Al Jazirah NewsPaper Sunday  04/01/2009 G Issue 13247
الأحد 07 محرم 1430   العدد  13247
المتأمركون.. ماذا قالوا عن مذبحة غزة؟
محمد بن عيسى الكنعان

 

الأمة لم تبتل بعدوٍ غاشم لا يرقب فيها إلاً وذمة فحسب، إنما ابتليت بمجموعة من كتاب وإعلاميي (المناحة) الذين يبررون (الانبطاح السياسي) باسم الحلول الواقعية، ومثقفي موائد (التغريب) الذين يبثون الهزيمة النفسية في أوساط الأمة، هؤلاء يمكن وصفهم بـ(المتأمركين)، والمتأمرك ليس الذي يتعلم في الجامعات الأميركية،..

أو يستهلك المنتجات الأميركية، أو يتزوج المرأة الأميركية، أو حتى يحمل الجنسية الأميركية وغير ذلك مما يدخل في إطار التواصل الحضاري أو المشترك الإنساني مع شعب الولايات المتحدة الأميركية، إنما (المتأمرك) هو من تنسجم مواقفه السياسية مع الموقف الأميركي الذي ينطلق بشكل محدد من الرؤية الصهيونية في كل قضايا أمتنا التاريخية والطارئة، فيعبر عنها بكتابات صحافية أو مشاركات إعلامية، لذا تجد المتأمركين يتقنون (فن التبرير) للأحداث الساخنة حتى لو كان عدواناً دموياً، كما يتقنون (جلد الذات) للعروق النابضة بالأمة، مع تسويق كل مفردات (الانبطاح السياسي) أمام العدو الغاشم، فعندما شنت الولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا العدوان على العراق عام 2003م كانت أقلامهم أول من بارك الخطوة للخلاص من الطاغية البعثي والمضي في بناء دولة الديمقراطية والقانون والقيم الإنسانية، حتى تساقطت سنوات الاحتلال من وريقات التقويم فشاهدوا العراق يضيع في المجهول السياسي، ويدخل نفق التقسيم الطائفي، ويتحول إلى غابة من الأسلحة والعمليات المخابراتية، فتفرخ الإرهاب في أرحامه ثم تفجر في أجساد الأبرياء في شوارعه وأسواقه، فصمتوا لأن الحسابات الأميركية جاءت خاطئة، خاصةً بعد قبلة الوداع التي طبعت على هيئة حذاء مقاس (43) وهو ذات الرقم للرئيس بوش في ترتيب الرؤساء الأميركيين.

اليوم يُكرر المتأمركون ضجيجهم الإعلامي، ولكن في حالة أخرى ليس فيها أسلحة دمار شامل أو طاغية مستبد، إنها حالة إنسانية محضة، حالة غزة التي عاقبتها إسرائيل وبدعم من الغرب (المتحضر) بالحصار الجائر ثم القصف الهادر، لأنها لم تتحول من (مقاومة الخنادق) إلى (تسوية الفنادق)، فماذا قال المتأمركون عن هذه المأساة الإنسانية التي مازالت فصولها المروعة تكتب بدماء أطفال فلسطين في شوارع غزة؟، المأساة التي فضحت وهم (السلام المزعوم)!

المتتبع لكتابتهم الصحافية أو أطروحاتهم التلفزيونية في الفضائيات الإعلامية يجد أنها تتفق مع المنطق الأميركي المرتبط بالموقف الإسرائيلي في تحديد أبعاد ومبررات العدوان الغاشم والإرهابي على غزة، وهو منطق يقوم على إبراز (القوة) العسكرية وتزوير (الحقيقة) السياسية، القوة أن إسرائيل صاحبة القرار في المنطقة لأنها تتفوق عسكرياً وحضارياً فهي الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة.. هكذا يراها الغرب، والحقيقة المزورة أنها تحارب الإرهاب المتمثل في حركة (حماس) لبناء عالم حر، حتى لو سقط الأبرياء من المدنيين، فالإدارة الأميركية تأسف لسقوط الضحايا لكنها تتفهم العمليات الإسرائيلية، وهي عمليات دفاع عن النفس وحماية لشعب إسرائيل من صواريخ (حماس) التي تنطلق من غزة المختطفة من السلطة الفلسطينية، ويكفي ما قاله الكاتب البريطاني روبرت فيسك: إن الغرب يتحدث كما لو كانت الدبابات الفلسطينية في شوارع تل أبيب.

فالمتأمركون يرددون ذات الأسطوانة حول الصواريخ الفلسطينية، فإن كانوا يؤكدون أن إسرائيل مدمرة وتمارس القتل إلا أن الفلسطينيين وبالذات (حماس) الذين أعطوها المبرر لتنفيذ العدوان، ألم يقل أحدهم إن الفلسطينيين يخربون بيوتهم بأيديهم، ألم يقل آخر أنهم خرقوا التهدئة مع إسرائيل وأصروا على التصعيد بإطلاق الصواريخ. ألم يقل ثالث أنها فرصة لإزالة (حماس) التي تعتبرها كاتبة من الصف التمهيدي في السياسة أنها هي المسئولة عن كل ما يجري من مذابح، لأنها اختطفت غزة وتترست بأجساد الأطفال والنساء، أضف إليهم إعلامي عريق يبث تقارير قناته الفضائية بعنوان (الهجوم على غزة) لأنه يلتزم المعايير المهنية الصحافية في وصف الأحداث فيعتبره (هجوماً) وليس (اعتداءً أو عدواناً)، لكنه نسي هذه المعايير عندما تحدث عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر فوصفها بالاعتداءات، فضلاً عن الانتقائية في عرض الصور والمواقف والتصريحات التي تكرس لمسئولية الجانب الفلسطيني المتمثل ب(حماس) في وقوع المأساة الإنسانية.

فتلاحظ أن كتاباتهم تسير وفق (انقلاب غزة - خرق التهدئة - والتصعيد مع إسرائيل بالصواريخ)، وكل ذلك وغيره يتطابق تماماً مع منطق وزيرة الخارجية الإسرائيلية ليفني الذي قالته في خطابها المتلفز يوم الاثنين 29 ديسمبر 2008م، ما يعني أن (الإعلام الصهيوني) هو من سوق هذه الأفكار لتبرير عدوانه الإجرامي، لأن الحقائق التي أخفاها هذا الإعلام تقول: إن عملية العدوان على غزة ضمن خطة موضوعة منذ ستة أشهر وهذا ما كشفته مؤسسة (مجلس مصلحة القومية) وهي منظمة أميركية مناهضة للاحتلال الإسرائيلي، وأن إسرائيل كانت تعمل خلال هذه الفترة على خرق التهدئة التي انتهت خلال شهر ديسمبر 2008م، حتى يرفض الفلسطينيون تمديدها فيكون مبررها للعدوان وهو ما حصل، في ظل الأجواء الانتخابية الإسرائيلية التي لابد أن تتلطخ بدم الأبرياء الفلسطينيين، فالدم جزء من ثقافتهم المريضة كما في عيد فطيرتهم (عيد البوريم).

مشكلة المتأمركين أنهم يتعاطون مع الأحداث الجارية ب(غباء سياسي) يفتقر لقراءة الواقع والتحليل المنطقي، مع جهل فاضح بحقائق التاريخ، لهذا يختزلون عدوان إسرائيل على الفلسطينيين في (حماس)، التي هي فصيل في منظومة المقاومة الفلسطينية وجزء من شعب الأرض المحتلة، فإسرائيل قامت وتقوم بعدوانها ومجازرها منذ نشأتها عام 1947م إلى اليوم، حتى ضد الذين يتفاوضون معها فهل يمكن نسيان اغتيالاتها للفتحاويين وعملياتها في الضفة الغربية حيث مقر السلطة الفلسطينية، لأنها تعتمد في ذلك على الدعم (الغربي) بشقيه الأميركي والأوربي الذي يمسك بتلابيب (المنظمة الدولية) التي توجه الرأي العام والقرار الدولي، وهذا ما يفسر العجز العربي الرسمي في المواجهة، فهي دولة محتلة تمارس الإرهاب المنظم وتعشق الدم المسفوح وتتحجج بالسلام المزعوم لمزيدٍ من المكاسب السياسية التي تنعكس على الأرض بالاستيطان وإلغاء الحقوق الفلسطينية وتهويد القدس وفق استراتيجية تفاوضية ذكية.

لذا فالإبادة الجارية في غزة ضد الشعب الفلسطيني بمسوغ إيقاف صواريخ (حماس) هي لكسر إرادة المقاومة وتركيع غزة العاصية التي سبق لها أن تعرضت لمجزرتين مروعتين في 2-2- 1955م، والثانية في 5-4-1956م، ناهيك عن السجل الأسود الصهيوني للمجازر المروعة في حق الشعب الفلسطيني، قبل (حماس) وبعدها، فالتاريخ لا ينسى دير ياسين عام 1948م، وخان يونس الأولى عام 1955م، وخان يونس الثانية عام 1955م، وكفر قاسم عام 1956م، وقلقيلية عام 1953م، وبحر البقر عام 1970م، وصيدا عام 1982م، وصبرا وشاتيلا عام 1982م، مذبحة المسجد الأقصى عام 1990م، مذبحة الحرم الإبراهيمي عام 1994م، وقانا الأولى عام 1996م، ومخيم جنين عام 2002م، وقانا الثانية عام 2006م، وغيرها من الجرائم والمذابح الصهيونية، التي لم ترتكب رداً على صواريخ فلسطينية أو عمليات استشهادية كما يروج لها الإعلام الأميركي والصهيوني، بل وفق العقيدة الصهيونية القائمة على التقتيل والتدمير وصولاً إلى التشريد واحتلال الأرض للاستيطان، حتى ان كثيراً من هذه المجازر تم تحت أنفاس مفاوضات السلام لكن المتأمركين لا يؤمنون بهذا أو يناقشونه، إنما يبررون العدوان ويقدمون الحلول بالرضوخ للعدو وهو موقف يشبه من قال الله على لسانهم في سورة آل عمران: (لو أطاعونا ما قتلوا)، وهذا هو (موقف التخذيل) الذي يراد به تحطيم الشعور المتعاطف مع غزة في أوساط الأمة في واحدة من لحظاتها الحرجة.



Kanaan999@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد