Al Jazirah NewsPaper Friday  09/01/2009 G Issue 13252
الجمعة 12 محرم 1430   العدد  13252
مركاز
العسة!
حسين علي حسين

 

بعد صلاة العشاء من كل يوم يأتي العسة ومعه عصاه وهو رجل مهيب يحتفظ بعلاقات طيبة مع أهل الحوش أو الزقاق، وكان يأخذ مجلسه عند البقال وإذا تأخر الليل قليلاً قد يشارك شباب الحارة في لعب الورق، حتى إذا انتصف الليل وذهب الناس إلى منازلهم فإنه يقوم بمباشرة مهمته التي تستمر حتى بعد صلاة الفجر. حينذاك يذهب من الطريق الذي أتى منه، وكان غالبية العسس من أبناء البادية.

مهمة العسة الروتينية تبدأ بتفقد (أقفال) المحلات واحدا واحدا، ثم يتجه إلى باب الحوش ليتأكد من إغلاقه، حالما يقوم بهذه المهمة يأخذ في ذرع الحارة عطفة عطفة وشارعا شارعا، ولا ينسى بين آونة وأخرى إطلاق العنان لصفارته؛ إرهابا للصوص وإشارة لرؤسائه بأنه في قمة جاهزيته!

وكان (العسة) يخضع لمسؤولية عمدة الحارة أو النقيب وهو مساعد العمدة، وهم بدورهم مسؤولون من قبل رئيس الشرطة، وكانت تسمى في المدينة آنذاك (الخالدية) ربما نسبة إلى خالد بن الوليد، وكان مجرد المرور من أمام الخالدية في ميدان المناخة كفيلا ببث الرعب في نفس أعتى الرجال، على الرغم من أن الخالدية - ما غيرها - كانت تشهد مسيرة موسيقية عصر كل يوم!

ومن المواقف الطريفة أن (العمدة) كان يقوم بجولة روتينية اعتاد القيام بها دون إشعار مسبق، فلاحظ أن (العسة) أخذ ركنا وغط في نوم عميق، لكن من يراه يظنه يقظا، وقف أمامه ومشى وعاد، فرك يديه في وجهه ولم يتمالك نفسه حينذاك، فوجه لطمة قوية أطاحت بالعسة وكأنه قطمه رز، وفي اليوم التالي كان في الحارة عسة جديد أكثر شبابا ويقظة!

هذا الانضباط القوي جعل من المدينة أكثر المدن أمنا، حتى أن أصحاب المحلات والمباسط كانوا يكتفون بوضع قطعة قماش على بضائعهم ثم يذهبون لأداء الصلاة في المسجد النبوي، أو يذهبون إلى منازلهم أو لقضاء أغراضهم الخاصة، ولم تكن المحلات تقفل إلا بعد صلاة العشاء، وهي تغلق في الأعياد لعدة أيام وكان الناس تحسبا لهذا الإغلاق يؤمنون أغراضهم من المواد التموينية أو الملابس قبل العيد بأيام تحسبا لهذا الإغلاق!

وكانت مهام العسس إضافة إلى حراسة الأحياء حراسة الأسواق، وهم في كل بقعة يخضعون لإشراف مباشر من العمد ومساعديهم (النقباء)، في وقت لم تكن هناك سيارات ولا دوريات ولا غرف عمليات، ومع ذلك فقد كان مجرد وجود (العسة) وعدته صفارة وعصاه غليظة كفيل ببث الرعب في قلوب اللصوص.. هذه المهنة قيل إن العمل بها بدأ في العهد الراشدي وقيل بعده، وتعكس الأدبيات العثمانية مدى اهتمام السلطان بهذه المهنة وقد قرأت أنه (كان تحت إمرة الصوباشي (قائد الحرس) قوة أمنية تتشكل من رئيس العسس و(كتخدا) العسس ووظيفتهم الأساسية حراسة الأسواق ليلا وكانوا يتحملون مسؤولية السرقات عند عدم إلقائهم القبض على اللصوص، فيضطرون إلى دفع أثمان الأشياء المسروقة. كما كان الصوباشي يعتمد عليهم في جمع الضرائب وموارد بعض المقاطعات داخل المدن.

وكان يتم اختيار العسس بشكل عام من بين الذين يحظون بثقة أصحاب الدكاكين في المدن، ولهذا كانوا يتلقون أجورا محددة من أصحاب هذه الدكاكين (الدولة العثمانية في المجال العربي، د. فاضل بيات، ص 69) ما أحوج مدننا وأحياءنا إلى أحياء هذه المهنة لعلها تحد من تفشي السرقات والتعدي على أصحاب المحلات والمنازل ومحطات الوقود والصيدليات!!.

فاكس 012054137



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد