Al Jazirah NewsPaper Thursday  19/02/2009 G Issue 13293
الخميس 24 صفر 1430   العدد  13293

الحبر الأخضر
الناس هم الناس!!
د. عثمان بن صالح العامر

 

علَّمتني الحياة أن من رضي تسنُّم منصب ما، وقَبِل العمل فيما له علاقة بمصالح الناس، وأراد تحري العدل والإنصاف مهما كان الثمن، وعمل فيما يحقق الخير والصلاح بعيداً عن المصالح الشخصية والحسابات المستقبلية، إن رضي ذلك وقَبِله فعليه أن يصمد للسهام ويثبت للطعن، فالسيوف في الغالب مصلتة عليه، والحراب مصوبة نحوه، واللسنة متعتها وفاكهتها حين التحدث عنه وعن أمثاله، وإن لم يكن من أهل الصمود والتّحمل وقَبِلَ المضي والاستمرار فيما رسمه من منهج تصحيحي إصلاحي فسوف يُصاب بمكروه لا سمح الله، والتاريخ شاهد على ذلك.. قيل لشريح رحمه الله: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت ونصف الناس عليَّ غضبان!، ومنشأ هذا الغضب على أمثال شريح القاضي رحمه الله أن الناس يقدمون مصالحهم الشخصية على كل مصلحة ولا يهتمون ولا يكترثون بما يُسمى بالمصلحة العامة ولا يريدون -في الغالب الأعم- من يقف حجر عثرة أمام نزواتهم ورغباتهم المتقدة في نفوسهم مهما كان الثمن والشخص والمكان.. استعمل المنصور رجلاً على خراسان فأتته امرأة في حاجة فلم يقضها لها، فقالت: أتدري لِمَ ولاّك أمير المؤمنين؟ قال: لا، قالت: لينظر هل يتم أمر خراسان بلا والٍ!! بل أكثر من ذلك وأشد أن هناك من ليس له أدنى ارتباط بهذا المسؤول ولا يعرفه لا من قريب ولا من بعيد وليس له به أدنى احتكاك ولكن (مع الخيل يا شقرا) فالناس يتداولون ما يُقال عن المسؤول سواء أكان أميراً أو وزيراً أو مديراً أو قاضياً وربما نبياً بلا تروٍ ولا تحرٍ ولا تفكير وصدق الله العظيم القائل في حديث الإفك المعروف (... إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ ...).. مع أننا جميعاً نعلم أن التلقي بالأذن والتحدث باللسان، ومن حكايات التراث أن رجلاً دخل على الشعبي في مجلس القضاء ومعه امرأته فاختصما إليه فأدلت المرأة بحجتها وأحضرت بينتها، فقال الشعبي للزوج: هل عندك من حجة تدفع قولها؟ فأنشأ يقول:

فُتن الشعبي لما رفع الطرف إليها

فتنته ببنان وبخطّي حاجبيها

قال للجلواز قربها وأحضر شاهديها

ومشت مشياً رويداً ثم هزت منكبيها

فقضى جوراً على الخصم ولم يقض عليها

كيف لو أبصر منها نحرها أو ساعديها؟

لصبا حتى تراه ساجداً بين يديها!

فتناشدها الناس وتداولوها، ولما انصرف الشعبي من مجلس القضاء مرّ بامرأة تغسل الثياب وهي تقول: فتن الشعبي لما.. فتن الشعبي لما.. ولم تعرف بقية البيت، فلقَّنها الشعبي وقال: رفع الطرف إليها، ثم قال: أبعدها الله.. أما أنا فما قضيت إلا بالحق، ولما دخل الشعبي على عبد الملك بن مروان نظر إليه وتبسم وهو يردد:

فتن الشعبي لما رفع الطرف إليها

ثم قال: ما فعلت بقائل هذه الأبيات؟ فرد الشعبي: أوجعته ضرباً يا أمير المؤمنين بما انتهك من حرمتي في مجلس القضاء، وبما افترى به عليَّ، فقال له: أحسنت.. ليس هذا فحسب بل إن كلام الناس يكثر حين العزل وينسجون القصص ويروون الحكاية ذات السند المنقطع والرواة الضعفاء والوضاعين ولذا كان الولاة والقضاة والمسؤولون يخافون العزل ليس حباً في المكان بقدر ما هو حرص على السلامة من كلام الناس، ولعل من الأمثلة التي تظهر هذا المسلك في حياة الناس: لما عزل المنصور بن عمران عن القضاء جعل الناس يسبونه وكان فيهم رجل يأتيه ليسمعه كلاماً يسؤه فقال له: يا هذا هل أسأت إليك قط؟ قال: لا ولكن سمعت الناس يشتمونك فساعدتهم!، ومن طبائع الناس وسلوكياتهم عبر التاريخ أنهم يدورون مع الكرسي وجوداً وعدماً وتتحرك علاقاتهم غالباً حسب بوصلة المنصب، ولذا قد يشعر الوزراء وأعضاء مجلس الشورى وأصحاب المناصب والجاه ممن تركوا أماكنهم هذه الأيام بتغير الحال عندهم وكذا العكس مع المعينين الجدد وهذا أمر طبعي في حياة الشعوب: لما عزل علي بن عيسى جفي جفاء عظيماً وهجره الناس قاطبة ثم لما رشح للولاية تزاحم الناس عليه فأنشأ يقول:

ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها

فحيثما انقلبت يوماً به انقلبوا

بصدق.. الناس هم الناس، ولو كنا في عصر جديد.. والله المستعان.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد