Al Jazirah NewsPaper Monday  15/12/2008 G Issue 13227
الأثنين 17 ذو الحجة 1429   العدد  13227
ملحاق خير عما في مدينة خير
د. عبد الله الصالح العثيمين

كان للرسائل المتبادلة بين الأقارب والأصدقاء والمعارف مكانة خاصة عند النجديين، وربما عند غيرهم أيضاً.. وكان من جملهم المعبرة عن تلك المكانة: (المكاتبة نصف المشاهدة). وهذه العبارة صحيحة....

.... وبخاصة إذا روعيت الظروف الزمنية والحياتية التي كانت تستعمل فيها. وفي الوقت الحاضر تطورت وسائل الاتصالات، فأصبح المتصلون يسمعون من يتصلون بهم ويرونهم. وهذا كله من فضل الله الذي علم الإنسان ما لم يكن يعلم. وكان المرء إذا كتب إلى من يريد الكتابة إليه ينسى - أحياناً- ذكر أشياء كان عازماً على ذكرها، أو تجدّ أمور بعد كتابته ما كتب، فيعمد إلى ذكرها لمن كتب الرسالة إليه. وفي تلك الحال يكتب رسالة أخرى منفصلة عن الرسالة الأولى أو ملحقة بها على الورقة نفسها، ويجعل عنوان ذلك: (ملحاق خير) وهأنذا - وأنا ممن يحنون إلى الماضي- أستعمل ذلك العنوان عنواناً لمقالتي.

في مقالة الأسبوع الماضي، التي كان نشرها في يوم عيد الأضحى، كان تركيز الحديث على ما كان لأيام العيد من فرحة لدى الأطفال في عنيزة... فيحاء القصيم عندما أعيش أيام الطفولة، وما كان في تلك الأيام من عادات، وبخاصة ما يتعلق بلحوم الأضاحي وشحومها، التي كانت الفائدة منها تستثمر شهوراً وهناك أمور كثيرة لم يتسع حيِّز المقالة لذكرها والتعليق عليها.

على أني بعد كتابتي تلك المقالة، شاهدت - خلال قضائي إجازة العيد في مسقط الرأس ومرتع الصبا.. فيحاء القصيم- وجوهاً من النشاط الاجتماعي جديرة بالإشارة إليها، ويجدر الثناء على من قاموا بها. ومن هذه الوجوه ما هو متنوع ومتعدد. ومن أجملها وأروعها مهرجان العوشزية. ولهذه البلدة تاريخ مجيد ما زالت أفياء ظلاله وارفة. وفي إحدى صفحات هذا التاريخ عبق من ذكرى بطولية فذة. كان لأسرة المطرودي الكريمة - وهي من قبيلة بني خالد المشهورة- الزعامة هناك. وكان قد حدث خلاف بين الإمام فيصل بن تركي وعدد من زعماء بلدان القصيم؛ وفي طليعتها بريدة وعنيزة. وكان أمير بريدة عبدالعزيز بن محمد آل أبو عليان، وأمراء عنيزة آل سليم. وفي آخر الأمر تُوصِّل إلى صلح كان من نتائجه تعيين جلوي بن تركي أميراً في عنيزة؛ وذلك عام 1265هـ. ويبدو أنه كان من أهداف تعيينه أميراً هناك مراقبة شؤون إقليم القصيم كلها عن كثب بما في ذلك ما يتصل بإمارة بريدة. وكان إلى جانب جلوي في عنيزة الشيخ العالم الجليل عبدالله أبو بطين، وكان إلى جانب جلوي في عنيزة الشيخ العالم الجليل عبدالله أبو بطين، الذي وصفته بعض المصادر بأنه مفتي الديار النجدية لما كان عليه من علم غزير اتضح بعض منه في المؤلفات القيمة التي خلفها. وقد استمر جلوي أميراً مقره في عنيزة إلى عام 1270هـ.

وفي أثناء تلك السنوات الخمس، التي تولى فيها جلوي إمارة عنيزة حدث أن قدم إليها كبير أسرة المطرودي من العوشزية لأداء صلاة الجمعة، التي كثيراً ما كان يعقبها زيارة من قدم إلى هذه المدينة رؤية من لهم صلة قرابة أو صداقة به. وبينما كان المطرودي غائباً عن مزرعته التي في العوشزية قام نفر من البدو بنهب الإبل التي كانت تستخدم لإخراج الماء من البئر لسقي الزرع. وحاولت إحدى بناته أن يقوم العامل بردها ممن أخذوها. فالحصان موجود، والبندقية موجودة أيضاً. لكن العامل لم ير المجازفة بحياته. فما كان من تلك الابنة إلا أن لبست ثوب رجل، وركبت الحصان ومعها البندقية، وتعقبت الذين أخذوا الإبل، واعتقد أولئك القوم أنها رجل مقدام. فلم يجدوا بداً من الخضوع لخيارها بأن يعودوا إلى المزرعة مسلِّمين للإبل، على (حسنى صاحبها وسيئته)، أي الرضا والنزول عند حكمه أياً كان. ولما عادوا أجلستهم في قهوة الدار انتظاراً لوصول أبيها من عنيزة، وهيأت لهم وليمة عشاء. وأتى الأب فأخبرته بما حدث، ودعاهم إلى تناول الطعام مرحباً فطلبوا منه أن يحضر إليهم الفارس الشجاع الذي ردهم فأخبرهم بأن من ردهم كانت ابنته. وللمرء أن يتصور رد فعلهم سواء لما رأوه من صفح وكرم، أو شاهدوه من بطولة قامت بها فتاة باسلة. وامرأة مثل تلك المرأة لا بد أن تشرئب إليها أعناق ذوي المكانة الرفيعة فما كان من الأمير جلوي بن تركي إلا أن سارع إلى خطبتها، وكان جديراً بأن يحظى بموافقتها وموافقة أبيها على الزواج. على أنها لم تعمر طويلاً؛ إذ اختارها بارئها إلى جواره الكريم. فتزوج الأمير جلوي أختها، التي أنجبت منه ذرية في طليعتهم الأمير الشجاع العظيم عبدالله بن جلوي، الذي كان له دوره الكبير إلى جانب قائد مسيرة توحيد بلادنا العزيزة.. الملك عبدالعزيز. وكان من نسل عبدالله الأمير سعود، الذي كان مثالاً في الحزم والعدل رحم الله الجميع رحمة واسعة.

أما بعد:

فكما كان لأسرة المطرودي تاريخ مجيد في بلدتهم العوشزية كانت للأحياء منها مبادرة رائعة في أيام إجازة عيد الأضحى، التي أظلَّتنا أفياؤها الجميلة بكل ما كان فيها من وجوه نشاط اجتماعي محمود. من نعم الله التي لا تحصى أن نزل مطر غزير جداً على إقليم القصيم في الشهر الماضي. وكان أن مشى وادي الرمة بمقدار لم يحدث مثله سنوات ليست بالقصيرة. وكان أيضاً أن تكونت بحيرة واسعة جداً في محيط بلدة العوشزية. وانتهزت أسرة المطرودي المتدفقة كرماً وحيوية الفرصة، فأقامت مهرجاناً ساعد على تهيئته وإنجاحه مختلف المسؤولين الكرام في الإقليم إلى جانب عدد من ذوي الجود في القطاع الخاص.

فكان أن ابتهج الجميع برؤية أمواج، كالأمواج التي على سواحل الوطن شرقاً وغرباً، تتراقص طرباً وإيناساً في وسط صحراء نجد. النسيم المار على سطح تلك البحيرة العوشزية الواسعة المحاطة شرقاً بالرمال الذهبية، هو نسيم ماء البحر في شرق الوطن وغربه. ذلك أن البحيرة يستخرج منها الملح. والقوارب التي تمارس بها الرياضة في مياه سواحل شرق الوطن وغربه هي القوارب التي هيئت، واستخدمت في بحيرة العوشزية. ولم تقف أسرة المطرودي الكريمة ومن تعاون معها عند حد في محاولتها إسعاد الزائرين من داخل إقليم القصيم - وفي طليعته فيحاؤه- ومن خارجه. بل اشتمل المهرجان على مبادرة رائدة جميلة. فقد أقيم معرض للسيارات القديمة، ومحلات لبيع قطع من الآثار، إلى جانب محلات لبيع أمور أخرى. أما ما هو فوق كل ذلك جمالاً وحسنا فكان وجود محلات برع فيها نساء من بنات الوطن بتقديم ما كن يعملنه هناك من وجبات شعبية قصيمية متنوعة لا يملك الزائر إلا أن يسعد بذوقها والحصول على شيء منها.

وكان منظراً مبهجاً رؤية مئات الأسر؛ رجالاً ونساء؛ كباراً وصغاراً، على أرصفة البحيرة أو على شطآنها. أما الفنجال وراحة البال فأمران وفَّرهما كرم من أقاموا المهرجان. وما قيامهم بذلك أمر غريب، فهم أهل لكل مكرمة وجود، وأما ختام متعتي بذلك المهرجان فكان أمسية شعرية في خيمة شرحة واسعة بالرمال الحافة بالبحيرة. وكان أبطال تلك الأمسية الشعرية الجميلة ثلاثة من الشعراء الشباب المجيدين، الذين أطربوا الحاضرين بقصائدهم المتدفقة جودة وابتكارا. ومن المؤمل أن يبقى كثير من الماء، الذي أصبح بحيرة، شهوراً بحيث يكون كافياً لإعادة المهرجان من جديد أيام الإجازة بين الفصلين الدراسيين في الوطن العزيز. فإن عمل ذلك متزامناً مع ما لرمال المصغر من جاذبية فهذا نور على نور. وأهل فيحاء القصيم؛ مسؤولين ومواطنين، جديرون دائماً بالقيام بمبادرات رائدة.

جزى الله كل من قام بما يدخل البهجة والسرور على قلوب مواطنيه خير الجزاء وأكثر من أمثال الكرماء الرواد.



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5896 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد