Al Jazirah NewsPaper Thursday  05/02/2009 G Issue 13279
الخميس 10 صفر 1430   العدد  13279
قيم ومكاسب في حصار وحرب غزة
د. سليمان بن حمد العودة

 

حين تقع مثل هذه النازلة يلتفت المسلمون - وأكبادهم تتفطر - ماذا نصنع؟ وأي شيء نُقدم؟ ويسارع آخرون فيقولون لا نملك إلا الدعاءَ لإخواننا المظلومين!

والحق أننا حين نتأمل بعمق ونتيحُ لأبصارنا وعقولنا أن تنظر إلى ما وراء الأحداث..

نجد أن مثل هذه الحروب الظالمة والمقاومة الشريفة تعود علينا بعدد من المكاسب وتذكرنا بعدد من القيم ومنها:

- عزة المسلمين: أحيت هذه الأحداث العزة في الأمة من بعد سنوات عجاف من الذل والإحباط والانكسار، وتذكر المسلمون وعدَ ربه{ {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} كيف لا وهم يشاهدون الفلسطيني الأعزل من كل سلاح إلا سلاحَ الإيمان والتوكل يقاوم المحتل اليهودي بكل عزة وشهامة، وترسم النساء قبل الرجال والأطفال قبل الكبار صوراً من الشهامة والعزة لا يملكون أن يغيب مشهدها عن العقل المسلم.

- وبالقدر الذي أحيت هذه الأحداثُ - بفصولها المختلفة - معاني العزة في الأمة، فقد دفعت ورفعت الذلَ والهوان والخور والاستسلام. إن الأمة لا ينقصها الرقم العددي، ولكن وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم {بالغثائية}، {والوهن} هو الذي يعوق مسيرتَها ويُبطِّئ بنصرها. إن حبَّ الدنيا وكراهية الموت كما هي أدواءُ قاتلة في الأمة فقد ارتفع منها بالقدر الذي ضحى فيه الفلسطينيون الصادقون بكل ما يملكون في غزة.. وآن الأوان لكل مسلم أن يُعالج هذا الداء؛ فما هذه الدنيا بدار قرار، والآخرةُ خير وأبقى، وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون.

- الخشوع الغائب: لئن غاب الخشوعُ في الصلاة - عند نفر من المسلمين وهو لبُّ الصلاة وروحها - فقد غاب معه أو قبله الخشوعُ لله ولذكره عند نفر آخرين، والله تعالى يُذكِّر المؤمنين - وغيرُهم من باب أولى - بهذا الخشوع ويقول{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ..}. ولقد جاءت الأحداث الوحشية المعاصرة لتكون سبباً في دمع العين وانكسار القلب وارتعاش الجوارح.. وهذه وأمثالها أبواب للخشوع.. بل إن صلاة بعض الناس عاد لها طعم آخر، وهم يجدون أنفسهم أقرب ما يكونون إلى الله وهم ساجدون لينصروا إخوانهم بالدعاء والتضرع.

- وحدة الأمة: ذلك الهدف العظيم والمعنى الكبير، والذي مزقته الأهواء وشتتته الانتماءات، وعصفت به رياحُ الفرقةِ والتنازع.. كل هذه الأدواء باتت تنحصر دوائرها، وتتسع دوائرُ وحدة الأمة، فقضية فلسطين تشغلهم جميعاً والانتصار للمظلومين شعارهم جميعاً، والحديث عن وحدة الأمة لا يُصنع عبر محاضرات تلقى أو كتب تؤلف بل تساهم المصائب والرزايا النازلة بالأمة في صُنعه، بل إن تكالب الأعداء على الأمة ورميهم إياها عن قوس واحدة، كل ذلك يحسس المسلمين بحاجتهم إلى الوحدة.. لقد بتَّ تسمع لهجةً واحدةً وخطاباً مشتركاً بين المسلمين وإن تباعدت أوطانهم واختلفت لغاتهم.. الأمة بكل فصائلها وشرائحها ومستوياتها الفكرية والاقتصادية تتحدث عن قضية واحدة، تتفق فيها على تشخيص المشكلة وتتفق كذلك في حلولها.. هذه من الأهمية بمكان - فنحن في مرحلة تحضيرية تشكل هذه القضايا محاور لوحدتها - ولا نصر للأمة إلا بالوحدة؛ فهو عنوانها{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}، وحين تتنازع وتتفرق فذلك البلاءُ والفشل وذهاب الريح {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} فهل تكون مثل هذه النازلة سبيلاً لوحدة الأمة على كلمة التوحيد.

- وبقدر ما ساهم اليهود بعنجهيتهم وإفسادهم في تقارب الأمة ووحدة تفكيرها، فقد ساهموا غير مشكورين في ترسيخ عدوانهم وبغضهم، ليس على مستوى المسلمين الذين يجدون ذلك في كتاب ربهم{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} بل على مستوى العالم الذي لم تُغيِّب الشاشةُ عنهم جرائم الحرب، ومشاهد الرعب، ولم يعدموا عدداً من الصور التي ترسم شرخاً عميقاً في تاريخ اليهود. ومرةً أخرى كُتبت مؤلفاتٌ، وألقيت خُطب ومحاضرات، وعقدت مؤتمرات عن إفساد اليهود وجرائمهم وعنصريتهم.. لكن الصورة أبلغ، والمشاهد الناطقة في غزة أغنت عما سواها. وويل لمن ظفر بعدوان العالم وبغضهم كما ظفرت يهود!

- مفهوم القوة: خُيِّل لنا فترةً من الزمن أن مفهوم القوة ينحصر في السلاح والعتاد الحربي. وهذا وإن كان مهماً والدعوة إليه ربانية {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّة}؛ فليس هو كلَّ معاني القوة؛ فالإيمان الصادق قوة، والثبات على المبدأ قوة، وقوة العزيمة والإرادة قوة، واستحضار معية الله ونصره قوة، والصبر على المحن وأنواع الحصار قوة.. تلك وأمثالها معان نحسب أن إخواننا المجاهدين في غزة فازوا بها.. وضعفت على هذه المعاني الخضية للقوة قوة اليهود وحلفائهم الذين ما فتأوا يدعمونهم بأحدث الأسلحة وأعتاها..

إن حساب القوى ينبغي أن يعاد النظر فيه - لنا معاشر المسلمين.. لا يُغني ذلك عن إعدادنا للقوة لكن باختصار يذكرنا بقوى لا يملكها أعداؤنا - وهي من الأهمية بمكان في نتائج المعركة.

- وأسباب النصر: ونحسب أن إخواننا في غزة المجاهدة ذكَّرونا بقوله تعالى: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}، وأحيوا في قلوبنا {إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ}، تذكرنا في صبرهم وصمودهم{كَم مِّن فِئَة قَلِيلَة غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}، وذكرونا بأن المظلوم سينتصر له الله{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}، وعلى المسلمين كافة أن يلازموا ذكر الله، والثبات على الحق، وطاعة الله ورسوله، وعدم التنازع، والصبر؛ فتلك أسبابٌ مهمة للنصر كما جاء في سورة الأنفال وغيرها.

- لفتت الحربُ القائمة في فلسطين - بين الحق والباطل - بتحليلاتها والتعليق عليها، إلى أن ثمة عناصر تتحدث بألسنتنا وتستنشق هواءنا، وتتسمى بأسمائنا.. لكنها تفكر بغير تفكيرنا، وتتجه في عواطِفها ولحن قولها غير وجهتنا، إنهم من ابتُليت بهم الأمة في سالف تاريخها، ديدنُهم الإرجافُ والسخرية، والتخذيل، والتشكيك بموعود الله، والهمز واللمز، هم من قال الله عنهم: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ}، وهم الذين قالوا: {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}، وقالوا: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، هذه الفئة المرجفة تمثل عبئاً على الأمة لا بدَّ أن تستبينها وتحذرها. (هُمُ الْعَدُوُّ) وظروف الأزمات والمحن والشدائد على الأمة أجواء لكشفها، وحين يحاصر المسلمون ويُزلزل المؤمنون يسارعون في الذين كفروا {يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}. إن من مكاسب الأمة في هذه الأزمات كشف هؤلاء وفضحهم والحذر من مكرهم ومخططاتهم.

- كما لفتت الحرب بويلاتها وخسائرها واستغاثة المستغيثين من أهلنا وإخواننا في فلسطين، إلى نماذج للصدقة والمتصدقين، فكم من صادق تكلم بكلمة طيبة (والكلمة الطيبة صدقة)، وكم من يد جادت بشيء مما تملك نصرةً للمستضعفين، ورب درهم سبق ألف درهم، وذهب أهل الدثور بالأجور، وكم من ضعيف جادت عينه بالدموع وهي نوعٌ من التعبير عن النصرة، فرفعت الأكفّ بالضراعة والدعاء وهي باكية، وإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم، وكم من مسلم أو مسلمة دافع عن أعراض إخوانه المسلمين؛ فكانت هذه منه صدقة.. وهكذا تتعدد الصدقات ويكثر المتصدقون.. وفي المقابل ثمة من بخل {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء} تثاقل عن إنفاق القليل، ونسي أن {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وكانت الأحداث في واد وهو في واد آخر؛ فلم يرفع بذلك رأساً، ولم يتصدق بكلمة ولا مجرد عاطفة، وما الحيلة في قسوة القلب، ومن لم تتحرك مشاعره وعواطفه في مثل هذه الظروف؛ فمتى تتحرك؟

- وجاءت هذه الحرب الظالمة لتجهز على كل مشاريع السلام الهزلية، ولتؤكد أن اليهود عُشَّاق حرب ومصاصو دماء، وسُعاةُ للفساد {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}.

لقد عاش بعض أبناء أمتنا على أوهام السلام، وانطلقوا يركضون إلى مدريد وأوسلو وغيرهما من محطات السلام التي تذهب كل مرة أدراج الرياح.. ثم يُخيم النسيانُ ويعود المنهزمون ينشدون السلام. مَن ظنَّ أن اليهود يفون بعهد أو يلتزمون بوعد، والله خالقهُم يقول عنهم: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}؟ وإذا نقضوا وخانوا وحاربوا وهم من بشرت كتُبهم به.. فغدرهم وجرأتهم لغيرهم من باب أولى.

- كما شاء الله أن يكون من أبرز مكاسب هذه الحرب إفشال مشاريع التطبيع في منطقتنا وعلى شعوبنا المسلمة؛ فالحرب حفرت خندقاً بين الأمة واليهود لن يقبلوا معه أي بادرة للتطبيع؛ فأخلاق اليهود وثقافتهم وصادراتهم كلّها ليست محل قبول، بل هي إلى مزبلة التاريخ وإلى غير رجعة.

- كما كان من المكاسب لهذه الحرب غير المتكافئة إعادةُ مفهوم الجهاد بأهدافه السامية، وراياته الناصعة.. لقد شمل هجوم الأعداء وأذنابهم مفهوم الجهاد؛ فأصبح قريناً للإرهاب والتطرف، ولم يشأ أولئك أن يفرقوا بين صور شوهت مفهوم الجهاد، وتشريع الجهاد الثابت والمنصوص عليه في كثير من آيات القرآن وأحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، بل أراد هؤلاء الاصطيادَ في الماء العكر، وربما راجت بعض هذه الأفكار التشويهية لمعاني وأهداف الجهاد، لكن جاءت هذه الأحداث الأخيرة لتوقظ صيحة الجهاد، ولتؤكد أن الجهاد طريقنا للعزة والكرامة وتحرير المقدسات ومصارعة الباطل ومدافعة المبطلين، وصدق الله: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْض لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ}، إنه الجهاد ذروة سنام الإسلام، ولو كره المشركون والمنافقون.

- ومن مكاسبنا في هذه الحرب أنها زادت في كشف عدد من القيم والدوائر والهيئات والمنظمات الغربية؛ فالتحيز واضح، والعدلُ، والمساواة، والحرية، وحقوق الإنسان كلها مصطلحات خادعة كاذبة، وإذا كُنا من قبل نعلم تهافت هذه القيم فإننا نأسى على نفر من أبناءِ أمتِنا لا يزالون مخدوعين بهذه القيم، بل ومروجين لقيم الغرب، وكأنهم أدلاءُ طريق، وملكيون أكثر من الملكيين.. لقد آن الأوان لإنشاء هيئات مستقلة عادلة يكون لها من المصداقية والعدل ما نستغني به عن الركض وراء هذه المؤسسات والهيئات الغربية التي طالما أحبطتنا بقراراتها، وآن الأوان للمسلمين أن يُديروا ظهورهم لهذه المؤسسات.. ولديهم خيارات كثيرة وفاعلة.

- ومن مكاسبنا قيمٌ تربوية على مستوى الفرد والأسرة علمنا إياها الإخوة الفلسطينيون بسلوكهم أكثر من كلماتهم. لقد تعلم أطفالنا من أطفال الحجارة معاني في العزة والشجاعة لا بدَّ أن تخلف أثرها في سلوكياتهم مستقبلاً، كما تعلمت نساؤُنا من النساء الفلسطينيات شهامة المرأة وصبرها ومشاركتها الرجل في مدافعة الباطل.. وكم من طفل تجاوزت اهتماماته الوجبات السريعة، وإضاعة الأوقات في البالتوك.. وكم من امرأة تجاوزت الهرولة مع الموضة وحاسبت نفسها عن كماليات الحياة، وأحدثت الحرب لها نمطاً من التفكير والاهتمام. لقد كان لهذه الحرب ودور المرأة فيها أثر واضح، وإذا بلغ الأثر مبلغه على مستوى الطفل والمرأة - وهم عناصرُ مهمة في الأسرة - فلا تسأل عن أثرها على الشاب والفتاة والأم والأب.. {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}.

- ومن مكاسبنا سقوط الوهم على مستوى القادة والشعوب: لقد حاولت إسرائيل إرهاب العالم بقوتها وردعها، وأن لديها من الأسلحة ما تدمر به كل شيء متى وأين شاءت؛ فجاءت هذه الحرب غير المتكافئة؛ لتسقط هذا الوهم، وتُجرِئ المظلومين على إمكانيةِ المقاومة والقتال، لكن متى صدقت النوايا وتحررت الرايات.

- كما أحيت هذه الحرب الخاسرة لليهود مبادئ الفأل بقرب نهاية اليهود وانتصار المسلمين وليس بالضرورة أن تسقط إسرائيل غداً.. وليس من لوازمه أن تدمر فصائل المجاهدين في فلسطين كل سلاح وعتاد اليهود، لكنها المرحلية، وخطوة الألف ميل بدأت طريقها، وعلينا أن نستكمل ونستثمر هذا النصر.

- ومصطلح الاستشهاد وموتُ الكرامة من مكاسبنا في المعركة؛ لأن الفلسطينيين قبل هذه الحرب كان يُرادُ لهم أن يموتوا ببطء، ويُقتلوا دون أن يشعر بهم الناس، أما اليوم فهم يصيرون على إحدى الحسنيين {النصر أو الشهادة}، والناس الآن يشعرون بقتلهم، وهذه المكاسب وإن كان للإخوة في غزة نصيبها الأكبر في معاني تترسخ في ذهنية أطفال وشباب ورجال ونساء المسلمين كلهم.

- استحضار التاريخ واستلهام العبر: مرَّت بالأمة المسلمة أزمات وحصارات وزلازل، وربما عفا النسيان على الكثير منها، ولئن نسينا أو أُنسينا الكثير، فينبغي أن تظل أحداثُ السيرة النبوية حاضرة في أذهاننا لنستلهم منها الدرس والعبرة، ولنحقق الأسوة {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. ومع اختلاف الظروف وتباعد الزمان إلا أن شيئاً مما حصل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين معه في مكة والمدينة يتكرر مثله أو قربت منه في زماننا هذا في غزة.. ألم يحُاصر المسلمون بمكة في شعب أبي طالب حصاراً ظالماً، ويحاول كفار قريش عزلهم عن المجتمع؛ فلا يطعمون ولا يناكحون، ولا يباع لهم ولا يشترى منهم؟ ثم كيف كان الحال؟ خرج المسلمون وهم أشدُّ بلاء وقوة، بل كانوا يمارسون الدعوة وهم محصورون.. أما كفار قريش الذين خُيل لهم أنهم منتصرون فقد شكل حصارُ الشعب نقطة ضعف كاد أن يتفرق ملؤهم، بل اختلف ولاؤهم على وثيقة الحصار الظالمة.. حتى نقضها بعضهم وإن احتج آخرون.. واستمر المسلمون يُفتنون في دينهم بعد هجرتهم للمدينة.. وإذا تجاوزنا (بدراً) يوم الفرقان، فقد كانت أحد (وصايا للمسلمين)؛ (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ) ثم كانت فاجعة الرجيع وأعظم منها مصاب بئر معون التي استشهد فيها سبعون من المؤمنين ثم جاءت {الأحزاب} لتكون قمة الزلزلة والبلاء {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}، وفي الأحزاب اجتمع المشركون مع اليهود مع المنافقين على حرب المسلمين والإرجاف بهم، وحين صدق المسلمون ربِّهم وقالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} نفَّس الله كربهم، وكفى اللهُ المؤمنين قتالهم.. وأنزل جنوداً لم يروها.

- والمسلمون اليوم في غزة حوصروا وظلموا من قبل.. وكان يُراد لهم أن يموتوا ببطء.. ودون أن يشعر بهم أحد.. ثم واجهوا حرباً ظالمة تتشابه أطرافها مع الأحزاب.. والدرس المهم والاقتداءُ النبوي أن يصبر المسلمون اليوم كما صبر أسلافهم، وأن يوقنوا بالنصر من عند الله وحده كما أيقن من سبقهم.. وسوف تكون العاقبة للتقوى وللمتقين {ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوب}، وأن يكون الصدق شعارهم {من سلف منهم ومن بقي}؛ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}. إننا نحسب إخواننا في غزة - ولا نزكيهم على الله - مَن يدرك هذه المعاني ويتمثلها. بل يمكن القول إنها كانت فترة لمزيد الإعداد والتربية للانطلاق في المرحلة القادمة.. في وثيقة كتبت وعلقت في جوف الكعبة، وكان مشركو قريش أشجع من مشركي زماننا هذا حيث مارس هؤلاء الحصار ولم يعترفوا به وتواطؤوا عليه دون أن ينسبه أحد لنفسه.

- صيد التجربة وصنع القادة: أعتقد أن حربنا مع أعدائنا طويلة الأجل ونحتاج فيها إلى تثمين كل تجربة، والاستعارة من كل رصيد.. ولا شك أن مثل هذه الحروب والنوازل صفحات مفتوحة وسجلات مقروءة لأرصدة التجربة.. وإذا كان حصار غزة أخرج لنا من رحم المأساة قادة أشاوس صهرتهم المحنة.. فبكل تأكيد أن المعركة الشرسة على غزة.. أخرجت لنا هي الأخرى قادةً مجربين.. وإن كانت تجربتُهم صعبة؛ فهم قابلوا خلال الحرب عدواً يملك سلاحاً تعاون اليهود والنصارى على صنعه وتصديره.. وهم كذلك كانوا يُرمون من عدد من الجبهات ويُحاصرون من القريب والبعيد.. أعتقد أن هذه الأجواء هي المخاطبة لإخراج القادة؛ فالكلام في الهواء الطلق كل يجيده.. لكن التعامل مع الأزمات.. والنجاح في أزمنة المحاصرات.. هو المحك الذي لا يجيده إلا من صدق مع ربِّه.. وأخذ بأسباب القوة المادية والمعنوية الممكنة، وأعتقد أن هذه القادات الشابة ستكون لها أيام أخرى مع الأعداء، وستكون أكثر بلاءً ونضجاً - إضافة إلى ما هي عليه الآن - من بلاء ونضح. وهذا مكسب يمكن أن يجير للإخوة في فلسطين بل هو لصالح الأمة والمقاومة والجهاد المشروع.

- تعميق الوعي: هذا مكسب عظيم من مكاسبنا في حرب غزة؛ فالمعركة التي حدثت (رمزية) بمعنى أنها لا تستهدف (حماس) أو فصائل المقاومة المجاهدة الأخرى في فلسطين.. بل تستهدف(رمز) المقاومة للمشروع الصهيوني الغربي أياً كان موقعه ومهما كان اسمه.. فلا بد أن نعي هذه الحقيقة.. والحرب في غزة أكدتها بتعاون الحلفاء، وتبادل الأدوار؛ فالذي لا تستطيع القيام به أمريكا (علانية)يقوم به اليهود، وهناك ما يحتاج إلى تعاون بين عدد من دول الغرب، كما وقع في (العراق) ومن قبل في الأفغان.

- إلى أين يكون الحزن؟ الحزن لذاته مذموم وليس من مقامات الأيمان، وهو من أدواء أهل الدنيا، ومنزوع عن أهل الجنة في الآخرة.. لكنه جبلي في الإنسان، وإنما يُحمد لسببه لا لذاته ولا سيما إذا قاد للعمل المنتج والإيجابية الفاعلة.. ولا شك أن مَن شاهدوا ويشاهدون مآسي المسلمين في غزة يحزنون.. لكن هذا الحزن ينبغي ألا يقال فيه إلا ما يرضي الله أولاً، وثانياً ينبغي أن يدعو الحزن إلى تحرك فاعل بالنصرة والدعاء، وهنا يثاب المرء على الحزن كما قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: (وقد يقترن بالحزن ما يثاب عليه صاحبه ويحمد عليه كالحزن على مصيبة في دينه وعلى مصائب المسلمين عموماً؛ فهذا يثاب على ما في قلبه من حب الخير وبقص الشر.. لكن إن أفضى إلى ترك مأمور من الصبر والجهاد وجلب منفعة ودفع مضرة نُهي عنه) إلى آخر كلامه (الفتاوى 10 - 17).




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد