Al Jazirah NewsPaper Monday  16/02/2009 G Issue 13290
الأثنين 21 صفر 1430   العدد  13290
هذا التراث لمن؟ والغالبية مع من؟
د. عبد الرحمن الحبيب

 

قال لي صاحبي السلفي: أنتم معشر الحداثيين أو التنويريين أو الليبراليين (سمّوا أنفسكم ما شئتم) مغتربون عن تفكير مجتمعنا وعن تراثه، فأنتم تقتاتون من الأفكار الغربية وتتماهون معها، تنهلون من كل فكرة غربية جديدة وتطبلون لها وتقللون من أهمية تراثنا وأفكارنا الموروثة أو حتى تستهزئون بها!! ...

... لا تقرؤون تراثنا الإسلامي بعناية ولا تقدرون ما نملك من حضارة عظيمة نهل الغرب منها وتقدم؟!

قلت يا صاحبي: من الذي يغترب عن تراثه؟ وعن أي تراث تتكلم؟ عن الشعر الذي هو ديوان العرب؟ فأغلبكم ألغى معظم هذا الشعر، وأغلبكم يطرح مقولة الأدب الإسلامي، بمعنى أن ما لا يتفق مع توجهاتكم الفكرية فهو أدب مرفوض أو غير محبذ، أو أنكم تستخدمونه لأغراض غير أدبية وغير فنية، كأن يستخدم لغرض تأريخي أو لغوي أو نحو ذلك. فالشعر الجاهلي يستخدم لأهداف لغوية نحوية.. وشعر الغزل في صدر الإسلام ترون أنه شعر منحرف أو تتحاشونه، والأكثر منه انحرافاً وتحاشياً قصائد كبار شعراء التراث العربي من جرير والفرزدق مروراً بابن بُرد وأبي نواس، وليس انتهاء بأبي تمام وشاعر العربية الأكبر المتنبي، باستثناء ما يطيب لكم من توجه يصادف أن يأتي مع رغباتكم الإيديولوجية.. وليس الأمر محصوراً بالشعر، ففي الأدب واللغة ترفضون أفكار معظم الأعلام وتغمزون وتلمزون في عقائد أغلبهم، ولا تقبلون إلا ما توافق معكم أو ما كان مسألة تقنية فنية حيادية.

قاطعني قائلاً: لا تحصر المسألة بالشعر والأدب، فتلك أغراض جمالية غير أساسية في الفكر! لماذا لا تتحدث عن الفكر الإسلامي؟ قلت: أنتم أيضاً صادرتم جل هذا الفكر الإسلامي العظيم والمتنوع.. فإذا تحدثنا عن الفلسفة، فأنتم لا تعرفون ولا تعترفون بكل فلاسفة الفكر الإسلامي سواء الكندي أو الفارابي أو ابن سينا وابن رشد.. الخ، بل حتى الغزالي الذي رفض الفلسفة لأسباب دينية لا ترونه شيئا! وإذا تحدثنا عن المدارس الفقهية فأنتم لا تعترفون بأغلب علم الكلام والمتكلمين من معتزلة وغيرهم.

قال: نحن أسوياء مرجعيتنا القرآن والسنة، وليس كلام وهرطقات المتفلسفين، وما يشوبها من تحرفات وزلل في العقيدة أتت من التأثر بفكر اليونان الوثني أو فكر غيرهم كالبوذية والزرادشتية! قلت: صحيح ان هؤلاء الفلاسفة والفقهاء المسلمين استفادوا من الأدوات المعرفية وأساليب التحليل المنطقية ومناهج البحث الفلسفية لدى اليونان وغيرهم، ولكن كانت مرجعيتهم الأولى القرآن والسنة، ولهم تفاسير وتأويلات مختلفة عنكم.. أو كما قال الإمام علي بن ابن طالب: (القرآن حَمَّال أوجه).. فإذا كان النص القرآني مقدس فإن تفسيراته البشرية هي مجرد اجتهادات، فلماذا تصادر الاجتهادات الأخرى؟

وإذا ألغيت فكر فلاسفة المسلمين وقبله الشعر والأدب، وقبله التشكيك بأغلب ما وضعه المؤرخون المسلمون.. فمن هو الذي يتنكر لتراثه؟ قال: أنت تحوِّر الموضوع عن سياقه لأنك تختار شذاذ الفكر الإسلامي وتزعم أنهم يمثلون الحضارة الإسلامية، صحيح إن سياق هذه الحضارة به من الشعراء والأدباء والمفكرين والمؤرخين والفلاسفة ما قلت، ولكنهم يمثلون نسبة نادرة، والنادر لا حكم له! فكل حركات المجتمعات الإسلامية كانت محافظة، وهؤلاء الذين تتكلم عنهم كانوا مرفوضين من مجتمعاتهم ومن حكامهم ومن الثقافة الإسلامية العامة.

قلت: هؤلاء النادرون هم أساس الشعر العربي، المرفوض أغلبه من قبلكم.. والنادرون هم أساس الفلسفة الإسلامية، المرفوضة بالكامل من قبلكم؟ قال: بالنسبة لهذه الفلسفة فهي خارجه عن سياق المجتمع الإسلامي.. وأنتم تلعبون بانتقاء النوادر في تراثنا وتضعونها كقاعدة.. وحتى لو لم يكونوا نوادر فهم مبتعدون عن النهج الإسلامي الفطري القويم! أما بالنسبة للشعراء فهم يلعبون بالخيال ولا يؤثرون في المسألة الفكرية إلا قليلا.. فلماذا لا تحدثني عن أقوال مشايخ الإسلام والمفسرين والمحدثين تلك التي لا تفهمون بها شيئا؟ وهذه التي أنتم مغتربون عنها وعن مجتمعكم الذي ينتمي لها! لماذا لا تحدثني عن الحلال والحرام في فقه المعاملات مثلاً؟ لماذا ينصب كل تفكيرك على تغيير المجتمع وفقاً للأسلوب الحديث وليس للقاعدة الفقهية الإسلامية؟ هذا هو الاغتراب عن تراثك ومجتمعك وثقافتك!!

قلت: نحن لا ندخل في فقه المعاملات مثلاً، لأنها مسألة تقنية يخوض بها الفقهاء كل حسب مذهبه، ولها بُعد تعبدي.. كما لا ندخل في المسائل العقدية لأنها إيمان روحي غيبي لا غبار عليه وليس مجال مجادلة أو حوار إلا ما بين المذاهب أو داخلها.. إنما ندخل في المسائل التحديثية في بناء المجتمع الحديث والدولة الحديثة والإدارة الحديثة وما تستند اليه من مفاهيم حداثية في علم الاجتماع والنفس والاقتصاد والسياسة، كحقوق الإنسان ودولة المؤسسات والقانون ومشروعات التنمية، وكل هذه المفاهيم هي جديدة ومعظم جماعتكم مغترب عنها، ولا تتناولونها إلا في أضيق الحدود.

قال ماذا عن اغترابكم عن الثقافة السائدة في مجتمعنا؟ فالأغلبية ترفضكم. قلت: هل تتحدث عن الأغلبية الصامتة؟ قال: نعم، هي مع الفكر الذي نطرحه ولا تعترف بكم إلا قلّة! قلت: القلة والكثرة ليست معياراً في الفكر، بل معيار في ما يريده وما لا يريده المجتمع.. كما أن الكثرة والقلة لا تحسب في مسائل الحقوق، كالحق في التعبير، فليس من حق الأغلبية مثلاً مصادرة حق الأقلية في التعبير.

ومن ناحية أخرى، فما هو مقياس أن الغالبية معكم؟ نعم هم معكم في أشياء، ولكنهم مع التحديث في أغلب مسالك الحياة، على أساس القاعدة الفقهية (أن الأصل في المعاملات الإباحة)، التي حولتموها في باب سد الذرائع إلى قاعدة معطلة، وخالفتم مقاصد الشريعة؛ قال: وأنتم حولتموها إلى فوضى في إباحة كل ما يطيب لكم إباحته، فصارت باباً للمفاسد، وأنتم تزعمون أنها للمنافع ولتحقيق مقاصد الشريعة؛ فأصبح مقياسكم هو المنفعة العامة بغض النظر عن الحلال والحرام، وهذا يتنافى مع أصل القاعدة الفقهية ويخالف الشريعة التي مقياسها هو حكم الله تعالى وليس حكم البشر.

بإمكان كل طرف أن يجمع من الأدلة ما يكفيه معتبراً أنه الأحق بالتراث، لأن هذا التراث هائل متنوع.. وإذا كان طرف يؤمن بالتجديد فإن ذلك لا يعني أنه يتنكر للتراث؛ وإذا كان طرف يستند الى السلف فإن ذلك لا يعني أنه يرفض التجديد.. المؤكد بالنسبة لي هو أن هذا التراث للجميع، فكل طرف هو من نتاج المجتمع التقليدي، نشأ فيه وتعلم في مدارسه، وظهرت لديه وجهة نظر غير تقليدية: سلفية صحوية (بكل تياراتها) أو حداثية تجديدية (بكل تياراتها).. إننا جميعاً ننتمي لمجتمع آبائنا وأجدادنا، ولكن لكل منا فهمه وتصوره للحال الأفضل الذي يمكن أن يكون عليه حاضر المجتمع ومستقبله.



alhebib@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد