Al Jazirah NewsPaper Friday  06/03/2009 G Issue 13308
الجمعة 09 ربيع الأول 1430   العدد  13308
نوازع
مشكلة الاقتصاد والقواعد والأخلاق
د. محمد بن عبدالرحمن البشر

 

قال رئيس الوزراء البريطاني الحالي إن المشكلة الاقتصادية العالمية الحالية نابعة من أمرين لا ثالث لهما: قواعد نظام مالي غير راسية، وأخلاق إنسانية غير زاكية، ولهذا أضحت المشكلة سارية في أفئدة الناس بعد أن خويت جيوبهم، فمن كان يصدق أن بنكاً له من العمر أكثر من مائة عام مثل (كمين برذر) سيجلب الوبال المالي على كثير من المستثمرين بمبلغ يتجاوز 50 مليار دولار، وأن رجلاً مثل (مادوف) سيمسح من سجلات عملائه 50 مليار دولار بعد أن أفلس، وأن آخر اسمه (ستنافورد) وثق فيه البعض لتكون حصيلة محافظهم خاوية ليبلغ إجمالي الضرر 8 مليار دولار.

ومن كان يخطر بباله أن بنكا مثل (بنك أوف سكوتلاند) سيخسر في السنة الماضية فقط أكثر من 34 مليار جنيه، وأن جنرال موتورز تسجل خسائر في السنة الماضية بنحو 30 مليار دولار، وهكذا نسمع في كل حين رقما للخسائر مذهلاً جنته إحدى الشركات العملاقة التي كانت مصدر أمن للمستثمرين العالميين من حكومات وأفراد، وعلينا أن نتخيل ما حل بأحد أكبر بنوك العالم وهو (سيتي قروب) لتهوي قيمته من 225 مليار دولار إلى دولارات محدودة.

هذه الأرقام الفلكية غير المتوقعة، والأزمة التي تضاهي في حدتها وشدتها أزمات سابقة بل ربما تجاوزتها بمراحل، تنذر بأن مسيرة الانيهار لم تبلغ منتهاها، وأن العالم يتوقع المزيد والمزيد من المواجع والآلام الاقتصادية والاجتماعية وقد يجرّ ذلك إلى بعض الهزات السياسية.

في ظل هذه الأجواء الاقتصادية العاصفة اختصر السيد جون براون المشكلة في أمرين هما: القواعد المالية، والمسالك الأخلاقية، والقواعد المالية غابت في فترة غفلة من العالم تحت تأثير نشوة الاندفاع إلى تحرير الاقتصاد، وفتح الأسواق، وترك الأيدي الخفية (لآدم سميث) مؤسس النظرية الاقتصادية التي تسيّر الاقتصاد كما تشاء، ليفعل قانون العرض فعله في تحديد الأسعار، وأن يطلق للمنافسة عنانها لتسيّر الاقتصاد كيفما تشاء، وقد شرب العالم من اقتراح انتصار الاقتصاد الحر ضد الاقتصاد الموجه أثناء الاتحاد السوفيتي وكتلته، ويبدو أنهم قد أسرعوا فيما شربوه فزادت النشوة عن حدها فكان مآل المنتشي بانتصار نظريته مصير أولئك المنتشين والعياذ بالله بما لا يجوز.

لقد نسي العالم أو غفل عن وضع قواعد للاقتصاد الحر، وظنوا أن السوق الحر ليس من صنع البشر، وأن أي عمل بشري لابد له من هفوات، ولابد له من تجديد وتقويم وقواعد وتنظيم، وسيستمر ذلك ما استمرت البشرية. لذا فإن غياب القواعد كان مشكلة كأداء ذهب ضحيتها عدد كبير من المستثمرين.

الأخلاق عنصر مهم في التعامل الإنساني وعلى رأسه التعامل المالي، ولذا كانت عنصراً يستوجب أخذه بعين الاعتبار، ولا يمكن إغفاله، غير أن الأخلاق ليست قواعد من إنشاء البشر يمكن إصدارها بمرسوم، وإنما هي إرث ثقافي يصبح جزءاً من السلوك البشري مع مرور الوقت، والتأثير فيه أو تغييره عسير غير أنه ليس مستحيلاً، ومن الأخلاق ما هو حميد ومنها ما هو غير ذلك، وحميد الأخلاق يتغنى به الجميع، لكن التطبيق يتباين بين المجتمعات لا سيما في التعامل المالي، وعندما لا تكون القواعد واضحة فإن البعض قد يستغل الموقف لشهواته الذاتية كما جرت في بعض المؤسسات المالية العالمية، وكانت الفرصة متاحة من الناحية الإجرائية، فتم استغلالها لضعف الحاجز الأخير وهو الردع الأخلاقي، بينما في دول أخرى نامية تكون القواعد متوفرة، غير أن التطبيق لتلك القواعد يصطدم بالسلوك السائد في تلك البلاد وتغليب الهوى، وتجاوز القاعدة في سبيل المصلحة الشخصية وتفضيل الصاحب على غير الصاحب، ولهذا بقيت دول كثيرة لا سيما في إفريقيا بعيدة عن النهوض ومسايرة العالم، غير أن كثيراً من هذه الدول النامية لم تتأثر كثيراً وبصفة مباشرة بالأزمة الاقتصادية لسبب وحيد، أنهم في الأصل خارج المنظومة الاقتصادية العالمية، يعيشون بطريقتهم التي ارتضوها لأنفسهم، أوفرضت عليهم، فهم هكذا وربما يستمرون كذلك لأن تغير النمط الإنتاجي يحتاج إلى تغير في السلوك الأخلاقي المرتبط بالقطاع الاقتصادي.

السلوك الاستهلاكي جزء من الإرث العالمي المرتبط بالطبائع والاختلاف، ولهذا فإن الشعوب التي يستهلك أفرادها أكثر من دخلهم معتمدين على القروض التي تمدهم بها المؤسسات المالية أو الأصدقاء والأقرباء، جرّت الجميع إلى حفرة عميقة لأن ذلك المقترض تجاوز حدود إمكانية إنتاجه الحالية للمال ليسدد به قرضه، فهوت تلك المؤسسات المقرضة وهوى معها المقترض وهكذا تدحرج الجميع بعد أن ربطوا أنفسهم بسلسلة واحدة. والغريب في الأمر أن الحكومات ذاتها وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية أكبر اقتصاديات العالم تقترض لتصرف أكثر من قدرتها، ويزداد دينها بصورة متصاعدة لتصبح في يوم ما مضطرة إلى خفض نفقاتها لتخفف عن كاهلها ذلك الدين أو يحدث أمر ما لا نعلمه ليحل تلك المعضلة. الاقتصاد عنصر أساسي من أساسيات الحياة والعاقل من يصرف بقدر دخله دون النظر إلى محاكة الآخرين ومنافستهم، فالمنافسة ليس لها من طائل إلا المزيد من القلق والعناء دون جدوى، وعلى المرء أن يدرك قدره في ذاته وليس بما يملك أو يظهر به من مسكن وملبس ومأكل ومشرب.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد