقدت مستعمراتها، فزلزلت هذه الهزيمة الحياة الإسبانية من أعماقها، فراحت الروح الإسبانية - كما يقول بدوي - تفتش عن أصولها وكوامن قواها الروحية وآساسها العنصرية والتاريخية حتى تستطيع - بفضل هذا الاستبطان الذاتي - أن تتلمس مستقبلها بين الشعوب، هناك راح مفكرون إسبانيون يتساءلون: ما مصير إسبانيا؟ أمصيرها الانحلال شأنها شأن دول العالم الكبرى؟ وإلا، فما السبيل إلى الخلاص؟ ولكي يجيبوا عن هذين السؤالين، كان عليهم أن يثيروا مسائل أخرى أسبق منها: ما هي حقيقة إسبانيا؟ وماذا أصابها، وما العلة التي تشكو منها؟ وما ذنبها فيما وقع لها؟ وما الذي أفضى بها إلى هذا المصير؟ هذه هي أسئلة جيل (العام الثامن والتسعين) وتلخيص خصائص هؤلاء كما لخصناها إضافة إلى تلخيص بدوي لها هي: احتفال للغة والأسلوب، اطلاع واسع جداً على الآداب الأجنبية نزعة ذاتية إلى حقيقة النفس الإنسانية الباطنة بوصفها الملاذ الصادق الأمين بعد أن انهارت القيم الخارجية (السياسية والعنصرية، بل الفكرية التقليدية)، العكوف على الطبيعة الإسبانية (الخالصة)، شك في قيمة التراث الإسباني ونقد لاذع للقيم التقليدية، إلى هذا الجيل - الإسباني - الثائر الخالق للقيم الجديدة ينتسب أورتيجا، وأورتيجا - كما يقول بدوي - مفكر عميق الثقافة متتبعها، وكان يتقن ست لغات أجنبية ويقرأ روائعها في أصولها، وهو يعشق النور ويكره الظلام، يعشق الحياة ويشيح بوجهه عن منظر الموت، أينما كان، وكانت كتاباته مقالات فقط، ولهذا عد كاتب المقالة.. بيد أنها (المقالة) في أسمى صورة أدبية. وليس لأورتيجا مذهب فلسفي بالمعنى الدقيق لهذا اللفظ، بل إن نزعته الروحية يتنافى معها أن يكون له (مذهب) ذلك أنه يرى: أن (حياتنا حوار: أحد المتحاورين فيه هو الفرد، والآخر هو المنظر والبيئة المحيطة)، ويرى: (أن كل حياة إنما هي وجهة نظر إلى العالم، والحق أن ما تراه الواحدة لا يمكن أن تراه الأخرى، وكل فرد - شخص - أو شعب، أو عصر هو أداة لإدراك الحقيقة، لا يمكن أن يقوم مقامها غيرها، وهكذا تكتسب الحقيقة بعداً حيوياً، على الرغم من أنها في ذاتها بمعزل عن التغيرات التاريخية) كل نزعة إذن وجهة نظر، ولكل وجهة ما يبررها، والنظرة الوحيدة الخطأ هي تلك التي تدعي لنفسها أنها هي وحدها الحقيقة، أو أنها الوحيدة.. ويقول أورتيجا: (أنا هو أنا وما يحيط بي).. أنا رجل مناسبات (عملي هو في جوهره مناسبة)، أي أنه - كما يقول بدوي - صاحب لمح فكرية طارئة تخطر على باله فيصوغها في جمل رائعة بلغت القمة في بلاغة اللغة الإسبانية، ولعل تأثيره الأكبر إنما جاء من هذه البلاغة، ومن قدرته الهائلة على خلق مصطلحات جديدة في اللغة الإسبانية للتعبير عن المعاني الفلسفية التي استمدها من الفلسفة الأوروبية، والمقصود هنا خلق معانٍ جديدة يبثها في كلمات عريقة الأصل في اللغة الإسبانية.. ومن أبرز الأفكار عند أورتيجا فكرة (تمرد الجماهير).. وخلاصتها أن ثمة ظاهرة خطيرة في المجتمع الإنساني المعاصر هي ظاهرة التجمهر والامتلاء، فأينما وليت نظرك وجدت تجمهراً وامتلاء: فالمدن مليئة بالسكان، والبيوت بالساكنين، والفنادق بالنزلاء، والقطارات بالركاب، والطرقات بالمارة، والشواطئ بالمستحمين، والملاهي بالرواد، وعيادات الأطباء المشهورين بالمرضى ...الخ، حتى أصبحت المشكلة اليوم هي: أن تجد مكاناً في أي مكان. ونتج عن هذه الظاهرة تعديل في الأحكام التقويمية، فأصبحت القيمة تقاس حسب مقدار التجمهر والامتلاء، فالأكتف هو الأعلى في سلم التقويم، والمسرحية التي يقبل على مشاهدتها أكبر حشد من الجمهور هي الأرفع مستوى، والصحيفة الأكثر قراء هي الأفضل، وحتى الكتاب الأكثر توزيعاً هو الأنفس، ولهذا فرض الجمهور أحكامه في تقويم الأمور حتى أصبحت مخالفته علامة على الشذوذ، بل على سوء الطبيعة! (فمن ليس مثل الناس يجازف باستبعاده).. ويرى أورتيجا أن هذا النماء في الزمان والمكان علامة قوة، ولهذا فإن (تمرد الجماهير) علامة تقدم.. لكن ل(تمرد الجماهير) هذا وجهه السيئ، فقد أصبح الحكم في توجيه الأحداث هو المعايير التي يضعها الجمهور.. فما نتيجة هذا..؟

النتيجة هي تركيب نفساني جديد يشعر معه هذا النموذج الإنساني الجديد: أن الحياة سهلة غنية، وأن الشخص العادي يحس في داخل نفسه بالانتصار والاستعلاء، وهذا يدعوه إلى توكيد ذاته، والظن أن سلوكه الأخلاقي والعقلي حسن وكامل.. فيعمل كأنه هو وحده الموجود في العالم، ويتدخل في كل شيء فارضاً رأيه.. وبالجملة يعمل وفقاً لنظام (الفعل المباشر).. ومثل هذا الموقف يقود حتماً إلى البربرية؛ لأن البربرية معناها انعدام المعايير، والسير وفقاً للآراء الشخصية. (فليس ثم حضارة إذا لم يكن ثم معايير يستند إليها الناس وليس ثم حضارة إذا لم يكن ثم احترام لبعض المواقف العقلية النهائية التي يرجع إليها في الجدال)، لهذا ينتهي أورتيجا إلى القول بضرورة وجود (الصفوة) التي تستطيع أن تضع المعايير والأفكار الحقيقية وتحمل على احترامها والسير بمقتضاها وبهذه الفكرة حلل أورتيجا الموقف في إسبانيا، فنعى على إسبانيا أنها في تاريخها كان يعوزها (الصفوة)، وفكرة أخرى عرضها أورتيجا، ألا وهي فكرة الجيل، وعنده أن الجيل ليس زمرة - مجموعة - من الناس الممتازين، وليس أيضاً جمهوراً، بل (الجيل) بنية اجتماعية مغلقة على نفسها فيها أقلية جليلة وجمهور، تسير في دائرة الوجود في اتجاه وبسرعة حيوية محددة من قبل، و(الجيل).. هو المعنى الأهم في التاريخ وهو بمثابة المحور الذي يدور عليه.. والجيل الثاني يجد أمامه الصور التي عاش عليها الجيل السالف، لكن الحياة بالنسبة إلى كل منهما مناسبة ذات بعدين: فالجيل يتلقى من الماضي ما حيَّ من قبل من أفكار وقيم وأنظمة، وفي الوقت نفسه يمارس قوة الإبداع الكامنة فيه.. والمشكلة الكبرى أمام كل جيل جديد، هي: أي مقدار يأخذ مما تلقى، وأي مقدار يدع؟ أي مجال يتركه لقوته الخالقة؟ وأي مجال يحتفظ به لقوى الماضي الذي وصل إليه؟ والأجيال على مدى التاريخ تتفاوت في طريقة الإجابة عن هذا السؤال: فهناك أجيال تفني روحها في الماضي، وأخرى تثور عليه وتتنكر له والأولى هي أجيال الشيخوخة، والثانية هي أجيال الثورة -على الماضي- أجيال الشباب التي ترى أن واجبها ليس في المحافظة أو الاتباع أو العود إلى الأصل، بل واجبها أن تنبذ الماضي وتبتدع الجديد، وتمارس قوة الخلق بأقصى ما تستطيع، وقد يقع في الجيل الواحد صراع بين هاتين النزعتين ممثلتين في المتمسكين بعمود التقليد، وفي الثائرين المطالبين بالتجديد.. ولكل جيل - كما يقول أورتيجا - رسالته الخاصة، وواجبه التاريخي المفروض عليه.

الرياض : 11642 - ص.ب 87416
المراجع: د. عبدالرحمن بدوي، 1984م موسوعة الفلسفة.


dr.a.hawawi@hotmail.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5834 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد