Al Jazirah NewsPaper Thursday  19/03/2009 G Issue 13321
الخميس 22 ربيع الأول 1430   العدد  13321
الحبر الأخضر
أهلاً بمن عاتبني فيه ربي
د. عثمان بن صالح العامر

 

تفرض قضية المعاقين نفسها على جدول أعمال أي بلد أو حضارة تسعى للحفاظ على كرامة شعوبها وقاطنيها والمنتمين لها المنافحين والمكافحين عنها ومن أجلها سواء في العصر القديم أو الحديث.. والباحث في التراث الإسلامي المتأمل في النصوص يعجب بصدق حين يتدبر المواقف ويقرأ الأحداث قراءة تحليلية متمعنة، يُعجبُ بموقف هذا الدين من هذه الفئة الغالية سمِّها ما شئت: (ذوي الحاجات الخاصة، الإعاقة أو المعوق، العجزة، أولي الضرر، أهل البلاء، ذوي الأعذار).. فحقوقهم محفوظة وكرامتهم مصانة رغم البلاء الذي حلَّ بهم وعجزهم عن مجاراة الأصحاء، حقوق دافع عنها الله عز وجل ولم يكلها لقانون بشري يُسن.. أو نظم اجتهادي يشرع، وطالبنا نحن المسلمين بوجوب القيام بها في كل حين وعلى كل حال، وإن قصَّرنا فنحن من سيخسر في النهاية.. (وهل تنصرون إلا بضعفائكم)، ومن هذه الحقوق احترام مشاعر المعاقين وعدم كسر نفوسهم أو التقليل من دورهم في معركة الحياة، ولا أدل على هذا من عتاب الله للرسول -صلى الله عليه وسلم- فقط لأنه انصرف عن الأعمى وانشغل بما هو أهم -في ظنه-، والمسلم يرى هذه الصورة بكل تفاصليها في أول (عبس)، ويُؤجر بكل حرف حين يقرأ الحكاية التي مرَّ عليها أكثر من أربعة عشر قرناً، يقرؤها فتذكره بكل عاجز ضعيف وتنبه ليرعى من حوله ويحترم مشاعرهم ويراعي خواطرهم، ومثالاً آخر، قصة الأعمى الذي سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن صلاته في بيته (هل تجد لي من رخصة؟) فقال عليه الصلاة والسلام (نعم) فلما انصرف، دعاه فقال هل تسمع النداء، قال نعم، فرد عليه الصلاة والسلام: إذاً فأجب، (ليس في هذا الحوار القصير الدلالة على وجوب الصلاة جماعة في المسجد فقط بل فيه كذلك أهمية الدمج للمعاق وعدم التقليل من شأن حضوره مع جيرانه في دائرة الحي) المحيط الاجتماعي المتقارب.. خصوصاً إذا أخذنا في البال كيف كان النداء زمن الرسول عليه الصلاة والسلام.. وأين يصل صوت المؤذن حين يصدع بالأذان.. وما هو دور المسجد اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً؟.. والمرأة التي تصرع.. وعتاب الرسول لأبي ذر.. وتكريم عبد الله بن أم مكتوم الأعمي بالأذان والاستخلاف على المدينة والإمامة.. وتكريم أبي زيد بالأذان وهو مقعد.. وتكريم جارية أعجمية خرساء بالعتق.. وعمرو بن الجموح الأعرج يُبشر بالجنة.. ومثله النعمان بن قوقل .. والرسول عليه الصلاة والسلام تأتيه امرأة لديها إعاقة ذهنية فتقول له: يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فيقوم عليه الصلاة والسلام: يا أم فلان انظري أي السكك شئت أقض لك حاجتك (هكذا بكل أدب واحترام) يا أم فلان، ومنحها حرية اختيار المكان الذي تأنس للحديث فيه، يقف صلى الله عليه وسلم مع امرأة مجنونة بكل أدب وشفقة وسعة صدر مستمعاً حاجتها، مراعياً مشاعرها غير مترفع ولا مستعجل، لم تثنه أعباء الرسالة وثقل همومها ولا حال المرأة وجنونها عن ذلك.. وهذا عتبان بن مالك رضي الله عنه، وكان رجلاً من الأنصار، يقول: وددت يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى، فوعده صلى الله عليه وسلم بزيارة وصلاة في بيته قائلاً: سأفعل إن شاء الله، قال عتبان فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله فأذنت له فلم يجلس حتى دخل البيت، ثم قال: أين تحب أن أُصلي في بيتك؟ فأشرت إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله عليه الصلاة والسلام فكبر فقمنا فصفنا، فصلى ركعتين ثم سلم، وأبو بكر الصديق يقوم على شئون امرأة عجوز عمياء طاعنة في السن ويقضي أمورها بنفسه، وعمر يتعاهد عجوزاً عمياء مقعدة ويخرج عنها الأذى، وقد تعدت الرعاية للمعاقين تصرفات الأفراد لتصبح نمطاً من أنماط الحياة الإسلامية وسياسة ثابتة والتزاماً من الدولة نحو رعيتها حتى جاء عهد الوليد بن عبد الملك حيث تم إنشاء دور الرعاية للمرضى والمعاقين أطلق عليها (البيمارستان)، وهي كلمة فارسية مركَّبة معناها (محل المرضى)، ليس هذا فحسب بل وجد المعاق في دولة الإسلام الطريق أمامه مفتوحاً للشهرة والتميز فهذا عطاء بن أبي رباح إمام أهل مكة يأمر عبد الملك بن مروان المنادي ينادي في موسم الحج (ألاَّ يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح) قال أبي داود: (كان عطاء... أعور، أشل، أفطس، أعرج، أسود، ثم عمي بعد، وعطاء قطعت يده مع ابن الزبير) ومن رواة الأحاديث مثلاً (الأعمش، الأعرج، الأحنف، الأحدب، الأحول، الأشل، الأصم، الأعور، الأفطس)، وقد كتب علماء التراجم والسير عمن نبغ منهم كما فعل ابن الجوزي في (تلقيح فهوم أهل الأثر في عيون التاريخ والسير).. وأبو عثمان الجاحظ أفرد كتاباً خاصاً بهم سماه: (البرصان والعرجان والعميان والحولان).. ما أردته هنا هو الإشارة العاجلة إلى أن في تراثنا الإسلامي ما يمكن أن يكون بمثابة الأساس والقاعدة المتينة التي ننطلق منها وعليها نتكئ حين التأصيل لمشاريعنا الإنسانية.. أقول هذا ونحن نتطلع إلى بدء فعاليات المؤتمر الدولي الثالث للإعاقة والتأهيل الذي تحتضنه الرياض خلال الفترة من 22- 26 مارس الجاري 2009م.. والذي سيستعرض واقع البحث العلمي في مجال الإعاقة والتأهيل محلياً، وإقليمياً وعالمياً، إلى جانب استشراف مستقبل البحث العلمي في مجال الإعاقة والتأهيل وتأصيل وتفعيل ثقافة البحث العلمي في مجالات الوقاية والرعاية والتأهيل، وتعميق مفهوم الشراكات والتعاون محلياً وإقليمياً وعالمياً، فالبحث العلمي يكشف كم هي صلبة الأرض التي نقف عليها والمبادىء التي نعتقدها.. وإنني إذ أُشير إلى هذه الحقوق مركِّزاً على الجانب التأصيلي لها أشيد بالدور الذي تقوم به جمعية الأطفال المعوقين التي أضحت علامة فارقة تميز المملكة العربية السعودية عن غيرها عربياً وإسلامياً وعالمياً.. كما أُثمِّن دور المنظمين للمؤتمر والباحثين في هذا الميدان.. ودمت عزيزاً يا وطني والسلام.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد