Al Jazirah NewsPaper Monday  16/02/2009 G Issue 13290
الأثنين 21 صفر 1430   العدد  13290

بعد وقوف المجزرة هل تستمر المسخرة؟ «3»
د.عبدالله الصالح العثيمين

 

كنت في مقالة سابقة قد رفعت كف الضراعة إلى الله - سبحانه - أن يجبر مصاب أمتنا فيما هو حاصل بها من أرزاء متعددة الوجوه، وأن يزيل الغشاوة عن عيون من في أيديهم أن يفعلوا شيئا لمواجهة تلك الأرزاء

أو التخفيف من وطأتها، ولم يفعلوه. ومما قلته في تلك المقالة: في مجزرة غزة ظهرت الأدلة الواضحة على المستوى الذي هبطت إليه القيادات العربية في رد فعلها على ما ارتكبه الصهاينة في تلك المجزرة، وبدت البغضاء من أفواه منافقي الغرب وما تخفي صدورهم أكبر. أما زعيمة الغرب فقد برهنت على صداقتها الحميمة لأمتنا بشحن الأسلحة المتطورة جدا إلى أولئك الصهاينة المعتدين لتشد أزرهم، وتعوضهم عما يفقدونه من أسلحة سبق أن أمدتهم بها.

وفي الحلقة الأولى من المقالة، التي هذه هي الحلقة الثالثة منها، أشرت إلى ما رأيته من أسباب إيقاف الصهاينة المجزرة التي كانوا يرتكبونها في غزة، كما أشرت إلى أن تلك المجزرة ليست إلا حلقة في سلسلة من جرائم الحرب التي ارتكبها الصهيونيون قبل إقامتهم كيانهم العنصري على أرض فلسطين وبعد إقامتهم ذلك الكيان عليها. وما كانت جرائم الحرب التي ارتكبوها مقتصرة على ما ارتكبوه ضد العرب الفلسطينيين؛ بل كانت ضد عرب آخرين أيضاً. وإذا كانت جرائم الحرب التي ارتكبوها ضد الفلسطينيين فادحة متعددة الوجوه البشعة فإن من جرائم الحرب التي ارتكبوها ضد العرب المصريين - مثلا - مذبحة مدرسة بحر البقر، وجعل مجنزراتهم تمشي على أجساد الأسرى المصريين عام 1967م لتطحنهم طحنا. وجدير بالذكر - وإن كان مؤلما أشد الإيلام - أنه حتى الآن لم يسمع بخبر محاكمتهم على هاتين الجريمتين. أفلم يكن أبو الطيب محقا في قوله:

من يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرح بميت إيلام؟

وكان مما تحدثت عنه في الحلقة الثانية من هذه المقالة قضية محاكمة قادة الكيان الصهيوني المجرمين أمام محاكم دولية؛ وذلك أن ما ارتكبوه في غزة بالذات قد جمع كل أنواع الجرائم في القانون الدولي؛ وهي جرائم الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم العدوان، وأشرت إلى أن من المؤسف عدم تحرك الدول العربية لبدء إجراءات دعوى ضد أولئك القادة الصهاينة في محكمة الجنايات الدولية.

بل إن الموقف الرسمي للسلطة الفلسطينية ذاتها لم تستجب لدعوة الحقوقيين الدوليين لمساندتهم في رفع إجراءات الدعوى. وإن عدم تحرك ثلاث دول عربية أعضاء في تلك المحكمة بأي خطوات نحو هذا يثير أكثر من سؤال.

على أن من المؤسف جدا - وما أكثر ما يؤسف جدا! - أن حقوقيين وخبراء غير عرب وغير مسلمين أملت عليهم ضمائرهم الحية أن يقوموا من بلدانهم متطوعين، ويحاولوا الدخول إلى قطاع غزة لتوثيق ما يمكن توثيقه من الجرائم المرتكبة تمهيدا للمطالبة بمحاكمة قادة الصهاينة على هذه الجرائم وإذا بهم يمنعون من الدخول إلى القطاع من قبل سلطات عربية مسلمة.

في العدد الأخير من مجلة المجلة كتبت الدكتورة منى مكرم عبيد؛ وهي من هي إدراكا وفهما، مقالة عنوانها: (غزة وتوثيق الجريمة)، وقد استهلت هذه المقالة - لا شلت يدها - بالإشارة إلى أن الدولة الصهيونية، التي سمت قادتها محقَّة النازيين الجدد، قد أفلتت من المحاسبة على جرائمها الكثيرة فيما مضى، وأن مجزرة غزة فاقت جميع المجازر التي ارتكبتها بشاعة وفظاعة. لذلك يجب ألا يتوقف رد الفعل عند مجرد المطالبة بتقديم مرتكبيها السياسيين والعسكريين للمحكمة الدولية. وبعد أن أشارت إلى أنواع من الجرائم المرتكبة في مجزرة غزة قالت: يجب البدء فورا بتوثيق تلك الجرائم ما دام كثير من الشهود موجودين، ومسرح الجريمة مليء بالأدلة على ارتكابها. ويجب أن تسعى الحكومات العربية لرفع دعاوى قضائية أمام المحاكم الأوروبية.

بل يجب أن تسعى الدول العربية إلى تعديل قوانينها لتسمح بقبول مثل هذه الدعاوى، التي يمكن بموجبها للمحاكم الوطنية أن تصدر أحكاماً تحتم على الأجهزة الأمنية اعتقال أولئك المجرمين فور دخولهم بلدان هذه الدول.

ومما ورد في مقالة الدكتورة منى مكرم عبيد أن على الجامعة العربية بصفتها جامعة للعرب؛ شعوبا وحكومات، أن تتحمل مسؤولياتها، فلا تتأخر في تبني مسألة مقاضاة قادة الصهاينة. فإن عارضت دولة عربية هذا الاتجاه فعلى أمينها العام أن يعلن اسم تلك الدولة، وأن يكون تحركه سريعا وفاعلا. ثم قالت: إني أسأل كيف يرضى الأمين العام للجامعة العربية لنفسه أن يرى بان كي مون، الأمين العام للأمم المتحدة، يقوم بزيارة غزة، ولا يقوم هو بزيارة لها ومعه وفد من خبراء القانون الدولي وخبراء الأسلحة والأطباء لتوثيق الجريمة في مكان حدوثها، وإعداد ملف كامل عنها يقدمه بنفسه، أو يقدمه من ينوب عنه، إلى المحكمة الجنائية الدولية؟

وكان الدكتور حسن نافعة قد كتب مقالة جيدة عنوانها: (لماذا لا يعيد العرب تقدير الموقف برمته؟) (الحياة 4-2-2009م) أثنى على السيد عمرو موسى بما هو أهل له، واقتبس من كلماته ما يدعم تبرير ذلك الثناء. وكنت، أيضا، قد كتبت مقالة عنوانها: (الأمين العام وعاقبة أمره) (الوطن 19-1- 2009م).

وذكرت في تلك المقالة بعضا من صفاته الجليلة، وجهوده المقدرة كل التقدير، واختتمتها بالقول: إني لآسى عليه وأتألم له؛ وهو صاحب التاريخ الدبلوماسي الجيد عندما كان وزيرا لخارجية بلاده، وأخشى أن تكون عاقبة أمره في عمله خسرا بعد أن وصلت أمور جامعة الدول العربية، التي هو أمينها العام، إلى ما وصلت إليه من مستوى في العمل السياسي. أعانه الله إن استمر في العمل، ورحم تاريخاً كان مشرفا ومشرقا في فترة من الزمن.

أما بعد ما مضى:

فقد أوشكت المقالة على نهايتها بعد أن نشف ريق القلم، أو بالأحرى ريق الممسك به، من متابعة ما يجري في منطقتنا العربية عموما، وفي الساحة الفلسطينية خصوصا، من أمور تبدو ملامحها مكفهرة. لقد سبق الحديث في الحلقتين السابقتين من هذه المقالة عن بعض ما ارتكبه الصهاينة من جرائم ضد غزة وأهلها، وما ينبغي القيام به من إجراءات ظن كاتب هذه السطور أنها لازمة للتعامل مع مسيرة العمل الفلسطيني الداخلي بالذات. على أن هذا الكاتب من تأمله فيما يجري يخشى أشد الخشية أن ينجح قادة الصهاينة بمكرهم المعهود، وتخاذل زعماء أمتنا غير المحمود، في تحقيق ما لم يحققوه بعدوانهم الإجرامي الأخير على غزة؛ وهو العدوان الذي كان، في الحقيقة، موجها ضد المقاومة كلها؛ وبالتالي ضد القضية الفلسطينية بكاملها، هناك إجماع من قبل زعماء أعداء أمتنا على العمل الجاد لتصفية هذه القضية لصالح الكيان الصهيوني. وهناك متعاونون مع هؤلاء من قادة أمتنا بشكل من الأشكال. فالخطب فادح، والأمر واضح. ما يجري من تصرفات بعض هؤلاء القادة يثير الاشمئزاز. لذلك يمكن القول إجابة عن السؤال الوارد عنوانا لهذه المقالة: من الواضح أنه بعد وقوف المجزرة ستستمر المسخرة. ولله عاقبة الأمور.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد