Al Jazirah NewsPaper Monday  10/11/2008 G Issue 13192
الأثنين 12 ذو القعدة 1429   العدد  13192
لا تهولوا الأمر.. لن تسقط الرأسمالية (2 من 2)
د. عبد الرحمن الحبيب

فوز باراك أوباما في انتخابات الرئاسة الأمريكية يوضح أهم دفاعات الليبرالية الديموقراطية بأنها تمتلك آليات تصحيح ذاتية، فعندما تقوم الإدارة السياسية بارتكاب أخطاء أو تفشل في مهماتها تستبدل بأخرى تعمل على تعديل المسار أو تصحيح الوضع..

وكانت المقالة السابقة أوضحت أن أهم دفاعات الرأسمالية ضد الهجوم الموجه لها هو أن الأزمات الاقتصادية ليست جديدة بل ظاهرة ملازمة للرأسمالية ومندمجة مع الحركة الدورية المتأصلة في اقتصاد المؤسسات والأسواق الحرة، وهي حركات تصحيح دورية للأفضل..

بالمقابل فإن الملياردير الأمريكي جورج سوروس ذكر أن وول ستريت على شفير هاوية نتيجة المبالغة في تطبيق المبدأ اللبرالي المالي (دعه يعمل دعه يمر)، والإيمان الإيديولوجي بأن حرية السوق تضمن تنظيمه تلقائياً من ذاته دون تدخل الدولة.. لذلك تأزم النظام من داخله وليس نتيجة حوادث خارجية، حيث تركت الحرية الفوضوية للإدارة الذاتية للأسواق المالية وتركت عمليات الإقراض مفتوحة بشكل وحشي وواسع.

وفي نقد مشابه ترى (فاينانشال تايمز) أنها معضلة بنيوية للرأسمالية سببها الأعمق عولمة الليبرالية الجديدة المُنفلتة من عقالها والفجوة التي لا تني تتوسّع في داخل الدول بين الفقراء والأغنياء، والتضخم الكبير.. لذا فإن 87% من الألمان و73% من الفرنسيين و58% من الأسبان و46% من الإنجليز، يرفضون تقليد الرأسمالية الأمريكية، لأنها (عنيفة ومتوحشة) ولا تأخذ في الاعتبار الضمانات الاجتماعية للمواطنين (سعد محيو). ويذكر المحلِّلان سارغيس وفوتوبولوس، إن ظاهرة سيطرة الطبقة المالية المصرفية حوّلت الرأسمالية من نظام اقتصادي يستند إلى قواعد تنظيمية واضحة، إلى فوضى كازينو القمار الذي يقوم على مبدأ المخاطرة الكبيرة لتحقيق الأرباح الكبيرة.

أما المدافعون عن هذا النمط من الرأسمالية الذين يسمون اجتماعياً في أمريكا (المحافظون الجدد) ويسمون اقتصادياً (اللبراليون الجدد) وسياسياً (اليمين المتطرف)، وأحياناً يطلق على إيديولوجيتهم التاتشرية أو الريجانية أو اليمين الرأسمالي أو الليبرالية المالية، فإنهم يدافعون عن أنفسهم بذكر العديد من الإنجازات التاريخية، ويرجعون التطور الهائل في ثورة المعلومات والاتصالات والمواصلات والخدمات والتسهيلات وتحسين وسائل المعيشة والتقدم التكنولوجي وصعود مبادئ الديمقراطية وقيم الحريات..الخ، كل ذلك من ثمرات الحقبة الرأسمالية اليمينية منذ ثمانينات القرن المنصرم..

فمثلا عندما ينتقد غالبية الأوربيين الرأسمالية الأمريكية في نظامها الصحي غير العادل، حيث توفر الدولة في أغلب أوربا ضماناً صحياً للجميع، بينما في أمريكا تترك المسألة للقطاع الخاص، يرد الرأسماليون بأن ذلك نتج عنه أن أمريكا هي الأفضل تطوراً في التقدم الصحي والتقنية الصحية وفي الاكتشافات والاختراعات الصحية وفي طرق العلاج وكفاءة النظام الطبي عموما..الخ، وكل ذلك نتيجة التنافس الحرّ والبعد عن البيروقراطية، لذلك يتم اللجوء إلى أمريكا في الأمراض المستعصية في العالم.. وكان العالم سيخسر كثيراً لو أن نظام الصحة الأمريكي اقتفي أثر النظام الأوربي القريب من الاشتراكية..

ومن الناحية الحقوقية يدافع الرأسماليون اليمينيون عن أن مبدأ الحرية كحق بما فيه حرية السوق وحرية التملك والمبادرة الفردية والتنافس الحرّ، باعتباره الحق الأول في حقوق الإنسان وكرامته وقدراته الإبداعية.. فهو حق جوهري، بينما الحقوق الاجتماعية الأخرى مثل ضمان الصحة والتعليم والوظيفة والسكن، هي حقوق تلي الحق الأول ولا يمكن تقديمها عليه، ويعتبرها الرأسماليون اليمينيون حقوق اشتراكية بعضها خيالي مناف للعقل مثل ضمان الوظيفة وضمان السكن وضمان العيش الكريم.. بل أنها تدعو للكسل وتثبط المنافسة الإيجابية وتدعو للبلادة البيروقراطية كما يرون..

ويرى هؤلاء أن التنافس الحرّ في أمريكا هو سبب الإبداع والنشاط والجدية في العمل وقيمه لدى الأمريكان..

فحتى منتصف التسعينات كان معدل عمل العمال اليابانيين هو الأعلى في العالم، أما في الوقت الراهن، فإن معدل عمل الأمريكان هو الأعلى عالمياً حيث يزيد بمعدل 3.5 أسبوع في السنة عن اليابانيين، و6.5 أسبوع عن البريطانيين (دان بيكر وكاميرون ستوث).

أما إذا حدثت أزمة مالية أو تنامت السلبيات الاقتصادية فإن طبيعة النظام اللبرالي الديمقراطي تسمح بالتصحيح وطرح خيارات جديدة لأن هذا النظام يتضمن يميناً ويساراً ووسطا.. فبعد كل أزمة رأسمالية حادة، يحدث ضغط جماهيري وإرادة شعبية ينتج عنهما وضع قوانين توجيهية، وتتدخل الحكومة في حرية السوق وحركة رأس المال مؤقتاً، وتنشئ جهات رقابة وحماية.. مثل نظام (بريتون وودز) الذي أدى إلى إنشاء سياستي مراقبة رأس المال والعملة في أمريكا وبريطانيا بعد الأزمة الاقتصادية والكساد عقب الحرب العالمية الثانية..

لكن يرى منتقدو الرأسمالية أن السوق المالية الحالية لم تستفد من أخطائها، وقللت من قيمة الخطر، وأن التصحيح الذي يحدث يكون على حساب الطبقات غير الغنية، لأن سياسة الحكومة الرأسمالية تخدم مصالح الأغنياء، كما يقول المثل السياسي الأمريكي: (ما هو صالح لجنرال موترز صالح للولايات المتحدة).. أو كما قال الفيلسوف الأمريكي جون ديوي: (إن السياسة هي الظلّ الذي تلقيه الشركات الكبرى على المجتمع)، لأن نفوذها يكمن من خلال سيطرتها على البنوك والتجارة والصناعة والعقارات والإعلام. لذلك فإن حركة رأس المال الحرة تنشئ ما يسميه البعض (برلماناً وهمياً) من المستثمرين والمقرضين الذين يراقبون عن كثب البرامج الحكومية، و(يصوّتون) ضدّها إذا ما وجدوها منافيةً للمنطق (تشومسكي)..

ويؤكد ذلك ما كتبه عالما الاقتصاد (جون إيتويل) و(لانس تايرل) منذ عقد من الزمن (نقلا عن تشومسكي)، حين حذّرا من المخاطر الجسيمة الناجمة عن الليبرالية المالية، وأشارا إلى النفقات الضخمة التي تم تكبّدها، واقترحا حلولاً لم تؤخذ بعين الاعتبار.. فقد كان على المؤسسات المالية ذات الإدارة الجيدة أن تسعى جاهدة على تغطية الخسائر المتوقعة قبل حصولها، لكنها - في الأغلب- لم تكن مهتمة بغير التركيز على أرباحها..

وهذا يقودنا إلى ما ذكره (دوف سايدمان) في كتابه (نقلا عن توماس فريدمان)، بأن نتعاون بالطرائق القديمة، التي كان اتخاذ القرارات فيها يتوقف على تقييم المشروع التجاري، وعلى الخبرة، والإجابة عن سؤال: كيف تتم الأمور؟ وليس كم من الأرباح ستتحقق؟ والذي أوضح أن الطريقة التي نؤدي بها العمل في عالمنا المترابط بصورة وثيقة، قد أصبحت أكثر أهمية مما كانت عليه عن ذي قبل، لأن هناك عدداً أكبر من الناس أصبحوا عن طريق شبكة الإنترنت قادرين على رؤية ما تفعله، والتأثر به، وإخبار الآخرين بالطريقة التي تؤدي بها عملك، وفي أي وقت يريدون، ومن دون أي تكلفة ولا قيود.

غاية القول إنه بعد كل انحسار اقتصادي كبير تظهر تحليلات متنوعة بين تكهنات متأثرة بالماركسية تتوقع سقوط الرأسمالية، وتحليلات رأسمالية تعلن أن المسالة تحتاج لمزيد من سياسات التخطيط والرقابة والتوجيه لينطلق الاقتصاد من جديد أكثر توازنا وعدالة.. وبين هذين الاحتمالين بقيت الرأسمالية تنمو طوال مائتي عام دون أن تشيخ..



alhebib@yahoo.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6848 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد