Al Jazirah NewsPaper Sunday  14/12/2008 G Issue 13226
الأحد 16 ذو الحجة 1429   العدد  13226
ماذا بعد السلام الأمريكي؟
جيمي ف. ميتزل

لقد بات من الشائع أن نستمع إلى مقولات مثل: (حين ينقشع غبار الأزمة المالية العالمية فقد يتبين لنا بوضوح أنّ عالم ما بعد الحرب الذي قادته الولايات المتحدة قد انتهى). وإذا كان الأمر كذلك، فهذا يعني أن النظام العالمي الذي عَمِل على تأمين السلام والأمن والانفتاح والنمو الاقتصادي طيلة العقود الستة الماضية، ربما يكون في خطر داهم.

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبإلهام من الزعامة الأمريكية، تمكنت أوروبا، ثم اليابان، ثم جزء كبير من آسيا والعالم، من الارتقاء إلى مستويات جديدة من الرخاء والازدهار؛ وتحول اقتصاد العالم نحو العولمة، اعتماداً على مؤسسات وقواعد ومعايير دولية؛ وعاد الطلاب الذين تعلموا في الجامعات الأمريكية إلى ديارهم وهم يحملون أفكاراً جديدة عن الأسواق الحرة، والأعمال التجارية، والديمقراطية. ونجحت مظلة الحماية التي وفرتها المؤسسة العسكرية الأمريكية في منح مناطق كبيرة من العالم إجازة من الحرب، فتسنى لها التركيز على النمو الاقتصادي والتكامل الإقليمي.

لم تكتف أمريكا بالاضطلاع بدور الريادة في بناء مؤسسات العالم الذي باتت تحكمه العولمة - مثل الأمم المتحدة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة حلف شمال الأطلنطي - بل لقد تحول أيضاً إلى نموذج لإلهام العديد من بلدان العالم.

ولكن بعد ثمانية أعوام من الزعامة الأمريكية المنقوصة المختلة، وحرب خرقاء غير ضرورية في العراق، والتقاعس عن تولي زمام المبادرة فيما يتصل بالجهود العالمية الرامية إلى معالجة قضية تغير المناخ، وأبو غريب، وخليج غوانتانامو، وديون بلغت عشرة تريليونات من الدولارات، والتسبب في أزمة مالية عالمية - خسر النموذج الأمريكي الذي كان لامعاً ذات يوم القدر الأعظم من بريقه، وأصبحت الزعامة الأمريكية موضع تشكيك من قِبَل العديد من الناس.

تجلت هذه الحقيقة بوضوح أثناء الاجتماع الآسيوي الأوروبي السابع (ASEM) في بكين هذا الخريف، حيث بدأ الزعماء الأوروبيون والآسيويون في استكشاف الأفكار لتأسيس بنية مالية عالمية جديدة. طيلة القسم الأعظم من الأعوام الستين الماضية، كان من المستحيل أن ينعقد مثل هذا الحوار الجوهري دون مشاركة الولايات المتحدة. واليوم، تحول الأمر إلى معيار عالمي جديد لم يستعد له لا المجتمع الدولي ولا الولايات المتحدة.

رغم الحديث عن الانحدار الأمريكي، إلا أن العالم ليس مستعداً بعد لعصر ما بعد أمريكا. ورغم أن بعض تصرفات أمريكا كانت مزعجة إلى حد كبير، وبخاصة أثناء الأعوام الثمانية الماضية، إلا أن أمريكا تظل تشكل النصير الأعظم أهمية للقيم التقدمية التي أسهمت في انتشال مئات الملايين من البشر من الفقر المدقع والقمع السياسي. ولو كانت الولايات المتحدة قد لعبت دوراً أصغر نسبياً في الشؤون العالمية، ولم يتم تأسيس نظام آخر لسد الفراغ، لكانت هذه القيم قد أصبحت في خطر عظيم.

ورغم أن العديد من الدول تختبئ خلف المبدأ العالمي المزعوم الذي يتلخص في حرمة سيادة الدولة، على سبيل المثال، فهل يرغب المجتمع الدولي حقاً في العودة إلى النموذج القديم، حيث كان بوسع أي دولة أن تفعل بمواطنيها ما تشاء ضمن نطاق حدودها؟ وهل تعتقد الدول في مختلف أنحاء العالم حقاً أنها سوف تكون في حال أفضل إذا ما انهار نظام التجارة العالمي أو إذا ما أصبحت مسارات الشحن الدولية أقل أمناً؟

هل بلدان مثل الصين على استعداد حقاً للتقدم وتحمل حصتها العادلة في المستحقات اللازمة لتمكين الأمم المتحدة من الاستمرار في أداء دورها (تتحمل الصين حالياً 2.1% من مستحقات الأمم المتحدة، مقارنة بما يزيد على 25% تتحملها الولايات المتحدة)، أو لتمويل المؤسسات المالية الدولية المنقحة أو الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا؟ ما لم تبد دول أخرى قدراً أعظم من الاستعداد لتحمل المسؤولية عن الصالح العام العالمي، فقد يتحول عالم ما بعد أمريكا بسرعة مخيفة إلى بيئة ميالة إلى الحرب والاقتتال أكثر مما هي عليه حال العالم اليوم.

ولكن يتعين على أمريكا حتى يتسنى لها أن تثبت قدرتها على الاستمرار في الاضطلاع بدورها الزعامي في العالم أن تبذل قصارى جهدها. ففي حين تكلل الاندفاع الفردي من جانب إدارة بوش بإكليل الخزي والعار بعد ما أسفر عنه ذلك التوجه من عواقب وخيمة، إلا أن العالم لم يستوعب بعد الدروس المستفادة والتي تتلخص في مدى أهمية العمل التعاوني في عالم اليوم المترابط المتشابك.

وحتى حين كانت القوة الأمريكية في أوجها، فإن عظمة أمريكا كانت تستند دوماً إلى إلهام الآخرين، والحقيقة أن فرصها في تنمية حصتها القديمة في هذه الفئة الخاصة ما زالت غير محدودة. ومن المستحيل أن نقلل من شأن وأهمية الخطوة المتمثلة في انتخاب باراك أوباما في ذلك الاتجاه. بيْد أن تصرفات أمريكا خلال السنوات القادمة سوف تكون بمثابة العامل الحاسم في تقرير ما إذا كانت قادرة على استعادة قوة النموذج الأمريكي.

إن أمريكا قادرة على حمل لواء الريادة في مكافحة تغير المناخ من خلال الاستثمارات الضخمة في الطاقة البديلة، وحماية البيئة، وكفاءة استخدام الطاقة، وباتخاذ إجراءات قوية في الداخل للحد من إطلاق الغازات المسببة لظاهرة الانحباس الحراري. ويتعين عليها أن تعمل على تبني سياسة هجرة جديدة قادرة على استقدام أفضل وألمع الناس من مختلف أنحاء العالم، وأن تستمر في الاضطلاع بدور النصير الأعظم للأسواق المفتوحة، وبخاصة أثناء الأزمة المالية الحالية.

إن إغلاق معتقل غوانتانامو والتأكيد على التزام أمريكا بالقانون الدولي وحقوق الإنسان سوف يشكل أيضاً خطوة على قدر عظيم من الأهمية في هذا الاتجاه. إن العالم يريد أن يرى أمريكا القادرة على الارتقاء إلى القيم التي نشرتها في العالم.

إن إمكانية نشوء مجتمع عالمي يتألف حقاً من دول تعمل في تعاون كامل من أجل تحقيق الصالح العام للجميع قائمة حقاً. ولكن رغم أن أمريكا كانت بعيدة عن الكمال طيلة العقود الستة الماضية، إلا أن نهاية (السلام الأمريكي) من شأنها أن تخلق فراغاً خطيراً في الشئون الدولية.

إذا كان للعالم أن يتحول في اتجاه تأسيس نظام ديمقراطي جديد وأكثر عالمية، فلا بد وأن تتقدم دول العالم الأخرى لكي تتحمل مسؤولياتها الجديدة. والحقيقة أن ذلك سوف يصب في مصلحة أمريكا والعالم. ولسوف تتجلى الأدلة على هذا التوجه ليس فقط في المؤسسات الدولية، بل وأيضاً في أماكن مثل دارفور، وزيمبابوي، وبورما. وإلى أن يحدث هذا فلنتمنى جميعاً أن تتمكن أمريكا من العودة إلى المسار الصحيح باعتبارها نصيراً عالمياً للعمل الجماعي في معالجة أعظم التحديات التي يواجهها العالم والعمل مع أكبر عدد ممكن من بلدان العالم في سبيل التوصل إلى تحرك جماعي في الاتجاه الصحيح.

* * *

* جيمي ف. ميتزل نائب الرئيس التنفيذي لجمعية آسيا وأحد أعضاء هيئة العاملين بمجلس الأمن القومي في الولايات المتحدة أثناء إدارة الرئيس كلينتون

** خاص بالجزيرة



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد