Al Jazirah NewsPaper Monday  15/12/2008 G Issue 13227
الأثنين 17 ذو الحجة 1429   العدد  13227
ثقافتنا وثقافتهم

لم يخلق الإنسان ليعيش وحده في هذا العالم لأن ذلك يتعارض مع طبع وطبيعة الإنسان ويتناقض مع مصالحه العامة والخاصة والنواميس الكونية، فالأرض لم تخلق ليعمرها فرد واحد الشمس لا ترسل أشعتها لتضيء وتدفئ إنسانا واحدا، كما أن القمر لا يعكس أشعته الفضية ليهدي مسافرا بعينه في الليل، والسماء لا تظلل شعبا واحدا فقط، وإذا هطل المطر فإنه لا ينزل ليروي أرض أمة دون أخرى من الأمم.

إن هناك عاملا مشتركا بين أفراد البشر وأن الموضوعية تقتضي أن يعيش الإنسان مع أهله وأفراد أمته وأن يتعايش مع الشعوب الأخرى لكي يعم السلام في العالم كله، ولكن لا بد من وجود ضوابط خلقية وإنسانية واجتماعية وثقافية تحكم أسلوب وطريقة التعامل بين أفراد المجتمع الواحد وينطبق هذا الأمر على التعايش مع الشعوب الأخرى ويضاف إلى ما سبق توافر القناعة المتبادلة بين الشعوب بحتمية احترامها لتراث وقيم بعضها البعض.

وإذا تصفحنا صفحات التاريخ صفحة صفحة نجد أن الإنسان منذ القدم وجد أنه لا بد من أن يتعايش مع أخيه الإنسان وقد تعاملت الشعوب مع بعضها بطريقة أو بأخرى لتضمن لنفسها البقاء ولتؤمن حاجاتها الضرورية التي لا بد لها من تأمينها لكي تعيش بشكل أفضل، فكلنا يعرف أن التواصل بين الشعوب كان موجودا بين أفراد المناطق المتجاورة عن طريق المقايضة في الأزمنة الغابرة، وقد سادت ثقافة المقايضة بين منطقة وأخرى وشعب وآخر، مع الحرص على مراعاة القيم السائدة في كل مجتمع، لأن تلك القيم ذات أهمية بالغة واحترام كبير لدى كل شعب من الشعوب، وهناك مثل سائر ساد في الأيام اللامتناهية في القدم وهو لا يزال ساري المفعول حتى اليوم يقول: (من يأخذ مالي فإنه لا يأخذ شيئا، وأما من يحاول أن مس أو أن يأخذ قيمي فإنه يحاول بذلك أن يأخذ كل شيء) لمَ كل هذا الاعتزاز بالقيم؟ طبعا لأن أفراد المجتمع قد نشأوا وترعرعوا في أحضان تلك القيم والمثل العليا وأصبحت مكونا أساسيا في حياتهم يهتدون بهديها ويتصرفون بموجبها وحسب مضامينها ويصعب عليهم التخلي عنها أو القبول باستبدالها بأية قيم أخرى دخيلة، وهذا أمر طبيعي لأن الإنسان يحب ما ألفه في حياته، وفي علم السياسة هناك قاعدة تقول إنه إذا تخلى الشعب عن تراثه وجب على الحاكم أن يعيد الشعب إلى تراثه بالقوة، وقد ثبت بالدليل الذي لا يقبل الجدل أن الشعوب التي تمسكت بتراثها وقيمها قد تطورت وتقدمت في كافة الميادين العلمية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والفنية والمعرفية والسياسية، وبذلك حافظت على استقلالها وفرضت احترامها على الشعوب الأخرى.

وإذا عدنا إلى التاريخ مرة ثانية وقارنا بين ثقافتنا في قبول الآخرين وثقافة الغرب في عدم قبول الآخرين، نرى أن المسلمين قد سادوا العالم عندما تمسكوا بقيمهم وقبلوا الآخرين وحافظوا على قيم وثقافة أولئك الآخرين، وها نحن نجد أن القائد خالد بن الوليد يتصرف ببصيرة الإستراتيجي المحنك الذي سبر واستوعب معنى المحافظة على القيم حين كان يحاصر مدينة حمص، وأتاه أمر بالانضمام إلى جيش أبي عبيدة بن الجراح المعسكر قرب نهر اليرموك، وكان قد أخذ الجزية من أهالي حمص، ولكي يحافظ على القيم الإسلامية ومشاعر أهالي حمص قال لهم هذه جزيتكم ترد إليكم، فقالوا له هذه أبواب حمص مغلقة حتى تعود يا خالد، وبذلك نشر أشرعة المحبة والسلام بين المسلمين وبين من تعامل معهم. هذه هي ثقافتنا، وأما ثقافة الغرب الحالية فإنها تسعى إلى طمس هوية الشعوب الأخرى وإلى إلغاء تراثهم وهذا مناقض للواقع والموضوعية.

وفي هذا المجال نجد أن ثقافة فكرة عدم قبول الآخر لدى الغرب قد انطلقت منذ ألف سنة عندما قام الغرب بحملاته الصليبية وكان شعارها يشير إلى تحاملهم على الآخرين وعدم الاعتراف بحضاراتهم ووصفوا أصحابها بأنهم بربر ومتوحشون، وقد عمموا بين جنودهم أن فلسطين يسكنها شعب همجي ويتحكم ببيت المقدس ولا بد من إنقاذه من يد أولئك البدو الرعاة البربر وقد تعززت هذه الفكرة على يد مؤرخي الغرب وساسته ابتداء من نهاية القرن الثامن عشر ووصلت أوجها في القرن التاسع عشر. وقد ركز المؤرخون على المفهوم القائل إن أوروبا هي مركز العالم وأن الشعب الأوروبي يتمتع بالعقل النير وأن ذلك الشعب هو الذي يحمل لواء الحضارة لدرجة أنهم أطلقوا على تلك الفترة (عصر التنوير)، أي أنهم هم الوحيدون المؤهلون لنشر العلم والمعرفة وأما الآخرون في الشرق عبارة عن برابرة لا يمتون للإنسانية بصلة وتجاهلوا أن كل ما كان لديهم قد أخذوه عن الشرق وحضارته.

وفي هذا المجال لا بد من القول إنهم قد أخذوا مئات آلاف الكتب من المكتبات الأندلسية بعد سقوط الأندلس، تلك الكنوز التي خلفها الفلاسفة العرب والمسلمين أمثال ابن خلدون وابن رشد والمواردي وابن سينا وأبو العلاء المعري وحسن بن الهيثم بعد أن كانوا قد ترجموا كتب سقراط وأفلاطون وأرسطو واطلعوا على الحضارة اليونانية والرومانية والفارسية والهندية والصينية وأضافوا إليها الشيء الكثير، فكان دورهم دورا تكميليا في جميع العلوم، ويكفي القول إن كتب ابن خلدون وابن رشد وابن سينا وحسن بن الهيثم قد درست في أوروبا حتى نهاية القرن السابع عشر، وبعضها ما زال ساري المفعول حتى الآن، ولنذكر على سبيل المثال أن علم الجبر قد أخذ الغرب اسمه Al-Gebra من اسم جابر بن حيان وأن الشاعر الإيطالي المشهور DANTE قد أخذ ملحمته الكوميديا الإلهية The Divine Comedy عن رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وبهذا يمكن القول بأن العرب والمسلمين هم الذين نشروا فكرة العولمة قبل الغرب مع التنويه بالفرق الشاسع بين عولمتنا العادلة والمنصفة والخيرة وبين عولمة الغرب، إذ إن عولمتنا قد كانت بعيدة عن التعصب والتحيز والإكراه وحينما دخل الإسلام ترك لتلك البلدان حرية الاعتقاد، بل وحافظ على دياناتها وتراثها، دخل الهند ولم يتدخل بدياناتها فبقيت الهندوسية والبوذية وطقوسها وعاداتها، ودخل البلدان التي حكمتها الإمبراطورية الرومانية فأبقى على الكنائس ودور العبادة واستمرت محترمة، وفي أفغانستان بقيت تماثيل بوذا كما كانت قبل دخول الإسلام إلى تلك البلاد، ويظهر الفرق بين ثقافاتنا وثقافة الغرب بأننا نشرنا العلم حيث ذهبنا، وأما هم فقد أخذوا الكتب من الأندلس وأغلقوا الأبواب عليها في الفاتيكان وبقيت حبيسة هناك حتى وقت متأخر، وهنا يكمن الفرق بين العولمة الخيرة القديمة التي طبقها العرب والمسلمون قبل أن ينادي بها الغرب، ويحاول تعميمها بالإكراه وإلغاء الآخر.

وكلنا نعرف أن الغرب قد انطلق في القرن الثامن في حملاته الاستعمارية واحتل مناطق واسعة من العالم وتعامل مع شعوب تلك البلدان على أساس أنهم برابرة وحاول إلغاء تراث تلك الشعوب وقيمها.

أعاود القول بأن ثقافتنا ترحب بالآخر ولكن بشرط أن لا يكون هناك تعرض لقيمنا وتراثنا، وقد عبر عن هذا المفهوم الزعيم الهندي غاندي بقوله: أهلا وسهلا بكم أيها الغرب في بلادنا - الشرق - ولكن عليكم أن لا تطأوا بأقدامكم على جذورنا، وكان ذلك القول خط الدفاع الأول الحصين الذي تبناه الشعب الهندي ودافع عنه واستطاع بذلك أن يحافظ على تراثه وحضارته وقيمه وأن يصمد في وجه تلك الهجمة الغربية التي لم تخل من العنف والبربرية، والتي أراد أصحابها أن يزيلوا تراث ذلك الشعب من الوجود، ولكن الغلبة كانت للشعب الهندي، وكلنا يعرف أن الهند قد أصبحت دولة نووية متقدمة يحسب إليها ألف حساب وما ذلك إلا لأنها تمسكت بقيمها وحافظت على تراثها.

هناك مثل آخر هو الصين التي مر عليها ظروف عصيبة ومحاولات عديدة لإخضاعها وإلغاء حضارتها التي امتدت عبر التاريخ، وها نحن نجدها اليوم قد انتصرت وما ذلك إلا بسبب محافظتها على قيمها وتراثها الكنفوشيوسي الذي زاد عمره على 2500 سنة تقريبا، ولا ننسى أن نذكر اليابان التي دمرت تدميرا كاملا في الحرب العالمية الثانية ولكن الشعب الياباني لم يستسلم فبقي على احترامه لإمبراطوره وتقديسه له وتمسك بتراثه وعاداته وتقاليده وجذوره، ودافع عن تلك الجذور بكل الوسائل، وها نحن نجده اليوم يقطف ثمار سعيه في الدفاع عن قيمه وجذوره ويصل الآن إلى مرتبة الدول المتقدمة في كافة المجالات، ويحقق ما وعد به إمبراطوره عندما وقع صك الاستسلام أمام القائد الأمريكي حيث كان يتمتم وهو يوقع قائلا: (إني متأكد بأن الشعب الياباني سيمحو عار هذا التوقيع وهذه الهزيمة).

وهكذا استنادا إلى ما سبق وانطلاقا مما أثبته التاريخ القديم والحديث نجد أن تمسك الأمة بقيمها المحمودة وجذورها يوصلها إلى أعلى المراتب ويفرض على الآخرين احترامها، ولذلك علينا أن ندافع عن قيمنا ونتمسك بجذورها وأن نأخذ درسا من التاريخ إذا أردنا أن نرتقي سلم المجد والعلياء والارتقاء بأمتنا إلى المراتب اللائقة التي تتماشى مع تاريخنا المجيد وحضارتنا المعطاءة.

مي عبدالعزيز السديري



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد