Al Jazirah NewsPaper Saturday  10/01/2009 G Issue 13253
السبت 13 محرم 1430   العدد  13253
خاسرون مثاليون!
روبرت سكيدلسكي

 

يبدو أن الاقتصاد لا يستطيع أن ينبئنا إلا بأقل القليل عن الأزمة الاقتصادية الراهنة. حتى أن شخصاً على قدر رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي السابق الآن غرينسبان أقر مؤخراً بأن (صرحه الفكري) قد تهدم بالكامل بفعل الأحداث الأخيرة.

لكن إذا ما فتشنا بين الأنقاض فربما نستطيع أن نخرج ببعض الشذرات المفيدة من المعلومات. ومن بين ذلك على سبيل المثال ما نطلق عليه (المعلومات غير المتماثلة). وهذا يعني أن بعض الناس يعرفون بعض أشياء أكثر مما يعرفه آخرون. وقد لا يكون في هذا قدر عظيم من الفراسة أو التبصر. ولكن فلنطبق هذا التصور على المشترين والبائعين. إذا ما افترضنا أن بائعاً ما يعرف عن جودة المنتج الذي يقدمه أكثر مما يعرفه المشتري، أو العكس، فإن هذا في حد ذاته من شأنه أن يؤدي إلى نتائج مثيرة للانتباه وجديرة بالاهتمام - حتى أن مبتكري هذه الفكرة حصلوا على جائزة نوبل في الاقتصاد.

في العام 1970 نَشَر جورج أكرلوف بحثاً شهيراً تحت عنوان (سوق الليمون). ولقد اتخذ من سوق السيارات المستعملة مثالاً رئيسياً له في ذلك البحث. في تلك السوق لا يعرف المشتري إذا كان ما يُعرَض عليه سيارة جيدة أو (ليمونة حامضة) (رديئة). وعلى هذا فإن أفضل تخمين يستطيع أن يخرج به هو أنها سيارة ذات جودة متوسطة، ولهذا فسوف يدفع في مقابلها سعراً متوسطاً. ولأن المالك لن يستطيع الحصول على سعر جيد لسيارة جيدة في سوق كهذه فلن يعرض فيها سيارة جيدة. وعلى هذا فإن متوسط جودة السيارات المستعملة المعروضة للبيع لابد وأن يهبط. وبالتالي يرغم الليمون الحامض (السلعة متدنية الجودة) البرتقال (السلعة الجيدة) على الخروج من السوق.

ثمة مثال آخر معروف يتصل بالتأمين. وفي هذه المرة سنجد أن المشتري هو الذي يعرف عن السلعة أكثر مما يعرفه البائع، وذلك لأنه يعرف سلوكه الشخصي فيما يتصل بالمجازفة، كما يعرف ما لا يعرفه بائع وثيقة التأمين عن صحته البدنية، وما إلى ذلك. وهنا يواجه البائع ما نستطيع أن نطلق عليه (الاختيار المتعسر)، وذلك لأنه لا يستطيع التمييز بين المخاطر والمجازفات المقبولة والرديئة. ولهذا يلجأ إلى فرض متوسط قسط مرتفع للغاية على المساهمين الأصحاء ومنخفض للغاية على المساهمين غير الأصحاء. وهذا من شأنه أن يبعد المساهمين الأصحاء، ويحمل بائع وثائق التأمين عبء مجموعة من المخاطر والمجازفات الرديئة - وهذا هو أسرع طريق إلى الإفلاس.

هناك أساليب متنوعة (لمعادلة) لمعلومات المتاحة - على سبيل المثال، طلب ضمانات بالنسبة للسيارات المستعملة وشهادات طبية في حالة وثائق التأمين. ولكن لأن مثل هذه التدابير مكلفة، فإن المعلومات غير المتماثلة تقودنا دوماً إلى نتائج أسوأ مما لو كانت معلوماتنا متماثلة.

وكل هذا يتصل اتصالاً وثيقاً بالأسواق المالية، لأن فرضية كفاءة السوق (النموذج المهيمن في عالم التمويل - تفترض أن كل المتعاملين في السوق لديهم معلومات مثالية كاملة، ولهذا فإن جميع الأسعار تعبر عن القيمة الحقيقية للسلع المعروضة للبيع. ولكن أي محترف لمهنة التمويل يدرك تمام الإدراك أن بعض الناس يعرفون أكثر مما يعرفه آخرون، وأن هؤلاء الناس يكسبون أكثر من غيرهم أيضاً. إن المعلومات تشكل العنصر الأعظم أهمية في هذا السياق. ولكن كما هي الحال في سوق السيارات المستعملة وسوق التأمين، فإن المعلومات غير المتماثلة في عالم المال تؤدي إلى المتاعب.

تنشأ مشكلة (الاختيار المتعسر) حين تعجز البنوك عن تمييز الفارق بين الاستثمار الجيد والاستثمار الرديء - وهو وضع مشابه للموقف في سوق التأمين. فالمقترض يدرك أن المجازفة عالية، ولكنه يؤكد للمقرض أنها منخفضة. والمقرض الذي لا يستطيع الحكم على حجم المجازفة يتجه نحو الاستثمارات التي تعد بتحقيق عائدات أعلى. وهذا النموذج في حد ذاته يشير إلى أن البنوك سوف تفرط في الاستثمار في مشروعات المجازفة العالية ذات المردود المرتفع، أي أن المعلومات غير المتماثلة تؤدي إلى هيمنة القروض الفاسدة على سوق الائتمان. وتستخدم النماذج الأخرى سلوك رأس المال/الوسيط لتفسير (القوة الدافعة) (سلوك القطيع) في أسواق المال.

رغم تصميم هذه النماذج قبل الأزمة الراهنة، إلا أنها تبدو متناسبة مع الملاحظات الحالية إلى حد كبير: البنوك التي تقدم القروض لأصحاب المشروعات الذين لن يتمكنوا من السداد أبداً، وتغير أساليب تقييم الأصول حتى ولو لم يطرأ أي تغيير على الظروف.

بيد أن التفكير للحظة واحدة من شأنه أن يبين لنا السبب وراء عدم قدرة مثل هذه النماذج على تفسير الأزمة العامة التي يعيشها العالم اليوم. فهي تعتمد على تفوق شخص ما على شخص آخر: حيث يكون المكسب لصاحب المعلومات الأفضل - في الأمد القصير على الأقل - على حساب أصحاب المعلومات الأقل. وعلى هذا فإن هذه النماذج تعجز عن تفسير موقف يخرج منه الجميع، أو الجميع تقريباً، خاسرين - أو كاسبين - في نفس الوقت.

يحتل منظرو المعلومات غير المتماثلة فرعاً منحرفاً من التيار الرئيسي في الاقتصاد. وهم يتفقون مع التيار السائد على وجود معلومات مثالية كاملة في مكان ما هناك، بما في ذلك المعرفة الكاملة عن كيفية تناسب الأجزاء المختلفة من الاقتصاد في كل واحد. ولكنهم يختلفون مع التيار السائد في اعتقادهم أن هذه المعلومات غير متاحة للجميع. وفي المثال الذي ساقه أكرلوف فإن المشكلة في بيع سيارة مستعملة بسعر طيب ليست أن أحداً لا يعرف احتمالات تعطل هذه السيارة، بل إن المشكلة الحقيقية تكمن في أن البائع يعرف تمام المعرفة مدى ترجيح تعطلها، ولكن المشتري لا يعرف ذلك.

ومع ذلك فإن المشكلة الحقيقية تكمن في عجز كافة الأطراف في العالم الحقيقي عن الحصول على المعلومات الكاملة. فأولئك الذين يتمتعون بقدر أفضل من المعلومات يحاولون خداع هؤلاء الذين يملكون قدراً أقل من المعلومات؛ ولكنهم يخادعون أنفسهم أيضاً حين يتصورون أنهم يعلمون أكثر مما يعلمونه في حقيقة الأمر. ولو افترضنا أن شخصاً واحداً يمتلك المعلومات المثالية التامة، فلن تحدث الأزمات أبداً - حيث سيكون هناك من يتخذ القرارات الصائبة في الوقت المناسب دوماً. ولكن الله فقط هو صاحب العلم التام الكامل.

في كتابه عن النظرية العامة في تشغيل العمالة والفائدة والنقود، يقول جون ماينارد كينز (إن الحقيقة البارزة تتجلى في هشاشة أساس المعارف التي يتعين علينا أن نبني عليها تقديراتنا فيما يتصل بتوقع العائد). والحقيقة أنه لا وجود للمعلومات الكاملة (هناك) يما يتصل بتحديد القيمة الصحيحة للأصول، ويرجع ذلك إلى غياب أي وسيلة نستطيع بها أن نجزم بالهيئة التي قد يكون عليها المستقبل.

وبدلاً من التعامل مع معلومات غير متماثلة فإننا نتعامل مع درجات مختلفة من الافتقار إلى المعلومات. ويرى كينز أن سلوك القطيع لا ينشأ من محاولات الخداع بقدر ما ينشأ من حقيقة مفادها أننا نتوخى السلامة في الكثرة العددية حين نواجه المجهول. أو نستطيع أن نقول بعبارة أخرى إن الاقتصاد لابد وأن يبدأ من فرضية المعرفة المنقوصة وليس المعرفة الكاملة. وآنذاك فقط فربما يكون بوسع الاقتصاد أن يقترب من تفسير الأسباب التي أدت بنا إلى ما نحن فيه اليوم.

خاص الجزيرة
روبرت سكيدلسكي عضو مجلس اللوردات البريطاني وأستاذ فخري في الاقتصاد السياسي بجامعة وارويك ومؤلف سيرة رجل الاقتصاد جون ماينارد كينز الحاصلة على جوائز وعضو مجلس إدارة كلية موسكو للدراسات السياسية.
حقوق النشر بروجيكت سنديكيت 2008



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد