Al Jazirah NewsPaper Sunday  07/12/2008 G Issue 13219
الأحد 09 ذو الحجة 1429   العدد  13219

برئتُ إليك ربي لترضَى
أبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري

 

قال أبو عبد الرحمن: كلما طمستُ فحيح عهود المراهقة - إلا ما استبقيته عن بصيرة - فوجئتُ به يتجدَّد: إما في جريدة أو مجلة، وإما في كتاب مَحَلِّيٍّ، وإما في شريط تلفاز يُعاد بثُّه.. وفي هذه العشر المباركة..

عشر التهليل والتكبير فوجئتُ بجريدتي (الجزيرة) 1-12-1429 ه تعيد شيئاً من عهود المراهقة سبق نشره ب(الجزيرة) نفسها في 5-6 -1393 ه.. أي منذ ستة وثلاثين عاماً، وقراءة الناس لأي جريدة في العادة تأتي تَسَمُّحاً بالتصفُّح ولا تُدَقِّق؛ ومن هذا المنطلق خَشِيتُ من مُتَسمِّح لا يدقق في تاريخ النشر، وأنه في عام 1393 ه؛ فيظنَّه مما عملته عاطفتي الآن؛ ومن ثم يقول: أيضحك بنا أبو عبدالرحمن في إناباته ومواعظه؟!.. ولا أُحِلُّ ولا أبيح أحداً يظن فيَّ إلا الخير بعد إنابتي، وما نُشر تذكيراً بالماضي في العدد المذكور إنما هو من جنون وَسَفَهِ المراهقة، وقد برئتُ منه وأمثاله كثيراً ابتغاء مرضاة ربي.. والمنيب الصادق لا يهمُّه ما يقوله الناس؛ وإنما يهمه ابتغاء وجه الله، وهذا عندي بفضل ربي، ولكن ابتغاء السمعة الحسنة لدى المسلمين مطلبٌ لا حرج فيه؛ لتبقى للمسلم عدالته مدى حياته، ولأن أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- أمة وسطٌ، وهم شهداء على الناس، وكلما كثر المصلُّون على المسلم ودعوا له حين عرضه بالكفن في قبلة الإمام شفَّع الله محسنيهم فيه، ولست غنيّاً عن دعاء إخواني المسلمين، وأن يُثْنوا عليَّ خيراً فيقال: (وجبتْ).. أي أوجب الله له الجنة برحمته.

وقد يتساءل القارئ فيقول: (ما الذي استبقاه أبو عبد الرحمن عن بصيرة)؟!.. والإجابة على هذا بعد استعراض شيئ من مقالة عام 1393 هـ؛ فأول ما يُخجلني عند ربي ثم عند الناس العنوان نفسه، وهو (الظاهري المتموسق يكتب ساعة وربع ساعة: أمُّ الوليد لن تَخْلُفَ ثُومة في التصفيق بالقلوب.. إلا لو!) ومع ذلك صورةُ مَن سبق أن فُتِنتُ به فتنةَ ألعابد الورع ابن عمار الجشمي رحمه الله تعالى الموصوف بالقسِّ لهيامه بالمطربة سلاَّمة حتى شُهرت بالإضافة إليه؛ فقيل: (سلامة القس)؛ ولهذا غَنَّت ثومة (بمناسبة المقالة التذكيرية عام 1393 هـ) من مقام صبا (قالوا أحب القس سلامة) من شعر علي أحمد باكثير، وبتلحين السنباطي من فيلم (سلاَّمة) الذي مثَّلته عام 1943 م، وهذا نصُّها:

قالوا أحبَّ القَسُّ سَلاّمةً

وهو التقيُّ الورع الطاهرُ

كأنما لم يَدْرِ طَعْمَ الهوى

والحبِّ إلا الرجل الفاجر (1)

ياقومِ إني بشرٌ مثلكمْ

وناظري ربُّكمْ الفاطر

ليْ كَبِدٌ تهفو كأكبادكمْ

ولي فؤادٌ مثلكمْ شاعر

ولا سمع ولا طاعة لاحتجاج باكثير في البيتين الأخيرين؛ فالمسلم عموماً، ورجل العلم الشرعي غير مُسامحٍ بما يُسامَحُ به غيره إلا أن يستتر بستر الله، ولكنني تابعتُ الإمام أبا محمد ابن حزم رحمه الله لما أعلن عن نفسه في طوق الحمامة - الذي لا يوجد اليوم، ولم يطبع إلا مُخْتَصَره -؛ إذْ أعجب بغناء ضنى العامرية، ثم كلمته المتوثِّبة بالعواطف التي لم يَرُضْها بالورع عندما سمع جاريته تغني شعر صاحب فوز المليح عباس بن أحنف الحنفي المتوفى عام 193 ه (وهو ابن عم صاحب السمو الملكي الأمير سلمان؛ لأنه حنفي) التي مطلعها:

إني طربتُ إلى شمس إذا غربتْ

كانت مشارقُها جوفَ المقاصيرِ

فهي من حور الدور، والبيتان الأخيران من شعر باكثير دخلهما زحاف بغيض يُخِلُّ بواحديَّة اللحن، وهو زحاف (/5 /// 5) مستعلن؛ فهو يكسر البيت الذي يقع فيه إذا كان معظم القصيدة على مستفعلن ومتفعلن.. هذا في الإنشاد، وأما في الغناء فقد جاء لحن البيتين الأولين غير لحن البيتين الأخيرين، وتصرَّف الملحِّن، وتصرفت الست بنغمات جعلت البيتين الأخيرين اللذين فيهما الزحاف أكثر شجى.. هذا شيئ يعرفه المتومسق فعلاً؛ فالله حسيبي على أهل جريدة (الجزيرة) فقد كادوا (2) يحرِّكون أشجاني لولا أن إنابتي صادقة لا تَسَتُّراً بستر الله (وأنعم به وأكرم من ستر)، وإنما هي إنابة في السر والعلن، ولا أبتغي بمن اخترتهم من المقرئين بديلاً ولاسيما الشيخ محمد رفعت رحمه الله؛ فلو مرَّ يوم واحد لم أسمعه لأصبتُ - على اللهجة العامية - بالعُماس من جَرَّاء تكييف اعتاده ذو العماس كالقهوة.. وفي سِنيِّ المراهقة إذا صدئتْ نفسي أقفلت الأبواب، وجعلت السماعات المفرَّقة في زوايا مكتبتي ترجف وتتناوح بأمثال: (قالوا أحب القس)؛ فإذا نشطتُ عدتُ إلى كتابي وقلمي، ولولا الله ثم الانشغال بالعلم والفناء فيه لولَّد عليَّ الفنُّ حسرات لا تنتهي.. واليوم بحمد الله كانت العبادة أحبُ إلى من كل شيئ، ولا أنغمس إلا في علم نافع بخلاف سِنيِّ المراهقة إلا ما عَرَصَ على هامش حياتي كهذه المقالة.. وفي مقالتي التذكارية التي ذكرت عنوانها آنفاً تأففتُ من صفير الخنافس، وهذا أمر بقيتُ أعانيه إلى ما قُبيل إنابتي؛ إذ فسدت الأذواق، وأصبحت الكلمة عاميَّة فجَّة محليَّة في كل بلد، وسقط من الساحة الثلاثي العبقري (الشاعر، والموسيقار، والمؤدي)، وقد بثثتُ هذه المشاعر في مقالتي عن (أم الملايين)؛ وكانت مقالتي التذكارية بمناسبة أوَّل شَدْوٍ بقصيدة نزار قباني، وقد سألت محمد عبد الوهاب بالحويَّة بالطائف عن سِرِّ تغييره (يُدَخِّن) كما هي في الديوان إلى (يُفَكِّر) في قوله:

يا من يفكِّر في صمتٍ ويتركني

في البحر أرفع مرساتي وألقيها

فقال: الذوق الاجتماعي يا أستاذ.

وفي المقالة شيئ كثير أستحي منه الآن كالتنصيص على أسماء بعض علب الليل، وفيه شيئ استبقيته على بصيرة، وهو الاستفادة من تجربتي غير المشكورة في الفن الغنائي!.. أستفيد من تجربتي، ومن معاناتي لألحان الشعر العامي؛ وذلك أنني أدرك خللاً كثيراً في علم العَروض الممجوج السخيِّ بمصطلحات لا قيمة لها، ويُغني عنها كلها ما هو أخْصَر وأوضح، وهو:

1 - ضبط البُنى الوزنية من متحرك وساكن، ومتحرك وساكنين.. إلخ.

2- ملاحظة سلامة النطق كما تُنطق الكلمة في الفصحى والعامية، وخللها ضرورة غنائية بتحريك ساكن، وتسكين متحرك، ومد متحرك، وإلغاء المد من ممدود.. إلخ.

3- لا يكون هذا إلا بالغناء ولو كان ساذَجاً؛ ولهذا كانت النثرية، والزحافات المُخِلَّة مثل (مستعلن / 5 ///5) لدى فحول الشعراء من أمثال أبي تمام، والمتنبي، وأبي العلاء.. والتدفُّق الموسيقي لدى من عُلِمَ أو استُنبط أنهم يغنون شعرهم مثل صناجة العرب الأعشى، والعباس بن الأحنف، والشريف الرضي، وتلميذه مهيار الديلمي، والبحتري، وابن هانئ، وعلي محمود طه، وماسمعته من شعر جورج جرداق، والهادي آدم.. إلخ.

4- التخلُّص من التقطيع العروضي البصري، والتخلُّص من الاعتماد على صدى الوزن المنتظم في الذاكرة، والاعتماد على التلحين الغنائي ولو كان ساذجاً كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:

تغنَّ بالشعر إما كنت قائله

إن الغناء لهذا الشعر مضمار

ذلك أن الوزن يقبل مالا يُحصى من الألحان، واللحن لا يقبل إلا وزناً واحداً؛ فلا يجعل الوزن موسيقياً (متحرراً من زحافات غير لازمة تُخِلُّ بوحدة اللحن) إلا الغناء.

وأستبقي مع ذلك نماذج الشعر الذي لَحَّنه كبار الموسيقيين - فصيحاً، وزجلاً - للدراسات الجمالية؛ فقد رأيت أن هذه النماذج من أجمل الشعر؛ فأنا أدرسها مستفيداً من تجربتي السابقة ولا حرج؛ لأنني أقلعتُ عن مواصلة التجربة؛ ولأن التجربة السابقة حصلتْ ولا سبيل إلى ردِّها، ولأنها في تغذية علمٍ مباح، وهو الدراسات الجمالية للنصِّ الفني.

قال أبو عبد الرحمن: وأرجو الله أن يغفر لي ما سلف؛ لأنني خُدِعْتُ فظننتُ أنني في مسألة خلافية لا يأثم المجتهد أوالمقلد لمن اقتنع بأصوله.. ولم أحرر بَعْدُ الحكم الشرعي في الغناء، وإن كنت أسير فيه على مَهَلٍ، ولكن الذي تحقق لي من الإشراف على خلاف الفقهاء، ومن حسراتي الْحُبِيَّة أيام المراهقة، ومن هذا النعيم القلبي النفسي الذي أعيشه بعد الإنابة: أن غناء العصر الحديث بآلاته وصفيره وعدم حمله أي شيئ من هموم الآخرة، والواقع المنحطِّ في الأكثر للوسط الفني: (3) ليس هو الغناء الذي اختلف فيه الفقهاء.. وتحقَّق لي أن ما اطمأنَّت النفس إلى إباحته ليس هو الأفضل؛ لأن من استهلك وقته في العبادة والعلم النافع، والتسلِّي بالعلم المباح، وسماع القرآن بأصوات جميلة كصوت محمد رفعت، ومحمود الطبلاوي، وعبد الباسط: يعيش نعيماً، وشوقاً إلى ربه، ولا تستفزُّه حسرة.. وأصارح أحبابي بأنه ليس في مكتبتيَّ إلا المسجل الفخم وأشرطة المقرئين، ولا أُشرف على الأخبار إلا من جريدة أو إخبار من الأولاد والأصدقاء.. هذا ما يتعلَّق بالاستماع، وأما السماع غير الإرادي فأواجهه بالتسبيح والتحميد في قلبي أو بحركة لساني وشفتيَّ حسب الجوِّ الذي أنا فيه.

ومن تجربتي في المراهقة تحقَّق لي بوضوح كالشمس أن الغناء الراقي بلحنه وكلماته وأدائه يُوَلِّد في نفس المستمع حبّاً يأسره ويزيد لوعته وإن كان وهماً: إما بعشق صورة المؤدية إن وجدت الجاذبية لدى المستمع على المنهج الذي عبَّر عنه محمد بن داوود الظاهري رحمه الله تعالى:

وما الحبُّ من حسنٍ ولا من سماجةٍ

ولكنهُ شيئ به النفس تكلف (4)

ومثله من الشعر العامي:

ترى المكلْفخْ يجي مملوحْ

والزينْ مَنْ دَقَّتْ اشْباهِهْ

يريد بالأشباه الأوصاف على المقاييس الجمالية، وتزيد حسرته إذا تذكَّر:

ما الحبُّ إلا أن تحبَّ

(م) وأن يحبُّك من تحبُّهْ (5)

فإن كان المؤدي مثل محمد عبد الوهاب فإنه يثيرك أداؤه العاطفي في التحسُّر على حبيبٍ شَقِيتَ به حقيقة أو وهماً، فالحمد لله شكراً شكراً لا أحصي ثناء عليه سبحانه؛ إذْ خلصني من تراكمات الحبِّ.. ولا يقولنَّ قائل: ماذا عند ابن اثنين وسبعين عاماً؟!.

لا يقلْ ذلك؛ لأن العاطفة لا تزال مشبوبة جعلها سويةً ما حصل بخطبة ابن مسعود عند عقد النكاح، والله المستعان.

وكتبه لكم:

أبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري

- عفا الله عنه -

الهوامش

1- قال أبو عبدالرحمن: الهوى هو الحب، وهذا الحشو من ضرورات البحر ذي التفعيلات الواجب مَلْؤُها.

2- حذف أن بعد (كاد) وإن كان إثباتها جائزاً هو الأفصح.

3- قال أبو عبدالرحمن: إذا طال الفاصل بين المتبدإ والخبر وما في حكمهما فضع النقطتين الرأسيتين؛ لِيُعْلم الخبر، ولأن الخبر في حكم مقول القول.

4- قال أبو عبدالرحمن: يُشْبَعُ ضمُّ الهاء من (لكنهُ) من أجل الوزن، وهكذا هو في اللحن.

5- قال أبو عبدالرحمن: من مجزوء الكامل.. عرضوه (متْفاعلن) والضرب (متفَاعلاتن)


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد