Al Jazirah NewsPaper Monday  15/12/2008 G Issue 13227
الأثنين 17 ذو الحجة 1429   العدد  13227
العلم في الميزان
صلاح بن سعيد الزهراني

كنت في مهمة دراسية إلى إحدى الدول العربية الشقيقة، وفي طريقي إلى الفندق الذي نزلت فيه سمعت مواطنا يقول بصوتٍ عالٍ: (العلم لا يكيل بالباذنجان)، وكان يبدو عليه الغضب الشديد، فدنوت منه أستوضحه الأمر، فقال لي إنه يعمل معلماً لمادة التربية الدينية في مدرسة خاصة، وقد حاول مدير المدرسة مساومته على تخفيض أجره، فرفض المدرس طلب المدير وخرج من مكتبه ثائراً إلى الشارع وهو يقول ذلك، ثم أردف قائلاً: يشوفوا لاعبي الكرة كم أجرهم، أو الفنانين والفنانات (ما يسيبونا في حالنا)، وخففت من غضبه بمزحة خفيفة وتركته وكلي أسى على المعلمين والعلماء الذين يقومون على تنشئة الأجيال الجديدة، وهم يعاملون بما لا يليق بهم.

لقد اختار الله عز وجل هذه الأرض الطيبة لتكون تربة غرسه، والغرس لا يكون إلا في تربة ومناخ صالحين لنمو الغرس المفترض، ذلك ميزان البشر، فما بالك باختيار الحكيم الخبير، وشرفت هذه الأرض باستقبال رسالة الله الخاتمة والخالدة، دعوة للعلم والتفكر للعالمين، هداية لمن أراد الله له هدايته، وكان أول ما جاء به التنزيل (اقرأ) ليقول للبشر أنه الخالق وحده وموجد الحياة بكافة أشكالها، وأنه القادر على محو ظلام الجهالة وإبداله بنور العلم من خير معلم وأول معلم للبشرية جمعاء، إذ مد الوجود بأسبابه ووسائله ومنها القلم الذي يخط ويسجل في أوعية تحفظ العلم لأجيال، فذاكرة الحفظة قد يعتريها الوهن، أما ما يكتب فهو باق بقاء المادة والمحتوى، وهو الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.

قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (31) سورة البقرة.

وإذا كان العلم هو وسيلة للتعرف على طبيعة الأشياء وكنهها، فالعلماء هم صفوة المجتمع الذين اختارهم الله لحمل مشعل النور للبشرية جمعاء، وللعلم دوره في معرفة الخالق عز وجل وفي ذلك يقول رب العزة والجلال:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} فالعلماء هم ورثة الأنبياء، وكلما تقدم العالم بدرب من دروبه لمس من خلاله وجود الخالق عز وجل، فكل طريق للعلم يؤدي إلى إثبات وجود موجد الحياة رب العالمين.

كذلك للعلم دوره في بناء الفرد والمجتمع القادر على حمل الأمانة وإبلاغ الرسالة، فالعلم يرفع قدر المتعلم والمعلم والعالم، ويكرمه من الخالق وبين الخلق، وفي ذلك يقول عز وجل:{ شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} سورة آل عمران(18) فانظر إلى مكانة العلماء في هذه الآية الشريفة، وفي موضع آخر يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}سورة المجادلة(11) ، وفي موضع ثالث يقول: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}سورة الزمر (9)، ويقول: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ }سورة العنكبوت (43). فإذا كان العلم باسم الله وتحقيقا لشريعته في أرضه وخلقه، فهو يوقف الإنسان على أصول الأشياء وطبيعتها في حدود معارفنا التي يقول فيها عز وجل: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}سورة الإسراء(85).

والمتأمل لكتاب الله عز وجل يملس قدرته في تعليم البشر، فتأمل قوله تعالى عن خلق الإنسان من عدم أولاً، وتوالده عبر تكوين الأجنة في ظلمات ثلاث خلقا من بعد خلق، نطفة فعلقة فمضغة فعظاماً ثم يكسوها لحماً، فتبارك الله أحسن الخالقين.

ويقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في فضل العلم: (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب)، ويقول: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم)، (ومن سلك طريقا يطلب فيه علماً سهل الله له طريقا إلى الجنة)، (ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).

والعلم أولاً وأخيراً هو قبس من نور الله تجلى به على عقول البشر فمحا عنا ظلمات الجهالة بقدر معلوم نلمسه فيمن حولنا، به يعرف الإنسان كيف يبني وينمي ويعمر الحياة، وعن طريقه يعرف حقوقه وواجباته ومسؤولياته تجاه نفسه ومجتمعه بعد معرفته للخالق عز وجل، ولأهمية العلم أمر الرسول الكريم وهو أول معلم لأمة الإسلام بأن يكون محو أمية عدد من المسلمين بديلاً عن بذل المال فداء لأسرى المشركين، ويقول رب العزة: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} سورة الجمعة (2).

كان العلم غاية ووسيلة لدى المسلمين والغرب في سبات عميق في عصور الظلام، والمسلمون قد امتثلوا لأمر ربهم بتوجيهات رسوله الكريم وسلكوا طريق العلم في كافة دروبه ومسالكه، لذلك واكبت حركة التعليم في الإسلام ازدهار الحضارة الإسلامية، ونظراً لاتساع بحر العلوم اقتضى الأمر أن تكون هناك مجالات للتخصص في فرع أو جانب معين من العلم.

وعلى قدر علم العالم وعمله بما تعلم يكون الجزاء، قال تعالى: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} سورة آل عمران(195).

فواحسرتاه على مكانتنا العلمية الآن بين البشر، فبعد أن كنا نتقدم الصفوف لم يعد لنا مكان الآن إلا في صفوف متأخرة، فهل تعود أمجاد العرب والمسلمين العلمية إلى القمة من جديد.

أسأل الله عز وجل أن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يثبتنا على الحق والدين، وأن يهدينا إلى الطريق القويم، وأن نكون من عباده المخلصين.... آمين.



alkatbz@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد