Al Jazirah NewsPaper Tuesday  20/01/2009 G Issue 13263
الثلاثاء 23 محرم 1430   العدد  13263
هل لهذا الليل الطويل من آخر يا أمةً سخرت من (ذلها) الأمم؟!
د. محمد بن عبدالله العوين

 

من رحم المأساة ينبثق الأمل، ومن ركام الفجيعة يولد الخلاص، ومن حصار الضائقة والفاقة والجوع يشتد البحث عن سد غائلة الجوع! ولكن هل ما زال المثل العربي القديم (اشتدي أزمة تنفرجي) قابلاً للتصديق ونحن تحت ركام أنقاض المواقف المتخاذلة والعزائم الخائرة والأفكار المنحلة والشتائم المتبادلة؟!

أمة تعيش مرحلة صعبةً داميةً أليمة من تاريخها الطويل المحتشد بمثل ما تعيشه اليوم من انكسار وذل وهزيمة وإحباط ويأس!

أمة ضائعة تائهة لا تعرف صديقها من عدوها، وقريبها من بعيدها، ومحبها من كارهها، والداعي لها من المترحم عليها؟!.

أمة تتخبط في دياجي ظلمات حالكة، لا تعلم أين تسير، ولا مع من تسير ولا إلى أين المصير؟!

أمة تعجز حتى عن الكلام، ولا تقوى حتى على الحديث مما تعانيه من آلام، ولا ما توسوس به من مخاوف وكوابيس وأحلام؟!

هل يستطيع قلم مهما أوتي من فصاحة، وما وهب من قدرة على الإبانة وصف هذه الحالة المزرية الآثمة العجيبة الغريبة التي تئن تحت وطأتها هذه الأمة؟!

أمة تسخر بها الأقدار، ويشمت بها الأصدقاء قبل الأعداء، ويتضاحك على إذلالها (يهود) ويتربص بها (مجوس) وينتظر نصيبه من بقاياها عملاء وتابعون وعلقميون من شتى الاتجاهات والملل والنحل والأفكار وإن اختلفت المسميات واللافتات فالكل ينتظر الإجهاز الأخير على الرجل المريض!!.

لم نتعظ نحن أبناء هذه الأمة بدويلات الطوائف في الأندلس، ولم تسعفنا ذاكرتنا التاريخية بانقراض إمبراطورية بني عثمان، ولم نقف متأملين عند معنى نشأة الأحلاف الدولية مثل: الناتو، والأطلسي، والحرب الباردة، وصراع الحضارات، والعولمة، وغيرها.

تدك الطائرات الصهيونية إخواننا في غزة أكثر من عشرين يوماً، وتبذر الفوسفور الأبيض الذي تتزود به طائرات بني صهيون من إحدى القواعد القريبة جداً منا، ويتقطع الأطفال أشلاء، وتسيل الدماء أنهاراً، ويجوب ناعق الموت والفناء بين أزقة غزة وشوارعها المهدمة المظلمة وصمتها الحزين إلا من أزيز الطائرات ورعب الصواريخ وشماتة العدو وهذه الأمة صامتة لا تبدي حراكاً على مستوى القمة، ولا تعلن موقفاً، ولا تدعو حتى لاجتماع يليق بمثل هذه المأساة؟!

يا للسخرية المرة الأليمة التي يكتبها (شافيز) من فينزويلا، والرجل المكسيكي الأصل من (بوليفيا) حين يقطعون صمت العرب الرسمي الطويل بمواقف شجاعة نادرة، وكأنهما يعلنان أن أمة العرب لم تشعر بعد بألم الهزيمة ولا بمرارة الذل كي تستيقظ على صناعة قرار شجاع؟!

يا للسخرية المرة الأليمة التي يرتفع بها صوت الرجل الموغل في صدق انتمائه وعظمة تاريخه طيب رجب أردوغان حين يزمجر بصوته مهدداً ومتوعداً، وأصحاب القضية المعنيون بالأمر لم يتفقوا حتى على اجتماع يليق بعد دمار أكثر من عشرين يوماً، ومآس وآلام ويتم وعذابات وإعاقات وجوع وتشرد وغضب يقتات شعوب هذه الأمة أكثر من عشرين يوماً؟! وحتى بعد اجتماع جزئي لا نعلم غاياته ولا دوافعه يتمخض الجبل عن ولادة عسيرة نافقة (تجميد) العلاقات مع إسرائيل؟!

ما هذه السخرية، وما هذا الشعور القومي الخانع بالألم؟! أهلك يضربون، ودماؤك تسيل، ووجهك يصفع، وأنت (تجمد) العلاقات مع إسرائيل إلى أجل غير مسمى؟! ولماذا في الأصل بنيت هذه العلاقات الغريبة التي لم يكن لها أساس ولا مصلحة ظاهرة؟! وما الذي دعا دولة في أقصى المغرب العربي لأن تسير في هذا السبيل الأحمق المتنكر؟! ثم لا تستطيع أيضاً إلا (تجميد) العلاقات مع إسرائيل؛ على حين يتصرف البطل العربي الفنزويلي (شافيز) بشجاعة ويعلن طرده السفير الإسرائيلي، وتفعل كذلك جارته بوليفيا!!.

أيكون الأغراب البعيدون عنا ثقافة ومحتداً وتاريخاً وجغرافيا أكثر انتماء وإشفاقاً وشجاعة وميلاً إلى الحق منا؟!

يا للسخرية المرة الآثمة من (تجميد) كهذا وشجاعة عظيمة كتلك؟!

أما المتاجرون بآلام ومآسي إخوتنا في فلسطين الذين يقتاتون على استمرار هذه المأساة وعلى احتدامها، ويتربصون بنا الدوائر فهم أيضاً ما زالوا مجتهدين في النفخ الصوتي دون أن ينبثق ضجيجهم ذاك عن (موقف) حقيقي فاعل ومؤثر؟!

(حزب الله) وزعيمه حسن نصر الله أرعد وأزبد وزمجر، ثم حين سقط صاروخ من جهة ما في شمال إسرائيل من جنوب لبنان أعلن براءته من ذلك؛ بل أصدر بياناً رسمياً يقول فيه: إن حزب الله لن يطلق رصاصة واحدة حتى تهاجمه إسرائيل! وهذا الشعب الفلسطيني الذي يسحق وأنت جبهة مفتوحة وصواريخك ومرجعيتك الفارسية العظمى.. أين كل ذلك؟! وجهادك المزعوم الذي تحشد به آلاف الغوغاء، وتهديداتك النارية، أين كل ذلك والخراب والموت ينعق قريباً منك؟! أين هي العزة الإسلامية التي تدعيها؟ وأين هي العروبة التي تفخر بها؟ ولكن لا عجب ومن وراءك من مرجعياتك يحذر مرشدهم الأكبر شباب إيران بعدم (التفكير) حتى التفكير في نصرة المضطهدين في فلسطين، إذن لماذا الدندنة على الرابط (الإسلامي) الذي قامت عليه ثورة الخميني حسب ادعاءات تلك الثورة المأساوية؟! وإذا لم يتحرك الدم الإسلامي والإنساني في أزمة دموية كهذه فمتى يتحرك، ولمن تجيش جيوش إيران، ولماذا يُبنى (حزب الله) ولم يتم التلاقي في كل المواقف والآراء والحلول والأفكار بين هذا الثلاثي (إيران- حزب الله- سوريا)؟!

الذي يعلمه الجميع من الدارسين والمطلعين أن أطماع إيران (الفارسية) المجوسية في المنطقة لا تخفى، وأن إستراتيجيتها البعيدة السيطرة على المنطقة بأشكال وصور شتى، وأن البعد التاريخي (المجوسي) حاضر في كل ذلك؛ لعل أبرز ما يبديه ظاهراً للعيان المزار الرسمي في طهران لقبر أبي لؤلؤة المجوسي، وكذلك تسريب خارطة مستقبلية لمناطق النفوذ الفارسي المخطط لها، وتبدأ من أقاصي آسيا شرقاً إلى أقاصي القاهرة والقيروان وفاس غرباً، ولهذه المسميات ببعدها التاريخي الفاطمي معنى فكري عميق!.

إننا لا نريد إيقاد مزيد من التمزق والصدامات الفكرية بين السنة والشيعة، ومن الخير اجتراح أفكار إيجابية، وخطوات عملية لتقريب وجهات النظر في كل ما يمكن أن يقيم ويبني صلة متوازنة بين العرب والفرس؛ بيد أن ما يحدث من تمكين وتحفيز للأبعاد الطائفية في الأمة من قبل إيران يشكك في نجاح أي مسعى مستقبلي يمكن أن يدعم خطوات التقارب؟!

وما يؤكد ذلك اختطاف إيران حركة (حماس) بعد الانقسامات الفلسطينية، وفشل التواصل مع الأنظمة المعتدلة في المنطقة؛ على الرغم من تباين الاتجاهين الفكريين بين (حماس) الإخوانية وإيران الشيعية، أو حتى سوريا النصيرية العلوية؟!

ولكن الذي يفسر ذلك (البراجماتية) الذرائعية عند كل طرف من هذه الأطراف الثلاثة؛ فإيران لها أجندتها ولذا زرعت (حزب الله) وسوريا لها مخاوفها وتريد جدار حماية قوياً، ولها أيضاً مرجعيتها الباطنية التي تلتقي فيها مع إيران، وحماس لها أطماعها في أن يكون لها كيان مستقبلي مهيمن في فلسطين، وهي مع من يسهل لها تحقيق هذه الغايات البعيدة، حتى لو تحالفت مع (الشيطان)؟!

إننا لا نريد أن نحاسب (حماس) على تحالفاتها الآن فهذا الوقت العصيب لا يتيح لنا ذلك، وليس من الأخلاق ولا من الإنسانية توجيه العتاب والدماء تنزف، والأرض تحرق، والنار تمتد لتأكل الأخضر واليابس، وتلتهم من يتفق مع حماس ومن يخالفها أيضاً، بل يفرض الموقف الديني والقومي والإنساني تناسي ذلك كله ونصرة المقاومين الأبطال، والمجاهدين الأشاوس من الفصائل الفلسطينية كافة، الذين يضربون للأمة أروع الأمثلة على البطولة والصمود في ظروف أقل ما يقال عنها إنها مأساوية، حيث لا تكافؤ على الإطلاق بين قوة (دولة) غازية طاغية مدعومة من شريكها الأول والأكبر في العداء والطغيان والدموية والوحشية وانتهاك حقوق الإنسان في كل مكان من هذا العالم (أمريكا) وقوة (مقاومة) وطنية تحارب بأقل الأسلحة كفاءةً، وبأقل العتاد ذخيرة، حيث يضرب الحصار الظالم عليها بشحه وبفقره وبغلوائه وبعزلته عن العالم!.

أمة لا بصيص لها من أمل سوى في الاستماتة والفداء، وسوى في الاستبسال والتضحية ممن هم في موقف البطولة والفداء والشجاعة، يذودون عن شرفهم وأرضهم، ويحمون ديارهم من دنس الغاصب الصهيوني ويطهرون الأرض المقدسة المباركة من خطايا وآثام (الصهيونية) النازية التي تعادي كل الأعراق والشعوب والديانات؛ لأنها تزعم باصطفائها ونخبويتها ورسالتها السماوية المقدسة!

لقد رأينا كيف يتهزهز الجنود الصهاينة وهم على دباباتهم أو قبل الانطلاق إلى ميدان القتل والتدمير يقرؤون في (التوراة) ما يزعمون أنه يأخذ بأيديهم إلى النصر، وما يمكنهم من أعدائهم حسب ادعاءاتهم الكاذبة؛ ولذا فهذه الحرب (مقدسة) وفق المعيار اليهودي؛ على حين يتنادى فريق بيننا بالتخلي عن الروابط والصلات الدينية؛ ويسعى لإلغاء كل ما هو ديني ومقدس وجليل من المثل والأخلاقيات، ويدعم نظرية صراع المصالح الاقتصادية والسياسية؛ بينما يعلن غير المأسوف على رحيله (بوش) في أكثر من موقف أن الحرب مع المسلمين حرب (مقدسة) وأن ما يحدث الآن هو حملة صليبية ثالثة، ويؤكد هذا المعنى (يهود) في خطابات ومواقف ونصوص ليس هنا محل سردها، ولعل الصورة الظاهرة للمعتدين وهم يستعدون لخوض المعارك وبين أيديهم (التوراة) خير ما يؤكد أن الحرب (مقدسة)!!.

فيا أيتها الأمة الغافلة السادرة المتمزقة المشتتة المواقف والاتجاهات والأفكار والانتماءات متى تستيقظين من هذه الغفلة، وإلى متى هذه الهزيمة النفسية والحضارية؟! وكيف لنا (خلاص) ونحن في حالة من الضعف والهوان والتفرق والشماتة يعجز اللسان عن الإبانة والشرح والتفصيل؛ لعمق شرخ الصورة، وتآكل الملامح، وبهتان الألوان في لوحة تسمى (الأمة العربية ذات الرسالة الخالدة)!!.

بين حرب مقدسة صليبية يهودية، ومخاوف من أطماع مجوسية فارسية، وطابور خامس مهزوم متخلٍ غير منتم يمجِّد أعداءه، ويعلن تبعيته وولاءه لهم، ويشيع في (الأمة) أن لا (أمة)، ولا إرث أخلاقياً، ولا سمات للشخصية العربية المسلمة، ولا مستقبل ولا أمل إلا باستنساخ شخصية (الغازي) واحتذائه حذو القذة بالقذة!

كيف لنا من أمل مشرق مضيء ونحن بين ضعف في القرار الرسمي، وشتات في الرؤية الفكرية والثقافية، وتعدد متنافر بين المنابر والمنتديات وساحات الرأي؟!

كيف لنا من أمل مشرق مضيء و(شافيز) -جزاه الله خيراً- هو النموذج البطولي الفذ على حين يدس رأسه في الرمل كالنعامة من يزعمون النخوة والبطولة والثأر والعروبة وقيادة الأمة إلى مستقبل العزة والكرامة؟! كيف لنا من أمل مشرق مضيء ونحن حتى على (الكلام) لا نستطيع؟ وحتى الاجتماع والالتقاء على موقف موحد لا نستطيع؟!

(اشتدي أزمة تنفرجي)!!

فقد يولد الفجر الباسم من الليل الحالك الطويل!

وقد ينبثق الأمل المورق من رحم المأساة الدامية!

وقد يتخلق جيل جديد يحمل عقل (قطز) وشجاعة (بيبرس) وروح (صلاح الدين) المقدامة الشجاعة!.

نعم من رحم المأساة الدامية أيتها الأمة تنطلق صيحات الجنين الجديد الذي يحمل الرسالة ويرفع الراية ويكتب في سجل الخلود {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ...}.

* عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام - كلية اللغة العربية/كاتب وباحث


للتواصل: ksa_7007@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد