Al Jazirah NewsPaper Wednesday  04/03/2009 G Issue 13306
الاربعاء 07 ربيع الأول 1430   العدد  13306
لماذا تقتل يا زيد؟!
د. عبد الرزاق بن حمود الزهراني

 

يعتبر (يورجن تودنهوفر) من رموز الإعلام الألماني، ومن أبرز الصحفيين الباحثين عن الحقيقة المجردة، زار العراق قبل أكثر من عام تقريباً، وبعد عودته نشر كتاباً عنوانه (لماذا تقتل يا زيد؟)، وأجرت إحدى المحطات الفضائية الألمانية مقابلة معه حول رحلته وحول الحرب،

وحول كتابه، بيّن فيها كثيراً من الخفايا، وأبدى فيها وجهات نظر جريئة، وكان مصدر معلوماته يستند إلى الواقع الذي عاشه بنفسه في العراق، وفي البداية يسرد قصة زيد فيقول: (زيد في الثانية والعشرين من العمر، عاش اثنتي عشرة سنة تحت وطأة الحصار والعقوبات الاقتصادية، وهذا يعني أنه كان يعيش في بلد محطم، فيه نقص في الغذاء والدواء وغيرها من متطلبات الحياة، وفي ظل تلك الظروف كان زيد يؤمن بأن بلده لن يتعرض للغزو، ولكن في الوقت الذي بدأت فيه القنابل تنهمر على الرمادي، قرر زيد وأخواه عدم المشاركة فيها، لأنه يريد أن يواصل دراسته، وبعد ثلاث سنوات، وبالتحديد في صيف 2006م قتل القناصون الأمريكيون أخيه الأصغر وهو يسير في شارع عام، ورغم ذلك استمر زيد وأخوه أكرم في قرارهما بعدم المشاركة في الحرب، مخالفين زملاءهم الذين انخرطوا في صفوف مقاومة الاحتلال.. وفي شتاء 2006 سقطت قنبلة قريباً جداً من منزل أسرة زيد، مما اضطر العائلة إلى الهرب مذعورة وخائفة إلى منزل عمه الذي يبعد مئات الأمتار، وبسبب الذعر والخوف نسوا أن يغلقوا المدفأة التي تعمل ب(الكيروسين) الذي أصبح نادر الوجود وغالي الثمن بسبب الحرب، وكان وجود المدفأة مشتعلة يشكل خطراً على المنزل، لذلك قرر أكرم، الأخ الأصغر لزيد، العودة إلى البيت وإغلاق المدفأة.. تبعه زيد إلى الباب ليؤكد عليه أن يكون حذراً، ولكن لم يبتعد أكرم عن منزل عمه بأكثر من ثلاثين متراً حتى أطلق القناصة الأمريكيون النار عليه، فسقط أرضاً.. حاول زيد أن يخرج لحمله ولكن من كان في المنزل أمسكوا به لئلا يقتل مع أخيه.. وظل القصف طوال الليل، والأسرة تنظر من النافذة إلى جسد أكرم الملقى في الشارع وهو ينزف.. ولم يستطيعوا الوصول إليه إلا عند الفجر، وكان قد فارق الحياة.. وتم دفنه بعد صلاة الظهر.. وفي تلك اللحظة التي دفن فيها زيد آخر إخوته قرر أن ينضم للمقاومة ضد الاحتلال الأمريكي لأنه يريد أن يسهم في إيقاف عمليات قتل الشباب والأسر العراقية، وكان هذا هو جواب السؤال الذي وضعه (تودنهوفر) عنواناً لكتابه.. فزيد انضم للمقاومة بعد أن قتل الاحتلال أخويه، ويريد أن يسهم في إيقاف قتل الشباب والأسر العراقية. وهذا مؤشر على أن أعداد المنخرطين في المقاومة تزيد كلما زاد الاحتلال في قتله للناس، حيث يجند بذلك الكثير من الأعداء الذي يكويهم بناره وعذابه. وتستمر المقابلة ويسأل المذيع ضيفه عما إذا كان يتفهم موقف زيد؟ فكان رد (تودنهوفر) أن علاقته بزيد لم تصل إلى حد الصداقة الحميمة، وأنه من أتباع فلسفة غاندي ومارتن لوثر القائمة على المقاومة السلمية، ولكنه يقول برغم ذلك فإن من الصعب عليه ألا يتفهم موقف زيد.. ثم يطرح المذيع سؤالاً عن الصور التي تحضر في ذهن الضيف عندما يتذكر رحلته إلى العراق؟ والتي يعتقد أنه لن ينساها أبداً؟ فأجاب: أتذكر المنازل المدمرة.. أتذكر تفتيش الشرطة الدائم.. فكثيراً ما أوقفونا وصوبوا إلينا بنادقهم، وصوبوا أسلحتهم الثقيلة إلى سياراتنا.. أتذكر عائلات في منتهى التعاسة.. أتذكر بلداً يتألم.. وفوق هذا وذاك، أتذكر قول أم وهي تقول عن زيد: من في الغرب يفكر في الأم التي فقدت أولادها في العراق؟!! ويقدر (تودنهوفر) في تلك المقابلة عدد العراقيين الذين قتلوا بسبب الغزو الأمريكي بحوالي المليون ومائتي ألف شخص، ثم يسأله المذيع عما إذا كان يمكن مقارنة هذا الرقم بمن قتل في عهد صدام؟ فيقول: إن صدام بالنسبة له كان دكتاتوراً، وعديم الرحمة، ولكنه يرفض هذه المقارنة، وقد رفضها من قبل، كما رفض مقابلة صدام أو أحداً من حكومته.. وبما أن المذيع فتح باب المقارنات، فقد انتهز (تودنهوفر) الفرصة ليقوم بمقارنة من نوع آخر، مقارنة بين ما يسمى بالعنف الإسلامي والعنف الغربي، فيقول: ولكنني أجد نقاشنا في الغرب هو الذي يدعو للسخرية!! فنحن نتحدث دائماً عن عنف العالم الإسلامي، ونحن نتصرف وكأن زيداً يمثل عنف العالم الإسلامي الذي هو مشكلة عصرنا..!! ويواصل: أريد أن أذكر لك رقمين، فرغم معرفتي بأن الأقدار لا يمكن وصفها بالأرقام، فإن القاعدة قتلت خمسة آلاف من المدنيين الغربيين خلال عشرين عاماً.. وهؤلاء لهم أسر ولهم أصدقاء.. إنها مأساة كبيرة.. ولهذا فالقاعدة بالنسبة لي ليست مقاومة من أجل الحرية.. أو مقاومة للمحتل.. وليسوا مجاهدين.. ولكنهم قتلة.. ولكن -في المقابل- الرئيس الأمريكي لم يقتل خمسة آلاف مدني عراقي.. ولكنه قتل مئات الآلاف من المدنيين..!! وهذه غطرسة لا يمكن تصورها عند القول بأن مشكلة عصرنا هي عنف العالم الإسلامي!! الحقيقة أن مشكلة عصرنا هي عدوان بعض الدول الغربية..!! ثم يطرح المذيع سؤالاً على (تودنهوفر) يقول فيه: هل لدينا نوع من العنصرية ضد الإسلام؟ فيرد الضيف قائلاً: هناك تصريحات غربية ليست فقط من السياسيين الألمان، ولكن أيضاً من السياسيين الهولنديين والأمريكيين تحمل سمة عنصرية واضحة.. وأعتقد أنا أطلقنا كذبة مريحة في حياتنا مفادها أننا الصالحون ونحن المثل الأعلى.. ونحن الذين نمد يد المساعدة.. ولكن الحقيقة عكس ذلك.. أعتقد بأننا في الغرب لم نسيطر على العالم من أجل فكرنا الرائع.. أو قيمنا النبيلة.. أو لعظمة ديننا.. ولكن لأننا استخدمنا العنف بلا رحمة أكثر من الآخرين.. ويواصل (تودنهوفر) كلامه وحججه قائلاً: وإذا سمحت لنفسي أن أكون جاداً، لم يكن المسلمون من ذبح أربعة ملايين من البشر أثناء الحروب الصليبية..!! ولم يكن المسلمون من قتل خمسين مليوناً أثناء الاستعمار..!! ولم يكن المسلمون من قتل سبعين مليوناً في الحربين العالميتين الأولى والثانية..!! ولم يكن المسلمون من قتل ستة ملايين من اليهود..!! ولكن هذا حصيلة عدوان العلام الغربي.. ثم يقاطعه المذيع متسائلاً عن ضحايا القاعدة، فيرد بأنه يعيد ويكرر بأن القاعدة عنده قتلة.. ولكن لا بد من الحديث عن ضحايا السياسة الغربية في العراق وأفغانستان.. فيسأله المذيع: هل يخيفنا هذا لأنه غريب؟!! هل من الأفضل أن نتبادل الحوار ليعرف بعضنا بعضاًَ؟!! فيرد (تودنهوفر): أعتقد بأن لب المشكلة يكمن في أن غالبية الناس يتحدثون عن تلك البلدان مثل العراق وأفغانستان ولم يزوروها قط.. المشكلة هي في السياسة المعاصرة، فلا يوجد سياسي أمريكي أو ألماني أو فرنسي قضى أسبوعاً أو خمسة أيام مع عائلة في تلك البلدان كما فعلت أنا.. فيقول المذيع: ألم يطيروا إلى هناك ويجدوا كل شيء على ما يرام؟ ويتحدثوا عن ذلك في مؤتمراتهم الصحفية؟!! فيقول الضيف إنه عاش بنفسه تلك التجربة في الرمادي، حيث قام الجيش بإجراءات أمنية مشددة لمنطقة قام أعضاء من مجلس الشيوخ الأمريكي بزيارتها لمدة ساعتين.. وقالوا بعد ذلك بأن الماء والكهرباء متوفرة.. وأن الناس في حالة جيدة.. وعندما رحلوا انقطعت الكهرباء مما اضطر معظم الناس للمبيت خارج المنازل بسبب الحر الشديد، فدرجة الحرارة تصل في النهار إلى خمسين تقريباً، فيسأل المذيع: هل تصدق الصحفيين؟ فيقول الضيف: لا يوجد بين مشاهديك هذه الليلة (وكان الأستوديو مليئاً بالحضور) أحد شاهد الحرب الحقيقية في العراق، والآن يجب أن أستعين ببعض الأرقام.. يوجد في العراق حوالي مائة ألف من المقاومين الحقيقيين، والمناضلين من أجل الحرية.. الذين لا يقتلون المدنيين.. فقط يقاومون الاحتلال الأمريكي.. وهناك ألف مقاتل من القاعدة أكثر من 70% منهم أجانب، وأعطيك المزيد من تفاصيل هذه الحرب.. هناك في المتوسط حوالي مائة عملية تقوم بها المقاومة كل يوم، وحوالي مائة عملية تقوم بها القوات الأمريكية عبارة عن غارات، وإطلاق رصاص، وقصف بالقنابل.. وقد عشت بعض تلك الأحداث شخصياً، ثم يتحول الضيف إلى مذيع ويسأل: ماذا تشاهد على شاشات التلفزيون؟ ويجيب عن سؤاله: إنك لا تشاهد المائة عملية التي تقوم بها المقاومة.. ولا تشاهد المائة عملية التي تقوم بها قوات الاحتلال الأمريكي.. إنما تشاهد عملية أو عمليتين أو ثلاث من العمليات الانتحارية الوحشية لإرهابيين أجانب، ونشاهد ذلك لأن الحكومة الأمريكية تحتاج إلى إبراز تلك العمليات لتبرر حربها على العراق أمام الأمريكيين.. وهذا يعني أنك لا تشاهد الحقيقة.

انتهى اللقاء مع (تودنهوفر) وهي شهادة من إعلامي غربي متمرس، عايش الحدث، وأدلى بشهادته حول الأوضاع، وحول الاحتلال وجرائمه، وحول ما يسمى بالعنف الإسلامي، وأثبت بالأرقام أن العنف الغربي هو الأبرز، وأن ضحاياه يقدرون بعشرات الملايين، وأن المسلمين هم من ضحايا ذلك العنف، وليسوا مصدراً له كما يحاول الإعلام الغربي تصويرهم.. وهذه المقابلة المبنية على رحلة ميدانية، وكتاب تم نشره تعتبر من قبيل (وشهد شاهد من أهلها)، وهي الأقوى عند شرح وجهة النظر العربية والإسلامية للغرب، ولا يعادلها في القوة إلا تلك الصور التي خرجت من سجن أبوغريب وسجن غوانتانامو، وبعض اللقطات الواقعية التي بثتها القنوات الفضائية من أرض الحدث.والله من وراء كل شيء، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية لعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية


zahrani111@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد