Al Jazirah NewsPaper Wednesday  04/02/2009 G Issue 13278
الاربعاء 09 صفر 1430   العدد  13278
هل من سبيل إلى البحث عن مشروع فكري وثقافي مستقل بديل لمشاريع ما قبل وما بعد التسويات؟
د. فوزية أبو خالد

 

لماذا صمتت وعود الإصلاح قطريا وعربيا قبل أن تنتج حلولا مبتكرة متعددة الأطياف واستراتيجية الأهداف للحالة العربية المستعصية من التخلف والاستضعاف؟

لماذا لم تثمر أطروحة الإصلاح التي عقدت لها المؤتمرات والندوات في أعقاب 11 - سبتمبر 2001م إلى الآن سوى بعض الكتابات التي تكاد تقف عند حدود التكرار الركيك لكثير من الأفكار المطالبية المحدودة التي لا تتجاوز الطرح المدرسي لبعض الإجراءات التعديلية لأوضاع الاقتصاد أو الاجتماع أو المرأة أو القرارات السياسية

على مستوى الداخل العربي وعلى مستوى القضايا العربية الشائكة الكبرى؟

يعتريني بين الحين والآخر نوع من الشفقة المريرة على حالنا نحن الكتاب وخاصة أولئك المربوطين منا إلى حبل مشنقة عواميد وزوايا صحف بالكاد يتحركون داخلها دون أن تحتك جدرانها بعظام أضلاعهم وكأنهم عصافير في قفص لمجرد تزيين تلك الصفحات بشبهة الأجنحة أو بغناء يشبه البكاء في مديح حرية لا أدري كيف يمكن أن نجد الشجاعة في الحديث عن أشواقنا لها بينما كل ما نفعله أن نمعن في الاحتيال على عقولنا وأخيلتنا لنتواطأ مع فن الممكن فيما نكتب وإلا لم نجد مقالا منشورا أو ريشا مفروطا على الأرصفة.

والأشد مرارة وسخرية أن ليس المشفِق بأحسن حالا من المشفَق عليه؛ إذ إن هذا النوع من الشفقة هو بحد ذاته مثار شفقة أفدح وذلك كمن يشفق على أعمى يتشوف شروق الشمس أو أعرج يشارك في حلبة رقص, حيث ليس المشفق (بكسر الفاء) أقل إثارة للشفقة من ذلك المشفق (بفتح الفاء) عليه الذي يعاني هو نفسه من إعاقة وجدانية وحسية لا تقل قسوة عن تلك الإعاقة الجسدية بما يمنعه عن تخيل رؤية الشروق بدون حاسة البصر أو تصور نشوة الرقص دون أرجل.

فمن منا يستطيع أن يدعي أن بإمكانه أن يكتب دون أن يتأبط تلك الحزمة الحارقة من الأسلاك الشائكة التي تعرف متى توقفه عند حده قبل أن يصل المقال إلى مقص الرقيب أو عين الحسيب. وسخرية الأقدار أو الأقلام أو مفاتيح الكمبيوتر ليست هنا وحسب بل إنها أيضا في تلك الهيئة الجدية التي يهتبلها أحدنا أو إحدانا عند الكتابة وكأنه مقدم على تحرير الأندلس والقدس وغزة دفعة واحدة مع عدم ممانعة عدد لا يستهان به منا معشر الكتاب والكاتبات عن امتشاق كم من تلك الكلمات اليابسة أو الملتبسة أو اليائسة أو المسيسة فالمهم ألا تخلو كلماتنا مما في لغة الضاد من رموز حالتنا المزمنة كظاهرة صوتية.

من منا يستطيع أن يكتب كتابة تخرج على قضبان مازج نفسه فيه من مواقف أيديولوجية؟ من منا يستطيع أن يجترح كتابة تطرح تساؤلاً على تلك المواقف التي اعتنقناها في مرحلة مغايرة للحظتنا التاريخية؟ من منا يمكن أن يجرب أن يقف من مواقفه السابقة أو الحالية موقف مراجعة أو يتخذ تجاهها وقفة نقدية أو يقبل أن يسخر مما فيها من تشنج أو مراوغة أو انتهاء صلاحية أو طفولة يمينية أو يسارية.

لا أدري ما هو سر تلك العلاقة السيامية المعيقة بيننا وبين ما نكتب لدرجة أنه يخجل البعض منا أن يصرح لنفسه ناهيك عن القراء بنزعة أن يكتب غير المستتب من أنماط التفكير وقوالب التعبير.

لماذا ليس لدينا أكثر من رجاء عالم تلك التي تكتب باستيهام وهيام لا يهاب توقعات الاستحسان أو الاستهجان؟ لماذا لم يجد الزمان بأكثر من غازي القصيبي ليكتب روايات تمنحنا جرأة الضحك من أنفسنا ومن عقد العظمة والنقص التي نعاني منها شعوبا وقيادات بلا حرج وبصوت عال؟ لماذا لم يخرج إلا فهد أحمدي واحد ليخالف بكتاباته خوارق الخرافة التي نخاف منها أكثر مما نخاف من ضمائرنا ونصدقها أكثر مما نصدق حواسنا الخمسة؟ لماذا لا يتعدد عبد الله بن بخيت فيكون منه نسخة للجزيرة وأخرى لجريدة الرياض؟ حقا لماذا تندر عندنا الكتابات الساخرة منا وكأننا مخلوقات من صلب وحديد أو من قش وقماش؟ هذا على مستوى محلي، وليس حال العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه بأفضل حالا في امتلاك ذلك الرصيد من الكتاب الأشاوس الذين تارة يعالجون قضايانا بالكي وتارة بالتخدير فالمهم ألا نخرج في الحالتين على مناخ الغيبوبة العام.

هناك كتابات عبثا تحاول أن تنفخ حياة جديدة في أطروحات الفكر العربي الذي كان بالسبعينات مثل بعض أطروحات سعد البازعي والمزيني والفقيهي والحبيب والفقي وبودهمان والدميني وفوزية البكر ومترك الفالح وأسماء أخرى ولكن هيهات هيهات للشمعة أن تضيء كل هذا الظلام ولم نسدد فواتير الكهرباء.

لقد شعرت بوطأة هذه العتمة تعمي بصري وبصيرتي ومعي ربما عدد لا يحصى من الكتاب والكاتبات وأنا أتابع تلك القراءات المسبقة المحكومة بأحادية تنظير (أما أو) من سطوة ما يسمى بـ(البراديم) لنوافير الدم في الحرب الإسرائيلية على غزة حيث لم تستطع حالة التدهور العربي العام الذي نغرق فيه أفرادا وجماعات وأوطانا برمزيتها في المواقف من أحداث غزة, ولا حالة التحولات الإقليمية والعالمية أن تؤثر من قريب أو بعيد في اتجاهات خطاب المثقفين العرب. فقد بقي كل منا متمترسا خلف قناعاته القديمة سواء في صفوف ما سمي بالممانعة أو بصفوف الاعتدال رغم ما اعترى تلك التصنيفات من خلط في الأوراق والمواقف والرموز؛ إذ لا يمكن حقا أن يقال إن الممانعة على الأقل في مستواها السياسي كانت تعبيرا عن ممانعة حقيقية، كما لا يمكن أن يقال إن مواقف الاعتدال كانت تعبيرا عن مواقف موضوعية.

* * * *

وما كنت لأعتبر بعض أفكار هذه المقال إلا مجرد هواجس ذاتية تؤرقني شخصيا ليس لولا أنني تلقيت عددا من رسائل الشباب الإلكترونية ومنها على سبيل المثال رسالة عبد الرحمن الشهري.. الشهري ورسالة عبير رشود ورسالة عبد المجيد الساهر ورسالة نواف مطرف ورسالة طيف مقرن وعليا وفا وسواهم في التعليق على مقالي الأربعاء الماضي. وكل تلك الرسائل كانت بصيغ مختلفة تشاركني ملح أسئلة ملحة لهذه المرحلة العربية الراهنة التي نحياها. فمما قاله الشهري: (ما جاء في مقالك يدعو إلى التساؤل عن سبب التخاذل والذل والتخبط الذي يعيشه الموقف العربي تجاه قضاياه المهمة). ومن الأسئلة الأخرى لتلك الرسائل سؤال: متى تخرج الثقافة العربية بكتابها وكاتباتها على الجاهزية الأيديولوجية لمراحل ما قبل وما بعد التسوية على اختلاف اتجاهاتها لتطرح بدائل أو أسئلة تبحث عن فكر وثقافة بديلة لتلك الثقافة التي لم تستطع أن تنجز التحرر والاستقلال لا في مدها القومي والليبرالي من منتصف القرن العشرين إلى عقد الثمانينات ولا بصبغتها الإسلامية اللاحقة من مطلع التسعينات إلى الآن أيا كانت الأسباب؟ كما تتواصل الأسئلة: ألم يحن الوقت للبحث عن فكر وثقافة بديلة أيضا لثقافة التسويات بتنظيراته المعارضة والمؤيدة معا حيث لا بد أن يكون في الأفق أشكال للتفكير والتعبير مغايرة لما يجري كتابته من المستهلك والمهترئ من الطروحات.

هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.



Fowziyah@maktoob.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد