Al Jazirah NewsPaper Saturday  10/01/2009 G Issue 13253
السبت 13 محرم 1430   العدد  13253
علم في دائرة تاريخنا الوطني
طارق الإفريقي أول من اختاره الملك عبدالعزيز لتأسيس دائرة أركان جيشه النظامي

 

عبدالرحمن بن سليمان الرويشد

القائد طارق الإفريقي الحامل لرتبة زعيم في الجيش العثماني السابق كان أحد الضباط العرب الذين خاضوا غمار الحرب والمعارك في ميادين القتال إبان الحرب العالمية الأولى في البلقان وشرقي أوروبا وفي ليبيا آخر سنوات الحكم العثماني.

ظل هذا الضابط مع مجموعة من الضباط والجنرالات العرب بعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها في حكم المتقاعدين، واختار طارق الإفريقي المعروف بشجاعته وحزمه وحماسته للقضايا العربية والإسلامية من دمشق وطناً له!!

كان ذلك الضابط ذا ثقافة واسعة وخبرات عسكرية متميزة يتقن اللغة العربية، والتركية والألمانية والفرنسية إلى جانب لغة كان يتحدث بها في طفولته وهي لغة (الهوسا) النيجيرية.

أتم الضابط طارق الإفريقي دراسته الابتدائية في طرابلس الغرب (ليبيا) ثم أكمل دراسته الثانوية والعسكرية في استانبول وفي ألمانيا.

عرفه الدمشقيون بالضابط الأسمر، كما عرفته الأندية ومجتمعات تلك البلاد بطلعته المهيبة وقامته الممشوقة، وأناقته وسمته العسكري.. أما رواد الثقافة والعلم فقد عرف بينهم بالاطلاع الواسع، وغزارة المعرفة، وحفظ المقطوعات الكثيرة من أمهات دواوين الشعر العربي والتركي، مع فصاحة في اللسان وحسن استخدام لتلك الموروثات، وكان مع كل ذلك فكهاً يحفظ الكثير من الملح والطرائف يتحف بها من حوله في النوادي والمجتمعات الدمشقية.

كان من المتابعين بشغف لأخبار الجزيرة العربية ولا سيما بلاد نجد والحجاز وكان من أوائل من اجتذبتهم عن طريق السماع شخصية الملك عبدالعزيز، وقد زاد اهتمام هذا الضابط بالملك عبدالعزيز، بعد أن قدر له أن يضم الحجاز والأماكن المقدسة إلى بقية مملكته، وربما كان مبعث هذا الاهتمام أن طارق الإفريقي هذا كان في يوم ما مساعداً لأحد أفراد الولاة العثمانيين على الحجاز.

تأثر هذا الضابط بما سمعه وقرأه عن الملك عبدالعزيز فتحول إعجابه به إلى أن أصبح من شيعته في تلك البلاد وأصبح يشيد بتصرفات ذلك العاهل وشجاعته والإشادة فيما يتعلق بتصحيح بعض السلوكيات الاجتماعية التي كانت سائدة في ذلك الإقليم قبله، حتى تحولت بحكم الممارسات والعادة إلى طقوس ظن الجهلة أنها من الدين مثل معارضته للاهتمام بتشييد القباب على القبور، وإعطاء بعض المزارات والأماكن غير المقدسة فضائل لم تثبت صحتها، وقد أعجب هذا الضابط تصرف عبدالعزيز أيما إعجاب عندما أبطل عادة الصلاة خلف الأئمة الأربعة للحرم في وقت واحد وإلغاء عادات أخرى ليست من الدين في شيء.. فكتب هذا الضابط في مذكرات عن تلك العادات والتقاليد وأشاد بالملك عبدالعزيز في القضاء عليها.. والتهوين من شأنها.

وظل الإفريقي يتحدث عن ذلك طيلة حياته فيما تركه من مدونات.

أما الخطوة التي أشاد بها وجعلها حديثه في المجتمع الدمشقي فهي الخطوة التي قام بها عبدالعزيز عندما أنهى عمليات الجيش الشريفي بعد استسلامه، وكان ذلك الجيش جيشاً منظماً مدرباً يملك أسلحة مناسبة، وبه قيادات من العقداء والجنرالات ويسودها التنظيم الحديث.. فلم يقدم عبدالعزيز على طرد الجيش ولم يبعثره كما يصنع الفاتحون الغوغاء، بل تحول عبدالعزيز إلى نموذج إصلاحي في تعامله مع ذلك الجيش المهزوم بأن دعا أفراده وطواقمه بأن يبقوا في أماكنهم يتقاضون أجورهم ويعملون في خدمة بلدهم إلا من لا يريد ذلك فله متسع من الحرية فليذهب حيث شاء.. أما من يريد الانضمام إليه فعلى الرحب والسعة وعليه أن يسجل اسمه في قطاع الشرطة في مكة المكرمة ذلك بأن الملك عبدالعزيز لم يكن في ذلك اليوم يملك جيشاً منظماً وإنما كان يملك أقوى جيش تقليدي عرفته الجزيرة العربية يعرف بجيش (أهل الجهاد) مكون من البادية والحاضرة!!

كان هذا العمل رائعاً وعظيماً في نظر ذلك الضابط عند استسلام آخر قوة للجيش الهاشمي في جدة سنة 1344هـ (1925م).

وهنا لابد لنا أن نقارن بين هذا العمل العبقري من قبل الفاتح عبدالعزيز، وبين الخطوة الخاطئة التي ارتكبها أقوى جيش في العالم - هذا اليوم- جيش الحلفاء عند استسلام الجيش العراقي.. في قصة إسقاط حكم صدام في العراق.. وكيف عامل الجيش الغازي جيش العراق القوي بأن طرده، وجرده من كل حقوقه حتى تحول ذلك الجيش المطرود إلى غصة تجرعها الجيش الغازي فتحول ليس إلى جيش يطالب بحقه في العيش وإنما إلى مخالب وأنياب يصعب الخلاص من شراستها ومع أن الفارق يبدو كبيراً إلا أن الصورة بملامحها وتفاصيلها هي الصورة بكاملها.. ولكن أنى أن يتخذ جيش التكنولوجيا والرادار والأقمار الصناعية تجربة إنسانية من تراث قائد جيش في العالم الثالث!!

كان القائد طارق الإفريقي قد تأثر بما يسمعه وما يقرأه عن الملك عبدالعزيز، وعن ديوانه ومجلسه الملكي في الرياض ومكة وأن ذلك المجلس أشبه شيء بما نقرأه عن مجالس خلفاء بني العباس ودواوينهم.. حيث يوجد في ديوانه ومجلسه رجال من كافة البلاد العربية والإسلامية وغيرهم.. وكان أن اختار صفوة منهم لكل واحد مزاياه وثقافته الخاصة، وقد استطاع بقدراته أن يكون منهم فئة متناسقة متناغمة التفكير في إطار ما يخطط له على اختلاف في بعض توجهاتهم لكن أحداً منهم لم يفرض عليه الانحياز لأي خط سياسي لا يرضاه. ومع ذلك كان يفضل فيهم الاستقلال في الرأي.. فلم يكونوا إمعات ولم يكونوا طلاب وظائف أو معاشات كما وصفهم مؤرخ آثم.

ويشاء الله بأن تغزو إيطاليا سنة 1353هـ بلدان الحبشة فيهب هذا الضابط المسلم طارق الإفريقي مع من هب للتطوع في جيش الإمبراطور هيلاسيلاسي لا للدفاع عن ذلك الإمبراطور ولكن للدفاع عن تلك الأرض العزيزة على قلوب المسلمين الذين رحب ملكهم (النجاشي) الملك الصالح بالمهاجرين الفارين بدينهم من مكة -في عصر صدر الإسلام- فلقوا في رحابه في تلك البلاد كل الترحيب والحماية. وأخذت الصحف العربية تكتب المقالات وتشيد بالمجاهدين والمتطوعين وفي مقدمتهم طارق الإفريقي ووصفت الأنباء العالمية طارق بالنمر الأسود لما أبداه من شجاعة.. وكتبت عنه الجرائد الدمشقية الكثير ونشرت العديد من صوره، وتحدثت عن أن طارق الإفريقي قام بالقفز والهبوط بمظلة من إحدى الطائرات على أكبر ميدان من ميادين (أديس أبابا) وهو يرتدي بزته العسكرية، وعندما هبط على الأرض ألهب الحماس وتعالت الهتافات وتلقاه الآلاف بالأذرع لأنهم لم يروا مثل هذا المنظر في حياتهم.

ومنذ ذلك اليوم أصبح اسم طارق على كل لسان ولا سيما بعد أن قاد في ميدان القتال جموعاً من المحاربين.. وعاد طارق من ذلك الميدان إلى دمشق، وظهر في مجتمعاتها وأنديتها بعد أن أصبحت أخباره في كل أنحاء دمشق!!

وكان الملك عبدالعزيز قد سمع عن هذا الرجل وعرف أخباره وعندما عزم على إنشاء الجيش السعودي، فكر في شخصية عسكرية موثوقة تتولى الترتيب لتولي النواة الأولى للجيش الذي شكله بعد انضمام الحجاز إلى بقية المملكة.. وكان ذلك الجيش بسيطاً وقد وكل أمره إلى قائد يعرفه حق المعرفة هو صديقه سليمان شفيق باشا أحد الضباط الذين تولوا ولاية عسير في العهد العثماني وكان القائد سليمان شفيق باشا قد استبقاه الملك عبدالعزيز في الحجاز، وطالبه بتكوين الدفعة الأولى من الجيش السعودي غير أن الشيخوخة قد أدركت الجنرال وتقدمت به السن فتنحى عن العمل واعتذر من صديقه الملك عبدالعزيز عن المواصلة، فما كان من الملك عبدالعزيز إلا أن كتب إلى صديقه الزعيم السوري الوطني الرئيس شكري القوتلي قبل أن يتولى منصب الرئاسة يستشيره في أن يستقدم القائد طارق الإفريقي لأداء مهمة تأسيس رئاسة أركان الحرب في الجيش الذي يزمع إنشاءه، فأطراه شكري القوتلي، كما أشار إلى استقامة الرجل وشخصيته العسكرية البارزة وأشار إلى جهاده وخوضه غمار الحروب، وقدم ذلك القائد إلى المملكة، وتولى تدريب الألوية العسكرية وتسلم رئاسة أركان حرب الجيش.. فكان له أثره الذي لا ينسى في تاريخ تطور الجيش السعودي من حيث إعادة فتح المدارس العسكرية وسن النظم والرتب العسكرية وظل كذلك يخدم في تكوين هذا الجيش الذي شب وترعرع بفضل ذلك النفر من المحاربين القدماء وعلى رأسهم الملك عبدالعزيز، حتى أصبح هذا الجيش اليوم -بحمد الله- قوة نظامية ضاربة وأصبح قطاعات وشعباً وأسلحة مختلفة.. كلما تذكرناها ونظرنا إلى تفوقها، ترحمنا على المؤسس الأول الملك عبدالعزيز، وعلى كل من شارك وساهم في بناء هذا الجيش.. ذلك المؤسس العظيم الذي رأى بثاقب رأيه مجاراة تطور التسلح فلم يتردد ولم يتوان في غرسه حتى آتى ثماره بعد أن كان يعتمد في فجر حياته على جيش الجهاد المكون من الحاضرة والبادية، وظل ذلك الجيش يؤدي واجباته حتى سنة 1348هـ.

لقد بدأ الملك عبدالعزيز في تأسيس هذا الجيش بتشكيل عسكري بسيط ربطه بقائد الأمن العام عبدالعزيز بغدادي، ثم استقدم بعض الضباط من أقاليم عربية أخرى مثل العقيد محمد مراد الاختياري الذي وضع أسس التشكيلات العسكرية الإدارية.. كما استقدم نبيه العظمة من سوريا فاستمر في إدخال التحسينات الممكنة في قطاعات الجيش يساعده القائد الشهيد فوزي القاوقجي تم كل ذلك قبيل سنة 1358هـ وهو العام الذي استقدم فيه الزعيم طارق الإفريقي وعين في رئاسة أركان الحرب، وعين في تشكيلات الفرق المدرعة، وهي الفرقة التي ألحقت بعد إتمام تدريبها في الحرس الملكي في الرياض.. كما ساهم في تشكيل الفرقة الأولى للفرسان، ووحد الزي العسكري والشارة العسكرية المميزة.

ولست هنا معنياً بتاريخ تأسيس القوات المسلحة أو الحديث عن تاريخ تطورها فلذلك كتابه ومؤرخوه.. غير أنني بهذه المناسبة بمناسبة مضي سبعين عاماً على تأسيس أول رئاسة لأركان حرب الجيش العربي السعودي، طاب لي الحديث أن أتحدث عن ضابط فذ ساهم في تأسيس هذا الجيش يجب أن نتذكره جميعاً وأن نثني على جهوده، وأن ندعو له بالرحمة مع غيره من الضباط الكبار الذين أسهموا في تأسيس وتطوير جيشنا العربي السعودي الباسل.

فقد تحدث الكثير عن هذا القائد بما هو أهله حيث وصفه الأستاذ عبدالله بلخير بأنه قد تعرف إليه في الطائف وكان يجتمع به كثيراً، وقد حفظ من طرفه وملحه وصياغة أحاديثه الكثير كما عرف عنه ذكرياته في طرابلس الغرب والبلقان وبرلين واستانبول والحبشة، وما وعاه في دمشق عن رجالها وظرفائها.. فكان بحق عالماً عارفاً بتاريخ الشعوب تلقى ذلك من ينابيع المعرفة، في مكة والرياض واستانبول ودمشق والقاهرة وأكثر عواصم البلقان التي تجول فيها.

عاد هذا الضابط -بعد أن داهمته الشيخوخة وأحيل إلى التقاعد- إلى دمشق ليأنس إلى أصحابه ويعكف على قراءاته.. وقد كتب كتابين عن الدولة السعودية أحدهما كتاب (الدولة السعودية في الجزيرة العربية) والثاني كتاب حول المبتدعات في الدين.

ولم يزل كذلك حتى وافته المنية في حدود عام 1371هـ حيث دفن في دمشق.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد