Al Jazirah NewsPaper Saturday  01/11/2008 G Issue 13183
السبت 03 ذو القعدة 1429   العدد  13183
حياة أخرى
نادر بن سالم الكلباني

حياة لا يتحقق فيها كثير مما نتمناه، تغالبنا فتغلبنا، وتفرض علينا أن نتوقف عند حدود إمكانياتنا وطبيعة ظروف وجدنا أنفسنا فيها، لكن النفوس لا تستكين وتثور بطريقتها الخاصة على كل الحقائق، وتهرب من واقعها لتصنع لها حياة أخرى بديلة في صالات الفنادق وتحت أضواء الأنوار الخافتة، لا ترتبط بالحياة التي يعيشها من تزدحم ردهات الفنادق بهم، فهناك كل الأمور مصنوعة بحسب ما يتخيله ويتمناه كل شخص، أخفت الوجوه حقيقتها وهمومها وتهربت من واقعها بصور اختارتها تتناسب وطبيعة ما تتمناه مما حرمت منه ولا يتوافر لها في حياتها المحملة بكل كبد الحياة ومجاهدتها، وتدثرت بستر نور خافت، وبخار تثور به أكواب قهوة ساخنة، فلا تلمح إلا أطيافاً يخفي كل واحد منهم حكايته، ويتصنع شخصيته، ويحاول أن يكون كما يتمنى.

في هذه الصالات ترى النقائض كلها.. أناس يضحكون، لا لطرافة ما يسمعون، بقدر أنهم يحرصون على الضحك لمجرد الضحك حتى وإن تصنعوا ضحكاتهم وأتقنوا ما يتصنعون، وأناس يوهمونك بعظمتهم، لا يتكلمون، ويتركون حركاتهم وما يبدونه من إيماءاتهم تقول عنهم ما يريدون، وآخرون غلبتهم بساطتهم وشعبية مظاهرهم وهم يجاهدون أنفسهم في مجاراة الآخرين ومحاكاة ما يفعلون، وأناس يدعون ثقافتهم بكتب تظن أنهم يقرؤونها، وآخرون ينثرون سطحية تفكيرهم بعبارات لا يتصنعونها، ولا يسلم المكان من فوضى يثيرونها، وأناس لا يتوقفون عن متابعة الوقت وكأنهم يخافون ذهابه، وآخرون لا يفعلون غير تأمل كل وجوه الداخلين والخارجين بشموخ ومهابة، وأناس لا يرفعون رؤوسهم وعيونهم عن جهاز حاسوب محمول، سرقهم من مكانهم إلى مكان آخر بعيداً جداً فيه حكاياته أو نزواته أو عالمه الخاص به، فوجدوا بأجسامهم لكنهم رحلوا إلى البعيد المنشود الذي يظنون أنه يبعدهم عن عالم لا يرضون بكل تفاصيله، وآخرون يختبرون شهرتهم ويقيسونها بالموجودين وهم يستميتون في إبراز ما يدل على وجودهم بطرق مفضوحة، حتى إذا دنا منهم أحد للسلام أو للتحية شعروا بقيمتهم وظنوا أنهم بلغوا ما يريدون.. وبين هؤلاء وهؤلاء جلس من لم يجد من يجالسه، وحيداً ينثر همومه في أكواب الشاي والقهوة ثانية إلى حياته الحقيقية التي يجاهدها بهذه السويعات في صالة فندق.

في صالات الفنادق حياة أخرى يعيشها الناس، ممكن أن تكون فيها لبعض الوقت كما تريد، وتمارس فيها ما تريد، وتستعين بها على الهروب ولو للحظات من حياة لا تكون فيها دائماً كما تريد، ولا تفعل فيها كل ما تريد.. والله المستعان.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد