Al Jazirah NewsPaper Monday  10/11/2008 G Issue 13192
الأثنين 12 ذو القعدة 1429   العدد  13192

الحبر الأخضر
الراحلون بصمت
أ. د. عثمان بن صالح العامر

 

لا أدري لماذا تأسرني الشخصية الصامتة؟! لا أعلم لماذا أعشق الإنسان البارع في بعث ما يريد من رسائل عبر استنطاقه الحواس؟! لا أعرف لماذا أهوى صمت الليل، صمت الصحراء حين الغروب وعند الإشراق؟ أجزم بأن خلف هذا الصمت الرهيب ضجيجاً، أعرف أن في بعض الحجارة الصماء ضجيج نار مخباً، أن في البحر ضجيجاً من الصمت يعرفه الملاحون المهرة وأنواع الأسماك الرائعة،

أن في صمت البراكين ضجيجاً يعد نفسه على مهل دون أن يعلم الراصدون بذلك، أن في القلم ضجيجاً مخبوءاً في الحبر، أن في بذرة القمح ضجيج الاخضرار القادم.. هكذا يخبئ كل كائن في صمته ضجيجاً مبدعاً يمكن أن نسميه (إرادة الحياة)، حتى الأجراس حينما تكون صامتة فإنما هي تؤجل الرنين لتحيا من جديد؛ إذ لا حياة لها من غير أن ترن، أن في صمت بعض العيون كلاماً مؤثراً وعميقاً يبلغ حد الدهشة, فكم من عاشق خبأ ضجيج حبه في عينيه، وكم من قصيدة أخفت ضجيج مغزاها الجميل في ظلال رموزها، أتضايق من أولئك الذين يملؤون الكون ضجيجاً ولكنها شخصيات فارغة تسمع لها جعجعة ولا ترى طحناً.. أجزم بأن هناك قليلاً منّا هم أولئك الذين يعشقون الصمت، لا يتحدثون إلا قليلاً، يجلسون في أي مكان حلوا بلا حسابات أو ضجيج، ولوجودهم هيبة ولو لم ينطقوا ببنت شفة، ولمجالسهم وقار ولو كانوا في آخر الصفوف، وعلى محياهم ترتسم بسمة معبرة أو نظرة حزينة مجلجلة، ولكننا غالباً لا نعرف فك حروف الجسد ولا نجيد قراءة لغة الوجوه، ينفقون بأدب وكأن الآخذ هو المتفضل لا هُم!!، يبذلون بلا حدود ولو كان غيرهم أكثر منهم مالاً وأعرض جاهاً، يعطون بعيداً عن العيون بل ربما لا تعلم شمائلهم ما أنفقت أيمانهم، لهم مشاعر فياضة ولكنها في صدورهم، يحبون حتى النخاع، ولكنه حب لا يعرف البوح وسر ليس له صديق، يضلون أحياء بلا ضجيج، يراهم الناس ويعتقدون أنهم يعرفونهم، بل يؤكدون لك أن باستطاعتهم تحليل شخصياتهم وقراءة مشاعرهم، أحاسيسهم، طموحاتهم، همومهم، باستطاعتهم نقلها كما هي عبر مقال عابر أو من خلال لقاء موثق، وهم في الحقيقة لا يعرفون عنهم إلا قليلاً.. صفحات سرية لا يعلم حقيقتها ولا يفك شفرتها إلا أقرب الناس إليهم وربما غاب عنهم الكثير.. حاولت ذات مساء أن أتذكر هؤلاء، أعدهم، أحصيهم، حاولت أن أتعرف على ملامح من مر بي منهم، من عرفته في حياتي، من شَرُفت بمقابلته ولو للحظات، قلبت في الوجوه، حاولت أن أقرأ الصامتين وفي ذواتهم ضجيج إرادة الحياة، أعدت شريط الذكريات وكانت النتيجة عدد أصابع الواحدة، كان من بينهم بل على رأسهم الشيخ حمود المعجل، رحمه الله، الذي انتقل قبل أيام معدودة من هذه الدنيا، والعجيب أن هذا الرجل عاش بصمت ورحل بهدوء ولو يعلم الناس محبو الخير كم هي الفجوة التي سيتركها رحيل هذا الرجل والهوة التي ستولد بعده إلى أن يقضي الله أمراً آخر، خاصة في مضمار البر والعطاء في منطقة حائل التي تشهد له وتفخر به، لكن الضجيج أشد.. أسرَّ لي ذات مساء أحد المقربين له كم هي فرحته - رحمه الله - عندما رأى الناس تتجمع حول ماء السبيل الذي تبرع به، ومع ذلك كانت كل وسائل الضجيج والتسويق أعجز من أن تنقل شيئاً من هذه المشاعر الحية في جبين العطاء الذي سيظل شاهداً على بذل هذا الرجل البار. حكى لي مجالسي حكاية الحب بل العشق الدفين في نفسه لطبقة الفقراء والمعوزين والمحتاجين، قال لي إنه كثيراً ما كان يؤكد بل يشدد على أبنائه وجوب ارتباطهم بحائل وأهلها وفاءً وعشقاً، قال لي عن شدة وقع حادثي الشخصي عليه حين علم به، قال لي كم هي المعاناة التي صاحبته - رحمه الله - وهو يبحث عن غرفتي حين كنت أرقد في مدينة الملك فهد الطبية في الرياض، كان يجلس جلسة راحة ولو للحظة، وسرعان ما يواصل المسير وصولاً إلى الغرفة التي لن أنساها، كنا نتحدث بلا ملل عن هذا الرجل ولم نكن حينها نعلم ما في رحم الغيب، لم نكن نتوقع أن ساعة رحيله - رحمه الله - قريبة.. وبدعوة كريمة من اللجنة المنظمة لجائزة حائل للأعمال الخيرية يأتي - رحمه الله - ليحضر حفل الجائزة السنوي، وبسبب بسيط وعارض يصاب فينقل للرياض ويرقد في المستشفى هناك، وما هي إلا أيام حتى تأتي رسالة الوداع، كانت بالنسبة لي صدمة لم تكن في الحسبان، ولكنه قدر الله (توفي الشيخ حمود المعجل)؛ فحزن محبوه لفراقه، وما ذاك إلا لأن كرب الزمان وفقد الأحبة خطب جلل وحدث موجع، أمر مهول ووقع مؤلم، هو من أثقل الأنكاد التي تمر على الإنسان في هذه الدار، نار في الفؤاد تستعر وحرقة في الجنان تضطرم تحرق القلب وتفت العضد، تجري الدموع وتورث الأسى، ولكن عزاءنا أن الموت حق، وأن قدر الله نافذ وإرادته ماضية، وأن عمل هذا الرجل المعطاء لن ينقطع؛ فتلك الصدقة الجارية ستبقى، وولده الصالح سيظل مذكراً به وبتاريخه العطر وسيرته الخيرة - بإذن الله - وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له)، ولأهل وذوي هذا الرجل المعطاء - رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته ورزق أهله وذويه الصبر والسلوان - ولأهالي المنطقة جميعاً، أتمثل في هذا المقام قول الشاعر:

إني معزك لا إني على ثقة

من الحياة ولكن سنة الديني

فلا المعُزى بباق بعد ميته

ولا المعزي ولو عاشا إلى حيني

ولنا جميعاً قول أبي ذر - رضي الله عنه -: أوصاني خليلي بكلمات هن أحب إليّ من الدنيا وما فيها، فقال: (يا أبا ذر أحكم السفينة فإن البحر عميق، واستكثر الزاد فإن السفر طويل، وخفف الظهر فإن العقبة كؤود).

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6371 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد