Al Jazirah NewsPaper Friday  28/11/2008 G Issue 13210
الجمعة 30 ذو القعدة 1429   العدد  13210
لم أعد أفهم
نادر بن سالم الكلباني

فاتني وقد بلغت من العمر ما بلغت أن أفهم كثيراً مما مرَّ بي أو مسني في هذه الحياة. كنت أعتقد أنه بالعيش أكثر في هذه الدنيا سيعرف المرء أكثر، إلا أن هذه القاعدة لا أرى أنها تنطبق عليَّ، فكلما تقدم بي العمر ازددت جهلاً في طبيعة ما يحدث من حولي، وتفككت كثير من قناعاتي التي بنيتها في كثير من الأمور. وكلما مرَّ بي الوقت على معرفة أعتقد أنني اكتسبتها جاءني الواقع ليقلب كل ما عرفته ويبين لي أن ما بنيت عليه معرفتي لا أساس له في عرف واقع لا يعترف بما نتعلمه من منطق. فعلى سبيل المثال تصاحب أحداً ردحاً من الزمن تعتقد أنك ولطول علاقتك به قد عرفته أو فهمته مما يبديه من سلوكه ومفاهيمه وقناعاته، ثم يأتي ذلك الموقف التعيس دون إشعار ليقول لك وبوضوح أنك لم تكن تعرفه البتة ولم تكن قريباً حتى من فهمه. وتقرأ كتباً عن كل شيء لتكوّن مفاهيمك وتبني قناعاتك عما يدور من حولك، ثم يأتي أيضاً ذلك الموقف التعيس نفسه ليصرخ بأعلى صوته وليقول أن ما قرأته وأقنعت نفسك به وبنيت مفاهيمك عليه لم يكن أكثر من كلام جميل عقلاني بموجب ما تعرفه من منطق لكنه لا يمت للواقع بصلة ولا حتى يقترب ولو قليلاً من حقائق الأمور. تستمع للتحليلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتستوضح منها أن المخاطر تكمن هنا وأن الفرص تختفي هناك وأن المسببات لهذا وذاك هذا هو تعليلها وتفنيدها وهكذا ستسير الأمور وفق معطيات مقنعة، ثم يأتي موقفنا التعيس ثانية متهكماً ساخراً ليقول بعنف إن ما فهمناه وسرنا على ضوئه لا علاقة له بما يحدث ولا يقترب حتى من حدوده البعيدة. لتكتشف بعد فوات الأوان أن كل شيء لا يسير وفق ما يفترضه الناس من قوانين ولا يحدث وفق ترتيب منطقي يساعد على فهمه، بل تحدث الأمور وفق منطق خاص بها لا تكشفه لنا ولن تكشفه ليبقى الناس يدّعون فهمهم وينثرون تعليقاتهم وتحليلاتهم وما يظنونه، ليسير كل شيء على خطين لا يلتقيان إلا نادراً، خط وهمي نصنعه نحن بمنطقنا وتحليلنا وما نعتقد أننا نعلمه، وآخر تصنعه الظروف وتفرضه واقعاً بمنطق خاص بها لا علاقة له بكل ما نقول وبعيد عن حدود ما نفهمه من منطق وبصور لا نتوقعها قد توافق أحياناً ما ذهبنا إليه فتزداد قناعتنا بعلمنا، أو وهو الغالب لا يوافق ما ذهبنا إليه فنبحث بدورنا عن تبريرات نرفع بها ملامة عدم فهمنا. لكن الحقيقة الواضحة التي وصلت إليها أنني لم أعد أعرف من الحياة ما يجعلني أتباهى بأقدمية تواجدي فيها، فكلما مرَّ يوم اكتشفت مساحات تبعدني عن فهمي لواقع هذه الحياة الغريبة.. والله المستعان.

فاكس: 2281443
ص.ب 102291 الرياض 11675


البريد الإلكتروني naderalkalbani@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد