Al Jazirah NewsPaper Friday  27/03/2009 G Issue 13329
الجمعة 30 ربيع الأول 1430   العدد  13329

هل حبّ الوطن من الإيمان؟! (1-2)
د. محمد بن سعد الشويعر

 

كنت منذ أربعة أسابيع أو تزيد، أتحدّث عن توجيهات للشباب، وما يجب عليهم تجاه أمور عديدة، باعتبار الشباب اليوم هم رجال الغد، وأمل الأمة في تحمل التبعات، والالتزام بالواجبات، التي ترفع في شأنهم، وتسعد بذلك أمتهم، في الارتقاء بالبلاد، بعد توفيق الله سبحانه للنهوض، والوصول إلى منازل الأمنيات التي تشرئب إليها النفوس: شخصية واجتماعية.

ومع أن الوطن جماد، لكن محبته من محبة ساكنيه، وفي مقدمة الساكنين ولاة الأمور، الذين بيدهم مقاليد الأمور، فمحبة البلاد من محبة من يرتبط بالبلاد:

سكناً وذكرى، فإنْ كانوا في وئام وألفة وإخاء، صلحت البلاد، وصلح أهلها.

وقد كنت منذ قرابة 15 عاماً، تحدثت في هذا الموضوع، فطرح عليّ أحد الإخوان مجدداً، سؤالاً في مقارنة بين القديم والحديث قائلاً: هل تعتقد أن حبّ الوطن يعتبر من الإيمان؟.. إشارة إلى الموضوع الأول، وهو من باب الاستفهام التقريري.. فأقول - بعد الحديث المختصر معه - إذا كان الشاعر قد قرن هذه الحالة، عندما تتشاحن النفوس، وينفرد من الأوطان بعض أهلها، فإن هذه كراهية مقترنة بما حصل من أهلها قد تزول كما قيل:

لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها

ولكن أخلاق الرجال تضيق

فكذلك الحالة في الحب، وإذا كان الله سبحانه وتعالى، قد قرن من الناحية الدينية، وفي مجال الطاعة، التي هي عبادة لله، ما يجب لله بطاعة رسوله، وولي الأمر، الذي حمله الله، أمانة الرعاية للمواطنين في شؤون حياتهم، حيث جاءت طاعة ولي الأمر، لأهميتها مقرونة بطاعته سبحانه، وطاعة رسوله الكريم، يقول سبحانه في كتابه الكريم في مخاطبة للفئة المؤمنة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (سورة النساء 59).

ومن هذا النداء بالطاعة: لله ولرسوله، ولولي الأمر، فإنها طاعة تعبدية إيمانية، وطاعة ولي الأمر من لوازم محبته، وتكون فيما لا يتنافى مع شرع الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أطيعوهم ما أطاعوا الله فيكم).

وهذا يستلزم وعن قناعة وبصدق، السمع والطاعة لولاة الأمور بالمعروف، فكل نظام يفرضه ولي الأمر، ولا يعترض مع شرع الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو من الأوامر التي يجب طاعتها، وعدم التردد في الخروج عليها، ولا يصلح مجتمع من دون ولي.

وفي هذا المفهوم للطاعة، التي ألزم الله المؤمنين، الثبات عليها لولي الأمر: فإننا مأمورون، بأن نقتدي بأسلافنا رحمهم الله، ونظرتهم إلى الولاء والطاعة، لأنهم تأدبوا بأدب النبوة، وطبقوا، ما سمعوا من الرسول من دون تردد، حتى في السفر لابد من أمير إذْ عندما نستقرئ التاريخ، وبخاصة في عهد الدولة الأموية، التي هي بعد الخلافة الراشدة، لأنها واقعة في القرون المفضلة التي أوصى رسول الله بها، وجعل فيها الخيرية، فإننا نجدهم يعملون من مفهوم ثابت في الولاء والسمع والطاعة، حتى في إمامة الصلاة، والصلاة تلزم ولو كانت مع من عليه مآخذ، قد بدرت، كلّ هذا حباً في جمع الكلمة، وعدم شق عصا الطاعة، استجابة لتوجيه رسول الله وخوفاً من فتح باب على العامة، والغوغائيين، ولذا رُوي عن الإمام أحمد بن حنبل، مع ما حصل عليه في فتنة القول بخلق القرآن، بعدما قيل له: ألا تدعو عليهم؟ فقال: لا لو كان لي دعوة مستجابة لصرفتها لولي الأمر، لأن بصلاحه صلاح للأمة.

فلا نجد من الصحابة، ولا التابعين الذين عاشوا في تلك الحقبة، كابن مسعود وابن عباس والزبير وغيرهم من الصحابة، ولا من التابعين كسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير وغيرهم كثير رحمهم الله مع علمهم وفضلهم، ولا نجد من تكلم في ولاة الأمور، ولا من دعا إلى معصية بشق الطاعة عليهم، لإدراكهم مكانة القيادة والولاية في الإسلام.

وقد فسر العلماء الولاء والطاعة لولاة الأمور الذين هم أئمة المسلمين، وقادة البلاد، الذين قرن الله طاعتهم بطاعته ورسوله، كما في الآية الكريمة السابقة، بالنصح لهم، وعدم الخروج عليهم، مع السمع والطاعة لهم، ووضحوه لعامة الأمة من المسلمين بدعوتهم إلى الخير، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، بالرفق، والإعانة بردع السفيه، حتى لا يكون له دور في إفساد المجتمع، كما جاء بذلك الحديث، الذي قال الرسول الكريم: (والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر أو ليُسلطن عليكم شراركم، ثم لَيدْعون خياركم، فلا يستجاب لكم، والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهين عن المنكر، ولتأخذنّ على يد الظالم، فلتأطرنه على الحق أطراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض) (من حديث أخرجه عبد بن حُميد عن معاذ بن جبل: تفسير الدر المنثور للسيوطي 3: 125)، ففي هذا الحديث، خطاب للرجل وخطاب للمرأة.

ولذا فإن المجتمع لابد أن يكون فيه عقلاء ينصحون هؤلاء وأولئك السفهاء، ويأخذون على أيديهم، ويبصرونهم بمواطن النقص من تصرفاتهم، حتى لا يدب الخلل في المجتمع، فتشقى به الأمة، وينفتح باب ينفذ منه العدو، ويأتي معه العقاب، يقول سبحانه في العقاب الذي يحلُّ بالوطن بنقمة من الله، لعمل سكان هذا الوطن: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) (سورة النحل 112).

ذلك أن الفتنة نائمة، ولعن رسول الله من أيقظها، ولأن من يحرك الفتنة فإنما هو ضعيف الإيمان، عاص لله ولرسوله، إن لم يكن قلبه قد ران عليه عمله السيئ، فزين له الإفساد والإضرار بالأمة، وقد أمر رسول الله بالإصلاح والنصح لهذا النوع، أولاً، فإن استقاموا وإلا يردعون بقوة السلطان، التي قال فيها الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه: (يزع الله بالسلطان مالا يزع بالقرآن).

لأن تعاليم الإسلام، تسعى إلى تأصيل القيم والأخلاق، المتمثلة في شعائره كلّها، والولاء من كل ما يخالف تعاليم الدين الحنيف، وكذا فإن تعاليمه، تحث على مكارم الأخلاق، وحسن الآداب.. وفي مقدمة ذلك الولاء لله أولاً، ثم اتباع رسوله الكريم، والولاء لولاة الأمور، والولاء للوالدين وطاعتهما، حيث أوصى الله بهما في أماكن عديدة من كتابه الكريم، والبراءة من ضد ذلك.

وعلى الشباب أن يكونوا من الحريصين على هذا الأمر، وفي المنزلة التي تُرضى عنهم، من يؤمّل فيهم الخير من أسرهم والجهات التعليمية، والمجتمع بأسره، لأنهم القدوة، حتى يكونوا صالحين في أنفسهم، ومصلحين لغيرهم، بعلوّ الهمة، والقدوة الحسنة، والسمعة الطيبة، وبكونهم لبنةً ثابتة، وشمعة مضيئة في صرح الأمة.

وتربية الشباب، وحسن مآخذهم، لا يجب أن تكون من منبع واحد، بل يجب أن تتظافر الجهود، لتكون من منابع متعددة، تسير في اتجاه واحد، ولهدف نبيل واحد، وهو داخل إطار تعاليم دين الله، فما يأمر الله، ورسوله به يتبع، وما ينهيان عنه، فيحذر منه، لأن أمر الله وأمر رسوله لا جدال فيهما، وما يراه العلماء المعروفون بالثقة والأمانة، لأن الله منحهم من العلم والعقل، ما يزكي أقوالهم: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) (سورة الحشر 7).

وهذا يدعو إلى الحذر من اتباع من لا علم عنده، أو صاحب هوى، مما يُفْسِد المجتمع لسوء الأقوال والفتاوى، وسوء ما تدعو إليه، حيث ينجم عن ذلك الغيبة والنميمة، والبهتان والكذب والحسد وغير ذلك من الآفات التي تفتك بالمجتمع، وتدعو إلى التشاحن والتدابر، وفشل الجماعة وذهاب ريحها.. وكل هذا قد نهى الله عنه سبحانه، لما وراء ذلك من السعي الحثيث، في تدمير وحدة الصف، ومن ثمّ تسوء العلاقات، وتذهب الحسنات، وهي أغلى ما يوجد في الرصيد عند الله، بالحالقة: التي تحلق الحسنات، وليست حالقة الشعر، ويرقص بها الشيطان استحساناً، كما حذر من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإذا عدنا إلى جملة العنوان: حبّ الوطن من الإيمان، فإن هذه كلمة مأثورة يعتقدها بعض الناس حديثاً، وليست بحديث ثابت عن رسول الله لفظاً، ولكنها ذات دلالة في اللغة، والخطاب المجازي، إذْ المهتمون بالحديث منذ زمن الرصد للسنة النبوية، سنداً ومتناً، وجرحاً وتعديلاً، ينفون كونها حديثاً لكنها ذات دلالة حسنة، تدعمها بعض الأدلة الشرعية، كما في بعض الآيات الكريمات، ومنها الآية السابقة: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً) (سورة النحل 112).

للبحث صلة

مكانة أبي بكر

جاء في الكامل لأبي العباس المبرد: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بلغه أن قوماً يفضلونه على أبي بكر رضي الله عنه، فصعد المنبر مغضباً، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه ثم قال: سأخبركم عني وعن أبي بكر: إنه لما توفي رسول الله ارتدت العرب، ومنعت شاتها وبعيرها، فأجمع رأينا كلنا: أصحاب رسول الله أن قلنا: يا خليفة رسول الله، إن رسول الله كان يقاتل العرب بالوحي، ويمده الله بالملائكة، وقد انقطع ذلك اليوم، فالزم بيتك ومسجدك، فإنه لا طاقة لك بقتال العرب، فقال أبو بكر الصديق أوكلهم رأيهم على هذا؟ فقلنا: نعم. فقال أبو بكر رضي الله عنه:

والله لئن أُخرّ من السماء، فتخطفني الطير، أحب إلي من أن يكون هذا رأيي، ثم صعد المنبر فحمد الله وكبره، وصلى على رسول الله، ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس من كان يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، أيها الناس إن كثر أعداؤكم، وقل عددكم، ركب منكم الشيطان هذا المركب، والله ليظهرن الله هذا الدين على الأديان كلها ولو كره المشركون، قوله الحق، ووعده الصدق، (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) و(كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).

والله أيها الناس لو أفردت من جميعكم لجاهدتكم في الله حق جهاده، حتى أبلي بنفسي عذرا، أو أقتل قتيلا، والله أيها الناس لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه، واستفت عليهم الله، وهو خير معين.. ثم نزل فجاهد في الله حق جهاده، حتى أذعنت العرب بالحق.

ففي قوله: لو منعوني عقالا، لجاهدتهم عليه، على خلاف ما تتأوله العامة، ولقول العامة وجه قد يجوز، فأما الصحيح: فإنّ المصدق إذا أخذ من الصدقة ما فيها، ولم يأخذ ثمنها، قيل أخذ عقالا وإذا أخذ الثمن قيل: أخذ نقدا (1: 230). وقال أيضا: ومما يؤثر في حكيم الأخبار، وبارع الآداب، ما حدثنا به عن عبدالرحمن بن عوف وهو أنه قال: دخلت على أبي بكر يوما، رضي الله عنه في علته التي مات فيها، فقلت له: أراك بارئا يا خليفة رسول الله، فقال: أما إني على ذلك لشديد الوجع، ولما لقيت منكم يا معشر المهاجرين، أشد علي من وجعي، إني وليت أموركم، خيركم في نفسي، فكلكم وَرِمَ أنفه، أن يكون له الأمر من دونه، والله لتتخذن نضائد الديباج، وستور الحرير، ولتألمن النوم على الصوف الأذربي، كما يألم أحدكم النوم، على حسك السعدان.

والذي نفسي بيده، لأن يقدكم أحدكم فتضرب عنقه، في غير حد خير له من أن يخوض غمرات الدنيا، يا هادي الطريق جُرْت، إنما هو والله الفجر أو البجر، فقلت خفض عليك يا خليفة رسول الله، فإن هذا يهيضك إلى ما بك، فوالله ما زلت صالحا مصلحا، لا تأس على شيء فاتك من أمر الدنيا، ولقد تخليت بالأمر وحدك، فما رأيت إلا خيرا.

(الكامل للمبرد 1 : 5)


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد