Al Jazirah NewsPaper Thursday  01/01/2009 G Issue 13244
الخميس 04 محرم 1430   العدد  13244
بين خيار إعادة تشكيل الهوية أو الترشيد المتوازن للوافد إلينا
د. خالد بن محمد الصغير

 

يبدو أن عصر العولمة، والانفتاح على الآخر، والثورة المعلوماتية الزاحفة إلينا عبر وسائل الاتصال الحديثة المختلفة جعلت شريحة عريضة من أبناء الوطن، وبخاصة فئة الشباب تعلن دون أدنى موارية..

زهدهم في كل شأن من صنعنا، أو لنقل إنتاجنا المحلي في مختلف المحاور والمجالات.

فها هو عصر الانفتاح على الآخر، وتداخل الثقافات وتمازجها - كما يردد شبابنا- قد ألقى بظلاله على نوعية الملابس التي يرتديها جيلنا الصاعد. فتجدهم ينظرون لارتداء ثيابنا التقليدية المعتادة على أنها (دقة قديمة) لا تتناسب بحال وعصر الانفتاح الذي نعيش اليوم لحظاته، بل إنهم يتمنعون على الظهور بين أقرانهم مرتدين ملابسنا بحجة أنها لا تواكب ملابس (المودرين) التي يتباهى بارتدائها من هم على شاكلتهم والتي أضحت العنوان الأبرز للفئة العمرية الشابة الأكثر حضوراً في المشهد الاجتماعي السعودي.

والأمر لا يقتصر على جانب اللباس، وإنما طال حتى الزهد، بل والامتناع عن إمضاء لحظات الاستجمام في ربوع الوطن. فما أن تقترب أوقات الإجازات إلا وتعتلي أصوات أبناء وبنات أسرنا الكريمة بالبحث لهم عن دولة هنا، أو هناك ليقضوا فيها إجازتهم والسبب -حسب وجهة نظرهم- أن ليس في أرجاء الوطن ما يمتع الناظر، ويرضي الخاطر، ويبعث على الفرحة والسرور، وهم بقولهم هذا لم يصيبوا كبد الحقيقة جلها، وإنما هم مدفوعون برغبتهم النأي بأنفسهم عن كل ما له مساس بالوطن من قريب أو بعيد.

وإلى جانب ذلك نجد أن الذوق العام، وبخاصة في محيط فئة الشباب والشابات يبدي عزوفاً حتى في مأكولاتنا وأطباقنا التقليدية. فلا غرابة أن نجد فلذات أكبادنا يصدحون وبكل ثقة أن أكلنا لم يعد يطيب لهم مذاقه؛ فهو لا يرقى بحال لمذاق أكل هذه الدولة، أو تلك، وبخاصة تلك الأنواع التي صارت ماركة غذائية مسجلة تجدها تقدم في سلسلة مطاعم انتشرت كالهشيم في جميع أصقاع العالم، ناهيك عن تواجدها في كل ركن من أركان وطننا المترامي الأطراف. لا يهم القيمة الغذائية وانعكاسها على الصحة العامة، المهم أنني أريد -كما يقول لسان حال الجيل الحالي- أن أكل ما يتم التسويق له كوجبات غذائية ذات طابع عالمي يقبل عليها الناس في مشرقة ومغربة فذلك يمنحهم شعوراً بأنهم جزء من عالم اليوم.

وحتى الرياضة المحلية التي تلقى عادة متابعة عريضة نالها نصيب من عزوف فئة جيل النشء إذ إنهم لم يعودوا يكترثون كثيراً بمتابعة المسابقات الرياضية المحلية، وإنما صرفوا أنظارهم نحو الرياضة العالمية، وبخاصة المسابقات الرياضية الأوروبية وفي كرة القدم تحديداً وذلك ماثلاً للعيان من خلال معرفتهم واعتزازهم باللاعب غير الوطني، وارتدائهم لقمصان لاعبين عالميين ومتابعتهم وتفضيلهم مشاهدة المباريات العالمية.

هذه موافق متناثرة لفتت انتباهي وهي آخذة بالتزايد والاتساع يوماً بعد آخر لتطال مناحي متعددة في مشهدنا الاجتماعي المحلي، وتواترت حوادثها ووقائعها أمام الناظر أينما حل، وفي أي موقع يتواجد فيه في عرض بلادنا وطولها لدرجة جعلت المرء يردد مع المثل الشعبي الدارج أن مزمار حينا لم يعد يطرب كما كان. كيف لا وشريحة واسعة النطاق من أبناء هذا الوطن بدأت بقرع أجراس تخطي أصواتها الحدود المعقولة منادية بالعزوف عن التعاطي مع كثير مما لدينا في مناح شتى.

وإزاء تنامي وازدياد هذه الظاهرة الاجتماعية يحق لنا أن نفكر في الإجابة عن عدد من التساؤلات التي منها: هل نحن أمام إعادة تشكيل لهويتنا؟ والابتعاد مسافات عما نمتلكه من قيم، ومبادئ وموروث ثقافي ومعرفي تفتخر وتعتز فيه؟، وهل نحن بصدد الدخول في مرحلة الخطر إن لم نتصد لهذه الظاهرة وهي ما زالت في بداياتها، أو مهدها؟ أو أن الأمر يأتي ضمن سياق طبيعي تفرضه معطيات ومستحقات الفترة الراهنة التي نعيش لحظاتها، ومن ثم يجب أن يكون تركيزنا منصباً حول ترشيد ما نتلقفه، والعمل على استبقاء الصالح منه، والتصدي بكل قوة في وجه الطالح. هذه جملة من التساؤلات والأفكار جالت في خاطري وأنا أتأمل في تنامي ظاهرة الزهد في جوانب شتى من معطيات حياتنا المتعددة المشارب ذات المصدر والمنشأ المحلي.

وأجدني ميالاً إلى القول كجواب لجملة الأسئلة الآنفة الذكر أنه من غير الحكمة التصدي بكل ما أوتينا من قوة لانعكاسات من يحدث من حولنا من متجسدات، لأننا في النهاية سنمنى بهزيمة ساحقة، وستذهب جهودنا سدى. وذلك يعود إلى أننا ليس باستطاعتنا إغلاق جميع منافذ تسلسل ما يمكن أن يصل إلينا من نتاج العالم بشقيه الفكري والمادي، فثورة الاتصالات التي جعلت العالم بمثابة قرية كونية صغيرة جعلت من غير الممكن، بل من المستحيل الوقوف بوجه التمازج والتداخل أو لنقل بعبارة أكثر دقة الانصهار العالمي في ألفيته الثالثة، وهكذا فالتحولات الدولية التي نشهدها اليوم لا قبل لنا في تعديلها أو تحويلها. والمناداة بذلك هل هي دعوة للاستسلام والتقاعس، والوقوف مكتوفي الأيادي، وترك أبوابنا مشرعة على مصراعيها ليدلف إليها كل ما جاد به العالم شرقه وغربه حسنه وسيئه؟

لا بإمكاننا عمل الكثير تحت عنوان كبير اسمه (التوعية والترشيد المتوازن) القائم على أسس علمية، لا على اعتبارات عاطفية تستند إلى إقصاء ما يمتلكه الآخر من قيم، ومبادئ ومعطيات حضارية لا لسبب إلا أنها ذات مصدر خارجي مخالف لما نمتلكه، والاعتزاز بما لدينا بالرغم من مخالفته لسنن الكون، ومبادئ شريعتنا السمحة. إذاً نحن يمكن أن نبرز محاسن ومساوئ ما يفدنا إلينا من غير مبالغة وتهويل ومن ثم ترك الخيار للمتلقي في محاولة منا للابتعاد عن ممارسة أي من صنوف الوصاية، وفرض الرؤية الواحدة. أفراد مجتمعنا أصبح لديهم من الوعي والإدراك، والمعرفة بقدر يجعلهم قادرين على الاختيار بأنفسهم، دورنا إذاً ينبغي أن يتوقف عند القيام بحملات توعية، وتقديم خطوات عملية لكيفية التعامل الأمثل لما يتم تصديره إلينا من قيم، ومعارف ومنجزات حضارية ومحاولة رفع سقف الاعتزاز بما لدينا مما يقابل تلك الأمور على مختلف الأصعدة الثقافية، والاجتماعية والسياسية وغيرها من المجالات، وتحديداً المتناغمة والمصاغة وفق الأطر السليمة في كل صعيد من هذه المجالات.

ومن هنا فجهدنا ينبغي أن يكون منصباً نحو توعية الناس بأن ليس كل ما يتخذ الصبغة العالمية هو في واقعه نموذج يجب أن يتبنى ويحتذى وأنه الرقي الحضاري الذي لا رقي بعده. رسالتنا لبني قومنا يجب أن تكون أن عليكم التريث في استقبال ما يفد إلينا حتى ينجلي ضرره من نفعه، ومعرفة مدى مناسبته لنا من عدمه. وأن نحاول أن نؤكد أننا يجب أن ننطلق في تلقينا مع أي منجز إنساني ثقافيا كان، أو علميا، أو حضاريا بعدم الشعور بالعجز والانبهار فلنا إرثنا الغني في كل مجال، ومن هنا يجب أن نحاول فقط انتقاء الصالح وتنحية الطالح جانباً مما جادت به الإنسانية المعاصرة من منجزات حضارية.



alseghayer@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد