Al Jazirah NewsPaper Wednesday  25/03/2009 G Issue 13327
الاربعاء 28 ربيع الأول 1430   العدد  13327
ثلاثية
محاكمة البشير: الخلفيات القانونية والسياسية
د. سعد البريك

 

مع انتهاء فترة بوش وبداية حكم الديمقراطيين أعلنت الخارجية الأمريكية عن تبني سياسة القوة الناعمة، عوضا عن سياسة قوة الحديد والنار التي درجت عليها أمريكا في مرحلة ما بعد 11 سبتمبر تحت دعوى مكافحة (الإرهاب)، ويبدو أن الديمقراطيين في المرحلة الراهنة...

... وفي ظروف أمريكا السياسية والاقتصادية و(الحربية) ليسوا مخيرين في اختيار هذا النهج وإنما مع قناعتهم بجدواه ساقهم إليه القدر سوقا لم يعد بمقدورهم مقاومته!! فأمريكا تتآكل من الداخل اقتصاديا وسياسيا يوما بعد يوما! كما أن حروبها الخارجية في أفغانستان والعراق أصبحت خاسرة - باعترافها البين - وتزيد من استفحال أزماتها الداخلية وتضعضع قوتها ومكانتها في العالم! وفي ظل هذه الظروف لم يعد أمامها من خيار سوى تبني القوة الناعمة لاستكمال مشروعاتها الاستراتيجية. بلد كالسودان يحتضن في جعبته ثروة نفطية هائلة وخيرات أخرى يمثل بها هدفا لتلك المشروعات! ليس بالنسبة لأمريكا فقط بل بالنسبة لحلفائها المقربين أيضاً من أصحاب الفيتو (بريطانيا وفرنسا)! وليس هذا ما يهم في السودان فقط بل لأن السيطرة عليه سياسيا عنصر غاية في الأهمية في التحكم بمصير الصراعات على طرفيه: الشرق الأوسط وإفريقيا!

فهو محور استراتيجي مهم في إدارة الصراعات الإقليمية في المنطقتين بما فيها صراع المياه، كما أن السيطرة عليه يحسم صراع النفط مع هيمنة الصين عليه في السودان، وإضافة إلى هذا كله هناك رسالة مهمة لكل الدول المستضعفة تقول: يدنا تطال الجميع!

هذه المقدمة ضرورية لفهم طبيعة الدور الأمريكي الجديد في مشروعات الهيمنة! ومعه - كما في السابق - دور حلفاء تتفاوت مصالحهم بحسب مواقعهم وتأثيرهم في مجريات السياسة الدولية وفي المسرح السوداني نفسه. لذا فإن قرار المحكمة الجنائية القاضي بتوقيف الرئيس البشير هو قرار سياسي وهو نسخة جديدة من أشكال القوة الناعمة التي أعلنت عنها أمريكا، فالمحكمة أداة ناعمة لفرض الهيمنة الأمريكية على السودان دون أي طلقة تسمع. والقرار من بدايته لم يكن إلا موقفا سياسيا بغلاف قانوني تبنته المحكمة الجنائية الدولية بإيعاز من أمريكا ومعها فرنسا وبريطانيا بعد أن تبناه مجلس الأمن، ومجلس النواب الأمريكي هو أول من أطلق شرارة اتهام السودان بارتكاب إبادة جماعية في دار فور تاريخ 3- 10-2004م، وبعدها وافق مجلس النواب الأمريكي على مشروع قانون يفرض عقوبات على أفراد مسوؤلين عن جرائم ضد الإنسانية في دار فور 7-4-2006م، وبعدها بأشهر أعلن رئيس المحكمة عثوره على الأدلة التي تثبت وقوع تلك الجرائم، وبعدها مباشرة بدأ صدور مذكرات الاعتقال بحق شخصيات سودانية في الدولة ومن ميلشيات الجنجويد إلى أن طال الاتهام الرئيس السوداني نفسه بأدلة قالوا إنها وثائق سرية وشهود يفوق عددهم الثلاثين! ولا شك بأن تجاوزات خطيرة حصلت في دار فور نجم عنها قتل فئام كثيرة من الناس قدرها السودان بعشرة آلاف بينما قدرتها الأمم المتحدة بين مائتين إلى ثلاثمائة ألف قتيل، إضافة إلى مليون نازح داخل السودان ومائتي ألف في تشاد! وهو أمر أكدته لجنة تقصي الحقائق الموفدة من الجامعة العربية، كما أكدته اللجنة المكلفة من قبل الحكومة السودانية برئاسة القاضي دفع الله الحاج يوسف.

لكن الأزمة في مجملها ليست وليدة سياسة حكومة البشير بل هي تاريخية تداخلت فيها العوامل القبلية والاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى هيمنة اللوبي الصهيوني والغرب على ولاءات داخل الإقليم زاد من تفاقم الصراع وحال في كثير من الأحيان دون إحلال الاستقرار!

ولست هنا بصدد مناقشة قرار المحكمة فمن وجهة نظر قانونية يكفي أن السودان ليس عضوا فيها ولا موقعا على ميثاقها التأسيسي ولا على تأسيسها، وهو ما يعني وقوعه خارج اختصاصاتها، وقراراتها ملزمة لأعضائها وهذا هو واقع حال أمريكا مثلا وموقفها من المحكمة، فهي لا ترى لها سلطة على مسؤوليها.. فلماذا الكيل بمكيالين؟! ولماذا ترى لها سلطة على السودان وهو مثلها ليس عضوا؟! لكن وجهة النظر القانونية هذه عليها مأخذ يتمثل في التداخل بين اختصاصات مجلس الأمن والمحكمة، فبرغم أن المحكمة تخدم عدالة الدول الموقعة على ميثاق تأسيسها إلا أنها تفتح القبول للنظر في القضايا التي يحيلها مجلس الأمن عليها و(كل قضية تستحق النظر فيها)! ومن ذلك مثلا قضية دار فور، فالمحكمة نظرت فيها بطلب من مجلس الأمن وهنا المفارقة! فسواء وقَّعت دول العالم على ميثاق المحكمة أم لم توقع يبقى لمجلس الأمن الحق في استعمال المحكمة لمقاضاة من يشاء وترك من يشاء! ومعنى هذا كله أن من يهيمن على مجلس الأمن ويملك حق تفعيل قراراته ومنعها هو نفسه من يمكنه استعمال المحكمة في محاكمة هذا وترك ذاك، فقضية دار فور مثلا طرحت أولا في مجلس النواب الأمريكي ثم أحيلت إلى مجلس الأمن ومن ثم أحالها مجلس الأمن على المحكمة، فحكمت بتوقيف البشير وأحالتها من جديد إلى مجلس الأمن لتنفيذ الحكم بمقتضى الفصل السابع، وبرغم أن المادة السادسة عشر من ميثاق المحكمة يسمح بتأجيل القرار لمدة عام إلا أن تنفيذه يتطلب عدم إشهار الفيتو الغربي في وجهه وهو ما يجعل حتى قرار التأجيل بيد أمريكا في النهاية!!

القرار الآن بيد مجلس الأمن أي بيد من يمسك بزمامه ويتبنى القضية من أول وهلة وهي تحديدا أمريكا! ومعها الحلفاء التقليديون: فرنسا وبريطانيا!

ومع غياب مصداقية هذه المحكمة ووقوعها لعبة في يد القوى الكبرى، أرى من العبث مناقشة قانونية قرار توقيف الرئيس السوداني عمر البشير! فالقرار برمته سياسي في أفقه براغماتي في أبعاده يفرضه منطق القوة (منطق الغاب) لا منطق الحجة ولا القانون ولا العدالة.

فكم من الأرواح أزهقت في العراق بكذبة بوش؟.. وكم هجر من العراقيين خارج ديارهم؟ أليس أكثر من سكان دار فور قاطبة ما يفوق 4 مليون من النساء والولدان والمستضعفين؟! وكم ارتكبت من الفظائع في الصومال؟ وفي جِنين على يد شارون وفي جنوب لبنان؟!

وكم أحرق من الأطفال بالفسفور المحرم دوليا في غزة مؤخرا؟! ألم يكن ذلك كافيا لإصدار مذكرة اعتقال في حق أولمرت على أقل تقدير؟!

فهل عميت عيون المحكمة عن كل هذا. ولم تر إلا حروبا نشبت في ظل صراع تاريخي بين قبائل دار فور؟!!

لقد عودتنا مثل هذه المؤسسات الكيل بمكيالين في تناول القضايا كما عودتنا أن تكون أجندة لمصالح القوى الكبرى وأذرع ضاربة لها في السياسة الدولية، كما أشار إلى ذلك بيان مجلس الوزراء العرب المتضامن مع السودان كما عودتنا هذه المؤسسات أنها تكذب وتتحرى الكذب لاختلاق الذرائع للحروب، وحتى لا يكون كلامنا إنشائيا دعونا نستعرض مقتطفات سريعة من طرق اختلاق الأكاذيب التي من خلالها تم استصدار قرار الحرب على العراق في مجلس الأمن!

فهذه أمريكا شهد شاهد من أهلها كولن باول وزير الخارجية على ذلك، فقبيل الحرب أدلى بشهادته مقنعا الرأي العالم الأمريكي والعالمي بامتلاك العراق لأسلحة دمار متنقلة، وكلنا يذكر كيف كان يعرض حججه بالصور عبر شاشة سينمائية ثم جاء بعد خراب العراق نادما على تصريحاته ومعلنا أسفه يقول للعالم: (يبدو أن هذه المعلومات لا تستند على أساس قوي). ويقول أيضا: (إذا اتضح الآن عدم مصداقية هذه المصادر فينبغي أن نعرف كيف وضعنا أنفسنا في هذا الموقف).

أما كبير مفتشي الأسلحة السابقين في العراق ديفيد كاي الذي شهد هو أيضاً بامتلاك العراق لتلك الأسلحة قبل الحرب فقد استفاق ضميره بعد احتلال العراق ودماره وأصبح يقول: (لا أعرف ما إذا كان العراق امتلك قط برنامجا متنقلا للأسلحة) وأقر بخطئه أمام العالم!!

أما هانكس بليكس الرئيس السابق للجنة الأمم المتحدة لمفتشي أسلحة الدمار الشامل في العراق فقد اتهم بريطانيا بأنها: (ضخمت المعلومات كالبائع الذي يبالغ في أهمية بضاعته) بل إن الرئيس الأمريكي السابق بوش نفسه قبيل خروجه من الرئاسة أعلن أن التقارير التي استند إليها في اتهام العراق بامتلاك أسلحة الدمار الشامل كانت كاذبة.

الرئيس الذي أعلن الحرب على العراق يقول بإنه مخدوع! ووزير خارجيته أيضاً يقول انخدعت! وكبير المفتشين الميدانيين الذين فتشوا العراق شبرا شبرا أيضاً يقول: خدعوني!!! ليت شعري من الخادع ومن المخدوع!!

السيناريو ذاته يتكرر اليوم بشكل آخر في قضية دار فور! ثلاثون شاهدا ممن أدلوا بشهادتهم في نزاعات دار فور شكلوا الدليل القاطع على إدانة رئيس دولة ذات سيادة، ومن ثم إصدار مذكرة اعتقال بحقه ومعه قائمة تحتوي على واحد وخمسين مطلوبا معظمهم من الحزب الوطني الحاكم!! ما يؤكد أن السيناريو الذي وقع في العراق هو نفسه يتكرر في السودان!! وكأن هؤلاء الشهود مسوغا كافيا لمحاولة أحداث فراغ رئاسي في البلاد من خلال القبض على الرئيس وتعطيل مهامه السياسية! ومن تم فثلاثون شاهدا هم أقرب طريق لأحداث فوضى خلاقة تفضي بالبلاد برمتها إلى حالة تدويل تفرض فيها أجندات القوى الكبرى لتحقيق مصالحها.

لن أتفاجأ يوماً إذا جاء هؤلاء الثلاثون عشاء يبكون ومعهم رئيس المحكمة وقضاتها ومدعوها نادمين على الشهادة والحكم معا في حق البشير والسودان! ولن أتفاجأ إذا قيل إن الوثائق التي اعتمدت عليها المحكمة لم تكن كافية أو أنها مزورة!! ففي ندم باول وكاي كبير المفتشين عبرة! لكنني أسأل كم يا ترى من شاهد عيان مستعد ليشهد أمام المحكمة الدولية على جرائم شارون وأولمرت وجرائم الجيش الأمريكي في العراق؟! وهل سيستمعون لنا لو قدمنا ثلاثين مليون شاهد مسلم وعربي على جرائمهم؟!!

وإذا كان مجرد جمع ثلاثين شاهدا كافيا لاتهام رئيس دولة بجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، فمن من رؤساء العرب بمنأى عن ثلاثين شاهد زور بل ألف؟!

لقد كان بيان منظمة المؤتمر الإسلامي دقيقا في تصوير أبعاد مذكرة توقيف البشير حين أدانها البيان معتبرا إياها إهانة لجميع العرب والمسلمين!

وما من شك في أنها لعبة جديدة لابتزاز الحكام والشعوب وإشاعة الفتن والنعرات العرقية والطائفية فيها للتمكن من الهيمنة عليها بسياسة (فرق تسد)، وإلا فما هي الدولة التي ليس فيها أقليات ذات نزوات انفصالية ينجم عنها نزاع واضطرابات تقع من حين لآخر، فتركيا مثلا في صراع دائم مع الأكراد، واليمن في صراع دائم مع الحوثيين والبحرين كذلك مع المعارضة الشيعية، والجزائر مع البربر! وقس على ذلك. فيكفي لإحداث فراغ سياسي في هذه البلدان مثلا أن يشهد ثلاثون شاهدا على جرائم وقعت بحق تلك الأقليات وتجمع وثائق يمكن قراءتها على أكثر من وجه ومن تم تصدر مذكرات الاعتقال في حق الحاكم والنظام برمته! تماما كما وقع مع البشير!

السيناريوهات المتوقعة لهذه الأزمة عديدة، أسوأها اعتقال البشير وأحسنها وإن كان شيئا تفعيل المادة 16 من ميثاق المحكمة لتأجيل العمل بالقرار لمدة سنة! وهذا الأحسن هو ما استنفر حلفاء السودان في هذه الأزمة طاقتهم لكسبه! وغاية ما يمثله من إيجابيات هو اكتساب مزيد من الوقت قد يسهم في حل الأزمة بشكل أو بآخر خلال عام. وهناك بوادر تلوح في الأفق توحي بإمكانية التأجيل كما صرح بان كي مون قبل أيام! كما أن مبعوثا أمريكيا وصل إلى السودان قيل إن ذلك جاء في إطار مشاورات في هذا الاتجاه! وتبقى السيناريوهات الأسوأ متعددة في احتمالاتها يوصلها بعض المحللين إلى إمكانية ضرب السودان إذا اختار الغرب تفجير الأوضاع هناك واستعصى عليه تفجيرها من خلال متمردين في الجنوب وإقليم دار فور أو حتى من خلال إحداث شرخ في الحزب الحاكم والنظام نفسه! وأقلها سوءا الحصار!

وفي اعتقادي أن موقع السودان يختلف كثيرا عن موقع العراق كما أن البشير ليس هو صدام! وكذلك الشعب ليس هو الشعب! والحزب الوطني الحاكم في الخرطوم ليس هو حزب البعث! والموقف العربي والقاري والعالمي من أزمة دار فور ليس هو نفسه الموقف من الحرب على العراق في إجماعه!

فهناك جبهة دولية تضم الصين وروسيا ودول عدم الانحياز والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي والاتحاد الإفريقي كلها تقف في صف السودان!

* * *




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد