سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
أشكرك أستاذي د. خالد شكراً لا يحده حد على جميل تفاعلك، وعظيم امتناني على ما تدلي به من آراء نيّرة، وكلمات تنير بها درب الحائرين، فجُزيت من المولى عظيم الأجر والثواب، وأسأله أن يمدك بعونه وتوفيقه. |
أكتب لك أنت أستاذي خالد، وكلي أمل أن تصلك رسالتي، فهذا ما أعانيه وأطلب منك نصيحة تعيد لي الحياة والأمل. |
تركت دراستي مجبرة نفسي على ذلك، مستواي ممتاز ولله الحمد، تركتها لأن والدي الموقر لا يلبي متطلباتي الدراسية، مع أن حالتنا ميسورة ولله الحمد، ويقدر على ذلك، لا أراه بخيلاً فربما شيء آخر لا أعلمه، وكأني أطلب ما لا أستحقه، إن طلبت شيئاً يغضب، والله يا أستاذ خالد حتى القلم إن (خلص) حبره وطلبت منه أن يشتري، يقول إنه قبل أيام اشتراه! دائماً يتعذر، وإن لبى شيئاً لباه على مضض وهو غضبان، سنوات دراستي كانت على هذا الحال، إلى أن طفح بي الكيل وتركت الدراسة عن آخرها، كيف لي أن أكمل مشواري الجامعي الذي يتطلب أكثر من المدرسة، والذي يحتاج إلى مصاريف أكثر وأكثر، تفكرت في حالي، تحطمت، كل ما خططت له انهدم في لحظة أمام المادة، سلمت أمري لله وتوكلت عليه أن يخلف لي خيراً من الدراسة، وسألته راحة البال، ترفعت عن السفاسف والمحقرات واستصغرتها، ولم أرضَ بالدون والقعود، اتجهت إلى الحياة الافتراضية (الإنترنت)، حققت ما أريد وخاصة في تطوير الذات، كل هذا في فترة قصيرة، وما زلت في طور التعلُّم، فالحمد لله الذي فضلني على كثير من خلقه. |
رأيت مجتمعي الذي لم يحسن استخدام ما في يده من نعم الله، ومع ذلك أراه ينعم وما يطلبه يجده، أراهم في لهو ولعب، لا يهمهم سوى ملذاتهم وشهواتهم، فنار تحرق صدري وما إن تخبو إلا وتشتعل مرة أخرى، أبكي والمجتمع يغني، أتصبر بقول الله تعالى: {إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً} سبحانك ربي، فيزيد في نفسي ترك كل ما يحط من كرامتي وأترفع عن محقرات الأمور أكثر وأكثر، وأزداد تعلماً وأدباً؛ لأن الأدب هو الذي يرفع الإنسان ويزيد من قدره. يا أستاذي خالد ترفعت عن كل شيء بسبب الدراسة، ومع ذلك لم أحصل على أقل ما أريده، هل من يلعب ويلهو أحق بالحياة والعيش فيها؟ أحياناً أفكر في العيش مثلهم لعلي أحصل على بعض ما أتمناه، لكن خوفي من ربي ينهاني عن ذلك. |
تعبت من حياتي، فأنا لا شيء في الحياة الواقعية، إنسانة ناقصة، ناقصة من حقي الطبيعي: الدراسة وأشياء أخرى، مرت ثلاث سنوات وأنا لا شيء، مضى من عمري 21 سنة، يأس قضى وبلا هون على بقايا الأمل الذي كنت أنتظره، واتضح لي أن الأمل ما هو إلا سراب أحسبه ماء، ليس لي في حياتي إلا تعبد الله والتقرب إليه بالطاعات، لا أطلب شيئاً في الحياة لأني أعلم أن ليس لي نصيب في الحياة، هكذا علمني والدي سامحه الله. يقال إن إكمال الدراسة ضمان للمستقبل، كيف لي أن أضمن مستقبلي وأنا لا شيء، محطمة، يائسة من متطلبات الدراسة والحياة، أيضاً يقولون لن يرضى رجل أن يتزوجني وأنا لم أكمل دراستي، والرجال يستهزئون بالمرأة التي لم تكمل تعليمها! والله لا أفكر في الزواج أبداً، وكلما يقولون لي هذا أستصغر الزواج أكثر وأكثر، يا أستاذي خالد هل الشهادة مقياس على الأخلاق والدين؟ هل الشهادة مفتاح للزواج؟ |
ولكِ سائلتي الكريمة الرد: |
* الإنسان في غمرة آلامه تساوره أفكار أشد عتمة من الليل البهيم وأكثر قسوة من الصخر الأصم، ولربما وجد نفسه في ضيق شديد وكرب خانق، ولكن تلك القضبان المنيعة والليل المخيف عما قريب سيكونان أثراً بعد عين، فلننتظر هبوب الريح ولو بدا لنا سكونها.. تحدثتِ عن تركك للدراسة وأن والدك هو من دفعك لهذا كونه لا يلبي حاجاتك الدراسية، وعموماً قرار توقفك عن الدراسة كان قراراً شخصياً بنسبة كبيرة، وكان هناك أكثر من حل في قضية توفير المستلزمات الدراسية لا تصل بحال إلى خيار التوقف عن الدراسة! ومع تفهمي لحجم الضغوطات التي تعرضتِ لها، ولكن أن يصل الأمر إلى ترك الدراسة فهنا أستطيع القول إنك لم توفقي في هذا القرار, ولستُ بمعرض التشديد عليكِ ولومكِ وعتابكِ أبداً، حاشا لله؛ فما حصل لك أمر قد قدّره الله عليك، والحمد لله على كل حال، وإنما هي نصيحة لك في حياتك ولمستقبلك، ودعوة لركوب صهوة الصبر والتحايل المشروع ما أمكن وتلمُّس الحلول عند اشتداد الأحوال وتأزمها خلاف ما فعلتِ في هذا الموضوع من خيار ذي طابع حدِّي بحت. |
* لو تأملتِ - وُفِّقت للخير - في الكثير من أصحاب الإنجاز لأدركت أن بضاعتهم هي الخروج من حال التمني والتشهي إلى حال التحرك وفعل ما يمكنهم فعله، ولستُ أشك أنهم عاشوا في ظروف أسوأ من ظروفك!! وحتى نصنع من أنفسنا شخصيات ناجحة فلا بد من الكف عن اختلاق الأعذار، وهذا لا يكون إلا بمواجهة صريحة مع النفس، وتلك المواجهة تستلزم قدراً من الشجاعة تمكننا من قراءة واعية للماضي وتفاعل جيد مع الحاضر وتخطيط ذكي للمستقبل. |
* والحياة ابنتي عامرة بالتحديات مشبَّعة بالمنعطفات، وهناك الكثير من الحواجز لزاماً على الإنسان مواجهتها أو التعايش معها! أما الانسحاب السريع والهروب عند ظهور شيء من تلك الصعوبات فلن يجرَّ علينا إلا الويلات.. ابنتي الكريمة، أحسب أن بداخلك بركاناً يفور ورغبة جامحة في تطوير شخصيتك وطلب العلم، وتلك دلالة نضج ومؤشر نجاح بإذن الله، والعاقل هو من ينظر للحلول المتاحة دون أن يضيع وقته في محاكمة الماضي واجترار أحداثه؛ ففي ذلك ضياع للوقت وهدر للصحة والجهد، ومعه يضيع العمر وتبقى الحسرات. |
أنصحك بأن تُكملي دراستك انتظاماً أو حتى انتساباً، ولم أفهم من رسالتك أن أهلك ضد فكرة دراستك؛ لذا فأظنهم سيباركون قرار الإكمال، فدعي عنك التوجع؛ فما زلتِ صغيرة، وأعرف الكثير ممن أكمل دراسته وهو في سن متقدمة حتى نال أعلى الشهادات! تجاوزي الماضي بكافة تفاصيله؛ فتلك أمة قد خلت.. وإنْ تعذرت فكرة الإكمال تماماً بعد بذل الجهد فلله الأمر من قبل ومن بعد: |
سلام عليها ما أحبت سلامنا |
فإن كرهته فالسلام على أخرى |
واعلمي أن الحياة لم ولن تتوقف، وحياتك لا تزال تحت سيطرتك، ولديك هامش عريض تتحركين فيه، ومن ذلك التركيز على فَنٍّ معين ومواصلة القراءة والتثقف ومحاولة الانتساب إلى إحدى الدور النسائية؛ فالعمل من قاتلات الهمّ الأكيدة. إذن محور الحل هو التركيز على ما يمكنه فعله. أتعرفين (أوبرا وينفري)، تلك المذيعة الشهيرة التي فاق تأثيرها تأثير جامعة بأكملها، وحتى من الرئيس الأمريكي، ووصفتها مجلة التايمز بأنها إحدى أكثر الشخصيات تأثيراً قي القرن العشرين، ودخلها السنوي فاق الـ300 مليون دولار، تلك المذيعة - كما يذكر صاحب كتاب عظماء بلا مدارس - لم تُكمل تعليمها، ومع هذا نالت كل العز رغم أنها عاشت في طفولة مؤلمة؛ حيث قسوة العيش وقهر الاغتصاب!! |
والله إني لستُ أخشى ظروفك بقدر ما أخشى بعض أفكارك السلبية! ما أتمناه ابنتي أن تراجعي أفكارك تجاه نفسك ووالدك وظروفك؛ فجزماً لستِ الأسوأ حالاً في البشر! |
في كل بيت محنة وبلية |
ولعل بيتك إن شكرت أقلها |
وهناك ما يسمى بقانون الاعتقاد الذي ينص على أنه: أيا كان ما تؤمن به بثبات فسوف يصير حقيقة واقعة. يقول برايان تريسي: إن أكثر المعتقدات ضرراً هي تلك المعتقدات التي تضع حدوداً على ذاتك. وتلك الأفكار هي التي وضعت حواجز منيعة على حياتك ومستقبلك، وما هي إلا نتيجة وثمرة لظروف وأحداث لم تجتهدي الاجتهاد الكامل في قراءتها قراءة متأنية، وللأسف أنك تلقيتها بلا مساءلة ولا نظر!! |
أختي الكريمة.. إن أردتِ السعادة والنجاح فلا بديل لديك من الاقتناع الكامل بما يتوافر لديك؛ فالسعادة المطلقة لا وجود لها إلا في خيال الشعراء, والزواج لستُ أراه مرتبطاً بحال بقضية الشهادة؛ فالكثير من المتزوجات من اللواتي لم يكملن تعلميهن، والزوج لا يتقدم ويخطب شهادة! بل يخطب امرأة يرى فيها سكناً له ومحضناً لتربية أولاده.. تمتعي بأروع ما لديك، وارضي بما قسم الله لك، وابتهجي بما تملكين، ولا تكوني من صُنّاع التعاسة الذين يلهثون خلف ما لا يملكون! فقائمة ما لا نملك عريضة جداً، وحتى لو أكملتِ دراستك وتزوجتِ ستبقى القائمة كما هي ولن تتغير كثيراً!! وما أروع ما أُثر عن علي - رضي الله عنه - بقوله: السعيد من استهان بالمفقود! |
تحدثتِ عن المستقبل وخوفكِ منه، وأقولُ: إنَّ المستقبل الألق الجميل نحن مَنْ يصنعه في حاضرنا شريطة ألا نمزج به ذكريات الماضي وما فيه من أحزان وخيبات وأخطاء، التي لا خير لنا بتأبيدها واسترجاعها، ونحن إن فعلنا أضفنا إلى حاضرنا أعباء لا قِبل لنا بحَمْلها! تحرري من ماضيكِ واستعيني بخالقكِ وتوكلي عليه وسيكفيك غدكِ كما كفاكِ يومكِ. |
وتذكري ابنتي أن التفجع على الماضي إنما هو ضمانة أكيدة لولادة حاضر ومستقبل أكثر تعاسة وأشد بؤساً! لقد مضى الماضي فهلا أغلقتِ الباب دونه!!! |
وفقكِ الله ويسَّر أمركِ وكتب لك الخير. |
|