Al Jazirah NewsPaper Friday  21/11/2008 G Issue 13203
الجمعة 23 ذو القعدة 1429   العدد  13203

نوازع
التكيف
د. محمد بن عبدالرحمن البشر

 

عندما يمنحك الله يسراً بعد عسر، فعليك أن تحسن استخدام ما حباك المعطي فتنفق من سعتك بقدرٍ في جوانب الإنفاق المشروعة دون تقتير أو تبذير أو تكبر وطغيان، حتى لا تقع في عداد من وصفوا في القرآن الكريم، قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (6)أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى(7) }

وبعض منا يتوسع في إنفاقه في غير حاجة، ويتجاوز الفاصل بين الإسراف والكرم فيخرج من الممدوح إلى المذموم، بل ربما يكون مع أولئك الذين قال الله فيهم: (إن الله لا يحب المسرفين) أو كأنه صاحب الجنة التي قال الله فيه: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً (35)وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً (36) }

لقد مرَّت بدول الخليج فترة رخاء لم تشهدها سوى في فترة مضت إبان الطفرة النفطية الأولى، وتوسع منا من توسع وانتقل منا من انتقل من مرحلة إلى أخرى في عالم المال، فنال بحمد الله ما نال، وقضى به حاجاته التي لا غنى عنها، وبدَّر ما بدَّر، وأسرف أو قتر، وفي المنتهى ربما بقي كما كان أو نزل إلى درجة في سلم المال، أو ربما هوى من الدرجة العليا إلى الدرجة السفلى دون تدرج أو تدحرج، وإن كان قد هوى أو تدحرج أو تدرج فإنه في النهاية وصل إلى أسفل السلم، وكأنه لم يصعده في يوم من الأيام، ولم يستمتع بلذة الارتقاء، والتسلق إلى الأعلى، فقد كان ما كان وعليه أن يتكيف مع واقع الحال، وإن كان لديه مخرج فليمتطيه ويسير على ظهره لعله يحمله مرة أخرى، فيتسلق ذلك السلم الذي هوى منه، فربما يعود كما كان والله المستعان، وعليه التوكل ومنه الغفران. وسيبتعد عنه بعض الأصدقاء المستنفعين، وتغيب شمس الشعراء والمداحين، ولم يعد يتسلق سلماً أو يكون له سلماً يرتقي به الناس إليه طمعاً في نواله فكأن الشاعر قد وصف حاله فقال:

إلى كل قوم سُلَّمُ يرتقي به

وليس إلينا في السلالم مَطْلَع

ويهرب منا كل وحش وينتمي

إلى وحشنا وحش الفلاة فيرتع

وبعد ربما يأخذ أحدنا درساً مما حل بالأسواق فيبدأ بالتقتير والحد من الإنفاق، فيصل إلى مرحلة البخل فيكون كسهل بن هارون الذي حكى عنه دعبل الخزاعي فقال: أقمنا يوماً عند سهل بن هارون، وأطلنا الحديث، حتى أضرت به الجوع، وهو يرغب أن نقوم فلم نقم، فدعا بغدائه، فأوتي بصفحة فيها مرق، تحته ديك هرم، فأخذ كسرة، وتفقد ما في الصفحة فلم يجد رأس الديك، فبقي مطرقاً، ثم قال للغلام، أين الرأس؟ قال رميت به، قال، ولم؟ قال: ما أظنك تأكله، قال: ولم ظننت ذلك، فوالله إني لأمقت من يرمي برجله، فكيف برأسه والرأس رئيس يتفاءل به، وفيه الحواس الخمس، ومنه يصيح الديك، ولولا صوته ما أريد، وفيه عرفه الذي يتبرك به، وعينه التي يضرب بصفائها المثل، ودماغه عجيب لوجع الكلية، ولم أر عظماً قط أهش من رأسه، فإن كان بلغ من قبلك ألا تأكله، فعندنا من يأكله، أما علمت أنه خير من طرف الجناح والساق! انظر أين رميته؟ فقال: والله لا أدري، قال: لكني أدري أنك رميته في بطنك.

لكن لعل قول المتلمس أقرب للصواب، حيث يقول:

لَحِفْظُ المالِ خير من بُغاه

وضرب في البلاد بغير زاد

وإصلاح القليل يزيد فيه

ولا يبقى الكثير مع الفساد

والتكيف يحتاج إلى صبر ومصابرة وصراع مع الذات والنفس، وهذا أمر يحتاج إلى التدريب وقوة الإرادة، والشجاعة في التعامل مع الواقع، ولكن الكثير منا قد لا يستطيع ذلك، وربما يؤنب نفسه، ويوبخها لكنها قد جبلت على الصرف فلا تتوقف عن دفعه إليه دفعاً، فيلتفت إليها ويقول لها كما قال عمرو بن معد يكرب وربما دريد بن الصمة، فقد روي البيتان لكل منهما:

لقد أسمعت لو ناديت حيا

ولكن لا حياة لمن تنادي

ولو نار نفخت بها أضاءت

ولكن كان نفخك في رماد

والمشورة خير زاد الحيران، ودليله للفلاح وتجاوز الامتحان، فالمشاور بين صواب يفوز بثمره، أو خطأ يشارك في مكروهه، قال بشار بن برد:

وما خير كف أمسك الغل أختها

وما خير سيف لم يؤيد بقائم

ولا يجعل الشورى عليك غضاضة

فريش الخوافي عدة للقوائم

إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن

بحزم نصيح أو نصاحة حازم

والمقالات نصائح مهداة، ومشورة منتقاة، فمن رأى فيها ضالته قرأها وعمل بها، ومن رأى فيها غير ذلك قرأها وأهملها، فقد يفيده العمل وقد لا يضره الترك وهو فائز في كلا الحالتين.

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6227 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد