الرحلة البرية بهجة النفوس، وأُنس الصدور، تشفي العليل، وتُروي الغليل، وتريح الكليل من وعثاء الجهد الأسبوعي لتطرد السامة والملل. وقد أشار الباري سبحانه وتعالى لذلك في كتابه حيث يقول: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}، فهامدة أي يابسة لا نبت فيها، الماء: المطر، اهتزت: اهتز نباتها لكثرته وقوته، وربت: أي ارتفعت وانتفخت. |
بيت القصيد ها هنا هو قوله: (وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ): أي من كل صنف بهيج، فليس المقصود أنه هو ذاته بهيج، بل يبهج نفوس الناظرين إليه!! |
لذلك يقال: عناصر الجمال في الدنيا ثلاثة: الماء والخضرة والوجه الحسن. وهذا أمر محسوس ملموس مشاهد أن الرجل إذا خرج في نزهة برية يكون صدره منشرحاً، ولسانه عطراً، وخلقه دمثاً، هيناً ليناً تبر أسارير وجهه بشراً وسعادةً حُبوراً. |
وهذا هو مصداق قوله: بهيج، ولقد أبدع الشعراء في وصف الربيع بما يبهر عقول المتذوقين فقال أبو تمام: |
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً |
من الحسن حتى كاد أن يتكلما!! |
وحيث إننا في هذه الأيام نعيش زمان ربيعنا ونزهة أشجارنا، والناس إلى البرية زُرافات ووحدانا، وعطلة الربيع على الأبواب، فحري بنا أن نضع هذه التوجيهات نصب أعيننا، وتبقى منا على بال: |
1- وجوب شكر الله تعالى على هذه النعمة، ومن الشكر العملي ترك المكان نظيفاً من آثار القمائم والمخلفات، فنحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا. هذه أبسط مبادئ الشيم والقيم الآدمية فضلاً عن النهي الشرعي عن إيذاء الناس، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْماً مُّبِيناً}. |
وهذا أمر سهل يحتاج إلى حفرة نفايات يتسلى بحفرها الأطفال، أو إحراق القمامة في نهاية الرحلة لنتمثل الهدي النبوي الشريف في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). ووالله لو طبقنا ربع هذا الحديث على أنفسنا ومع الآخرين لأصبحنا رجالاً بأرواح الملائكة!! إذاً فالأمر ليس عادة فقط بل عبادة نقترب بها إلى الله، قال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا اللاعنين، قالوا وما اللاعنان؟ فقال الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم)، رواه مسلم. |
كذلك من الرجولة والأنفة والقيم السامية أن نربي أطفالنا على احترام مشاعر الآخرين فنغرس هذه المعاني في نفوسهم بعيداً عن الفوضوية الرعناء. |
2- هناك آداب يجب إن تُراعى في الرحلات البرية كوصاياه صلى الله عليه وسلم للمسافرين، والرحلة نوع من السفر، فمن ذلك قوله (يسِّروا ولا تعسِّروا، وتطاوعا ولا تختلفا)، وكذلك إيجابه باتخاذ الأمير في الرحلة والسفر وذلك قطعاً لدابر الخصومة، ورأياً لصَدْع الخلافات، فقال صلى الله عليه وسلم (لا يسافر ثلاثة إلا أمروا أحدهم). |
ولكن المؤسف أن هذا الأمر يؤخذ هزلاً لا جداً، ولو علموا ما فيه على ما له من حسم دابر الفتن وقطع مادة الشحناء لما عدلوا عنه!! |
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم عن السفر (إنه قطعة من العذاب)، وقول العلماء: خمسة لا يلامون على الغضب وذكروا منهم (المسافر، والصائم، والهرم.. وإلخ). |
3- يجدر بالمتنزه أن يراعي مواقع الربيع والأشجار فلا يعبث بها بسيارته، فيحاول أن لا يسير إلا في الطرقات خصوصاً إذا كان الربيع في موقع محدد.. {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا}. |
4- على المتنزه أن يتذكر نعمة الله عليه بالمال والجِدَة والصحة والعافية، إذ رحلة البر زيادة في الترفيه والاستمتاع، فغيره من الناس لا يملك ذلك. وأما في مناطق الصراعات فبعضهم يذهب للبر خوفاً من الفتن والحروب أو فراراً بدينه وعِرضه. فلله الحمد من قبل ومن بعد!! |
5- على المتنزه أن يراعي حقوق الجيران من المخيمات المجاورة والمتنزهين ويراعي خصوصياتهم ومحارمهم ومشاعرهم. |
6- على المتنزه أن يصحب معه ما يفيده من المسابقات الثقافية والفوائد العلمية، قال الملهم عمر رضي الله عنه: (والله لولا فوائد تلتقط من الأصحاب كما يلتقط أطايب الثمر، لقلت إن باطن الأرض خير لي من ظاهرها). كذلك حبذا تعويد الأبناء على الإلقاء أمام الآخرين، وتدريبهم على ذلك في أي فن أو علم يجيدونه. |
7- على المتنزه أن يكفر عن ما قد يشوب رحلته من المزاح والغلط بالصدقة على الرعاة والمحتاجين مصطحباً ما تيسر من أشرطة وكتيبات ووسائل التوعية. |
8- على المتنزه أن لا يهيم فرحاً، ولا بطراً شراً برحلته فإن الله سبحانه وتعالى ختم آيات المطر والنبات بأن الذي أنبتها سينبت الأجساد وفي ذلك إشارة إلى البعث والنشور كما في قوله: {كَذَلِكَ النُّشُورُ}، أي: البعث وقوله: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى}... وهكذا. |
9- لماذا لا توفر البلديات في المحافظات المجاورة مجموعة من براميل الزبائل وعدداً من عمال النظافة لصيانة ما يفسده تخلف بعض قومنا -هداهم الله. |
10- يجب علينا أن نعلم شبابنا أساليب النظام واستقبال الضيوف والترحيب بهم، وإيقاد النار، وإصلاح القهوة وطهي الطعام. |
هذا هو وحي القلم، وزبدة الكلِم، والله من وراء القصد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
|