Al Jazirah NewsPaper Tuesday  30/12/2008 G Issue 13242
الثلاثاء 02 محرم 1430   العدد  13242

الكراسي الفاخرة
د. عبدالله بن سعد العبيد

 

لفت انتباهي أثناء بحثي عن موقف لسيارتي أمام إحدى المكتبات المعروفة واجهة معرض للأثاث المكتبي، وقد تعمد القائمون -كالعادة- على عرض أفضل المصنوعات للفت نظر المارة، وهذا ما حدث فعلاً. بيد أني توقفت كثيراً عند أحد الكراسي الجذابة ذي الجلد الفاخر واللون الكرزي الجميل

وقد بدأ بالتوقف عن الدوران بعد أن مرَّ أحد المتسوقين، وقد راقه تدوير الكرسي ربما للتجربة أو الفضول.

تأملت ذلك الكرسي وأنا داخل سيارتي وأخذت أفكر بكراسي المسئولية هذه الأيام، فاستعدت بذاكرتي كثيراً من الكراسي الفاخرة المستخدمة هذه الأيام فوجدتها تمتاز بمواصفات فنية كثيرة، منها أنها سريعة الحركة بفعل العجلات التي وضعت أسفلها ومرنة بشكل يثير الدهشة بحيث تقوم بالدوران حسب الاتجاه الذي يفرضه مستخدموها، وفاخرة بجلدها أو القماش الذي تم تلبيسه عليها مما يخلق علاقة روحانية بينها وبين مستخدميها لدرجة العشق والهيام.

ذلك العشق والهيام والحب والمرونة وسرعة الحركة وكثير من الميزات الأخرى جعل كثيراً من البشر يتراكضون نحوها وتزول لأجلها كل المبادئ والقيم وتكثر التضحيات بسببها، فهي الأمان والملاذ والعز والهيبة.

الغريب أن الكراسي التي لم يسع إليها البعض ولم يهرولوا لها نادراً ما تكون بذات الجودة والفخامة الفارهة، وكثير مما تم تقديم التضحيات بكل أنواعها للحصول عليها تكون بفخامة تلك التي وصفناها قبل قليل.

وأنواع الكراسي متعددة، فمنها ما يبعث على الاسترخاء بفعل جلدها أو قماشها ويبعث على التأرجح يمنة ويسرهة بفعل قدرتها على الدوران، ويبعث أيضاً على الإطئنان بسبب قدرتها الباهرة على التحرك بالسرعة المطلوبة والاتجاه المراد.

أما أنواع مستخدمي تلك الكراسي فعدة أيضاً، حيث منهم من يستكين وتطيب له الإقامة ويطيل المكوث متناسياً أن فعل البقاء قد لا يستمر وما هي إلا صفحة سيتم طيها ونسيانها، بل ربما قلبها بذات السرعة فيجد نفسه منقلباً على وجهه تمهيداً لبلوغ سلف له.

أما النوع الثاني فقد أوتي شيئاً من بعد النظر والحنكة، فأدرك منذ البداية أن المهلكات تكمن في المغريات، فرفاهة الكرسي وسرعته ودورانه ونعومة أقدامه مزايا تحمل الحسنة والسيئة على حد سواء، بل ربما حملت المذلة والسقوط المهين بذات المقدار من العزة والمجد، وهم لذلك يتخذون سلفاً كل الاحتياطات اللازمة ببقائهم على الكرسي أطول فترة ممكنة. وقد يشغلهم ويلهيهم ضرورة التزود من الموجود تحسباً للمفقود، ومن عاجلتهم المغرية إلى آجلتهم المقفرة والتزود بكل أنواع المكاسب قبل أوان الخسائر. ولذلك تجد لدى هؤلاء قدرة خارقة على توظيف إمكانيات الكرسي بما أوتي من تقنيات عالية من دوران والتفافات وسرعة حركة واستكانة مؤقتة.

وهناك نوع ثالث، تلك الفئة التي سعت الكراسي إليها، وكانت الكفاءة والجدارة طريق الوصول إليها، والعفة والنزاهة وسيلة البقاء عليها، فكانوا أزهد الناس فيها، وأقلهم حرصاً عليها وتشبثاً بها.

يؤمنون بحقيقة خداع مظهرها، ووهم الاطمئنان إليها، وأن انقلابها وشيك، وأن زوالها سريع وأن دوامها مستحيل، ولذا فإنهم حريصون على تقديم النفع للناس دون مَنٍّ ولا أذى وتحاشي وقوع الظلم وتحري الحلال والابتعاد عن الحرام مما يبقي أيديهم نظيفة ونفوسهم عفيفة ديدنهم الإخلاص، وعقيدتهم التقوى، ومنهجهم العدل بين الجميع.

لذا تجد أحدهم مطمئناً يتحرك دونما وجل ولا خوف، ينام قرير العين، لا يخشى انتقام مظلوم أو غدر محتال، فيحرسه عدله وينصفه إخلاصه ويؤمّنه عقيدته.

وحسبي أن لسانهم يردد قول الشاعر:

وإذا غلا شيء عليّ تركته

فيكون أرخص ما يكون إذا غلا

dr.aobaid@gmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد