Al Jazirah NewsPaper Thursday  19/03/2009 G Issue 13321
الخميس 22 ربيع الأول 1430   العدد  13321

فيض الضمير
إن كان فينا ما كُنَّا عرباً ولا كُنَّا مسلمين!!
د. محمد أبو بكر حميد

 

يشكو الناس من ندرة الوفاء وقلة المروءة في هذا الزمن، ويتحدثون وكأن الوفاء قد انعدم والمروءة قد ذبحت. فهل هذا صحيح؟ أم هو من باب المبالغة؟! والوفاء خلق عظيم لا يمكن أن تكتمل إنسانية الإنسان إلا به. فإذا كنا نتداول قصص وفاء القطط والكلاب فهل يقبل الإنسان - عندما لا يكون وفيا - أن ينزل دون مستوى الحيوان؟

وقد كرم الله ابن آدم ورفع منزلته فوق سائر المخلوقات، وفضَّله حتى على الملائكة لا الحيوانات فحسب، لأن الملائكة لا خيار أمامها إلا أن تكون نوراً خالصاً وخيراً خالصاً، أما الإنسان بما وهبه الله من عقل وإرادة حرة فالخيارات أمامه مفتوحة: (إما أن يكون إنساناً يفوق الملائكة أو يضع نفسه دون مستوى الحيوان لأن الحيوان قد يتفوق عليه!! وصاحب القرار - عندما يحسن صناعة القرار - لا شك أفضل ممن لا قدرة له على اتخاذ قرار أو لا يملك حق اتخاذ قرار، والإنسان من دون كل مخلوقات الله صاحب قرار إما يسمو به أو يرتكس به.

وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الخير يبقى في هذه الأمة إلى يوم القيامة.. نعم قد يقل ويضعف بضعف النفوس وتضاعفها في العدد، لكنه يبقى معيناً لا ينضب، فالأمة العربية تفوقت قبل الإسلام على سائر الأمم بمكارم الأخلاق، لهذا قال خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم (إنما جئت لأتمم مكارم الأخلاق) ليؤكد أن هذه المكارم كانت موجودة لديهم. ولكي يشعر العرب أن الإسلام يحفظ مكانة من تحلى بهذه المكارم في الجاهلية قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام). ولا يوجد في تراث أمة من أمثلة وقصص الوفاء كالذي يوجد في تراث هذه الأمة العربية التي أتم الله لها المكارم بالإسلام. كيف لا؟، وهذه الأمة كانت تقول في جاهليتها (من لا وفاء له لا دين له)، ولأنها لم تعرف الدين فاتخذت من الوفاء دينا، فبدون الوفاء لا تكتمل معاني المروءة في الإنسان، ومن كان قليل مروءة فهو قليل أصل لا دين له. وقد أغرمت بقصص الوفاء عند العرب في صباي حتى أدركت في تلك المرحلة المبكرة من حياتي سر اختيار رب العالمين العرب لحمل رسالة الإسلام وانبعاث آخر الأنبياء من بينهم والله أعلم حيث يضع رسالته.

ومن قصص الوفاء في الجاهلية التي لا تزال بذاكرتي قصة النعمان بن المنذر ونديمه شريك بن عدي بن شرحبيل مع الطائي، إذ كان للنعمان يومان؛ يوم أسود يقتل فيه من يصادفه ويوم أبيض يحسن فيه لمن يلقاه. وكان سوء طالع رجل فقير يُدعى الطائي أن لقي النعمان في يومه الأسود، فتوعده النعمان بالقتل ولما لم تفد توسلات الطائي بفقره وكثرة عياله الجوعى الذين ينتظرون عودته، طلب من النعمان أن يأذن له ليوصي أهل المروءة في الحي حتى لا يضيع أطفاله. فطلب منه النعمان من يضمن عودته فلم يجد الطائي أمامه إلا شريك بن عدي نديم النعمان فهل يضمنه شريك وهو لا يعرفه؟! نعم ضمنه شريك وهو لا يعرفه شخصياً ولكنه يعرف أن الوفاء من صفات العرب.

وهكذا غاب الطائي النهار كله حتى دخل المساء وكاد النعمان أن يفتك بصاحبه ونديمه، ولكن شريك كان على ثقة بأن الطائي سيعود وبالفعل عاد الطائي في اللحظة الأخيرة، فعجب الملك النعمان أشد العجب، وقال للطائي: لماذا عدت وقد نجوت؟ فأجابه الطائي: ديني دعاني للعودة فمن لا وفاء له لا دين له. فأطرق النعمان وقال للرجلين: والله ما رأيت أعجب منكما أما أنت يا طائي فما تركت لأحد في الوفاء مقاماً يقول فيه، ولا ذكراً يفتخر به. وأما أنت يا شريك فما تركت لكريم سماحة يذكر بها في الكرماء، فوالله لا أكون أقل منكما سماحة وكرماً ووفاء، ولتكن أيامي كلها بيضاء لا سواد فيها أبداً!!.

ومما تأثرت به من قصص وفاء العرب بعد الإسلام - على سبيل المثال لا الحصر - قصة المنذر بن المغيرة مع المأمون الذي فتك والده أمير المؤمنين هارون الرشيد بالبرامكة، سمع المأمون بأمر رجل يأتي كل ليلة ويبكي على أطلال قصور البرامكة وهو يردد:

ولما رأيت السيف جندل (جعفرا)

ونادى مناد للخليفة في (يحيى)

بكيت على الدنيا وزاد تأسفي

عليهم وقلت الآن لا تنفع الدنيا

فطلبه المأمون فلما وقف بين يديه سأله: من أنت؟ ولماذا تفعل كل ليلة ما تفعل؟ فقال له المنذر إنه من أبناء الملوك، زال سلطانه، وتنكرت له الدنيا، واشتدت به الفاقة والفقر، فغادر دمشق إلى بغداد يبحث عن رزق لعياله، فدخل مسجداً عظيماً، فإذا به يحيى بن خالد البرمكي في حاشية من خدمه وحشمه فاندس بينهم، وذهب معهم إلى قصره، فلمّا قسَّم عليهم يحيى عطاياه من الذهب والدنانير ناله ما نالهم، وكان يحيى قد انتبه لوجوده بينهم فسكت عنه، فلما انفضَّ المجلس طلبه وطمأنه. فلما عرف قصته رقَّ له وأكبره وقال: إن من المروءة أن ننزل الناس منازلهم.

وأمر بأن يُصرف له ألف ألف درهم وعشرة آلاف دينار وقصر منيف وجراية شهرية لكل فرد من أسرته، وأعاد إليه ما تمَّت مصادرته من أملاكه بعد نكبة البرامكة.

ولكن الرجل بدلاً من أن يفرح علا صوته بالبكاء والنحيب، فعجب المأمون أشد العجب وقال له: يا هذا لقد أحسنا إليك فلم تبكي؟! فقال: يا أمير المؤمنين حتى هذا أيضاً من صنائع البرامكة، إذ لو لم آت إلى أطلالهم فأبكيهم ما وصلت إليك!! فتأثر أمير المؤمنين المأمون ودمعت عيناه وظهر عليه الإعجاب بهذا الوفاء العظيم وقال للرجل: (صدقت.. هذا من صنائع البرامكة فعليهم فابك، وإياهم فاشكر، ولهم فأوف، ولإحسانهم فاذكر..)!!

فلا نعجب ولا نيأس إذا رأينا في بعض أهل هذا الزمان من ندرة الوفاء وقلة المروءة، فليس ذلك هو الأصل فينا، ولا هو الغالب علينا، ولا هو من الدين، فإن ساد فينا ما كنا عرباً.. ولا كنا مسلمين!!


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد