Al Jazirah NewsPaper Friday  27/03/2009 G Issue 13329
الجمعة 30 ربيع الأول 1430   العدد  13329

هزيمة البدايات
د. عبدالله بن صالح الخليوي

 

كعالم ثالث أو رابع أو خامس أو ما شئت، لسنا معنيين بكثير من التفاصيل المهمة التي تتقاطع مع أبجديات حياتنا. ولعل الموروث الثقافي والاجتماعي يلعب دوراً فاعلاً ومؤثراً فتجد الكثير منا يعتمد الارتجالية في كثير من قراراته.

مضافا إليها بعض المشهيات من المحسوبية والواسطة والتسويف والتمرير والفذلكة والتهميش والمراعاة والرحمة والترجي والانطراح. عندما ضربت أزمة سوق الأسهم المجتمع السعودي شهدنا حالات مأساوية، وإن لم تكن الغالب، لكنها حدثت كشاهد إثبات على ما يتمتع به مجتمع كالمجتمع السعودي من عاطفة جياشة تؤثر حتماً وبدرجة كبيرة في صناعة القرار. إن صناعة القرار ليست بالمسألة الهينة التي قد يتصورها البعض، كما أن التردد في اتخاذ القرار مأخذ على الشخص يحتاج إلى تصحيح وترميم. ولست في معرض الحديث عن القرار وتداعياته وتفسيراته لكني سأبدأ به لأدلل على مقصودي من هذا العنوان.

كثير منا مر بمواقف احتاج معها إلى اتخاذ قرار أو قرارات ندم على بعضها ولازال ممتنا للبعض الآخر. قرار اختيار التخصص وقرار الزواج وقرار الاستثمار وقرار الإنجاب وقرار شراء السيارة وقرار استئجار أو شراء البيت وقرار السفر و.... إلخ. في القرآن الكريم يأمرنا الله بالمشاورة، وشاورهم في الأمر، وفي السنة النبوية: ما خاب من استخار الخالق واستشار المخلوقين وتثبت في أمره. وفي السيرة النبوية وكتب التأريخ آلاف الشواهد على طريقة اتخاذ القرار الصحيح. البداية هي المنعطف المهم في صناعة القرار. لابد من اتخاذ كل عوامل الحيطة والحذر قبل اتخاذ القرار ويتمثل ذلك في النقاط التالية:

أولاً: دراسة الموضوع دراسة متأنية وما يستغرق يوماً أعطه يومين وما يستغرق أسبوعاً أعطه أسبوعين مع السؤال والاستشارة والمقارنات وسؤال أهل الخبرة والتجربة.

ثانياً: محاولة معرفة أو سبر غور أبعاد القرار. بأن تنظر إلى أصداء قرارك وما يترتب عليه في المستقبل القريب والبعيد. فقد يعجب الإنسان، على سبيل المثال، بامرأة من الناحية العاطفية وينجرف ويتخذ قراراً متسرعاً بالزواج منها دون النظر للجوانب الأخرى والتي قد لا تتضح في غمرة انبهاره وتهوره إلا بعد حين فيندم ولات ساعة مندم، فتنحية العاطفة ما أمكن في اتخاذ القرار أمر من الأهمية بمكان، فلوثة العاطفة تؤثر، في الغالب، سلباً في صناعة القرار.

ثالثاً: محاولة التعرف على أقصى مزايا ما يترتب على قرارك وأسوأ خبايا ما يترتب عليه. مثاله، كثيراً ما نشتري حاجات هي أكثر بكثير مما نحتاج، فجهاز الحاسب الشخصي قد يبالغ الإنسان في طلب مواصفات عالية مع أنه وطبقاً لاستخداماته لا يحتاج ربعها أو ثلثها، فلماذا تدفع مبلغاً إضافياً يرهق ميزانيتك وأنت لست في حاجة لذلك. خذ مثالاً آخر، قد تريد شراء منزل وتضع مواصفات عالية له ومساحة كبيرة وعدداً كبيراً من الغرف... إلخ.. يكلفك مبلغاً كبيراً من المال قد تضطر معه إلى الاقتراض، ونسيت أن أولادك سيتزوجون وقد يرحلون إلى مناطق أخرى وتبقى وحيداً مع زوجتك في بيت لا تحتاج أكثر من ثلثه والثلث كثير.

رابعاً: بعد أن تقرر لا تباشر في التنفيذ بل أعط نفسك مساحة من الوقت حتى تطمئن لقرارك، وفي ذلك ضمان لتنحية أي عواطف قد تكون لعبت دوراً في اتخاذ القرار وإفساحاً لما قد يستجد من تطورات قد تضطر معها لتعديل أو تغيير القرار.

كل إنسان بلا شك يرسم صورة عن نفسه إما مشرقة أو قاتمة، مع الأخذ بالاعتبار أن الكمال لله تعالى فلم تتوفر صفات الكمال والنقاء والصفاء في أحد كما توفرت في سيد الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. كثير منا يرسم صورة باهتة شاحبة عن نفسه لا تعضدها سنة مقتفاة ولا نهج متبع. ومما لاشك فيه أن الانطباع الأول في هو الذي يقرر شخصية الإنسان فلا تري الناس من نفسك إلا ما تحب ويحبون. كثير منا قد يتصف بصفات يعتقد أنه جُبل عليها مع أنها مكتسبة في بداياتها حتى استوت على جودي شخصيته فغدت نمطاً وصفة ملازمة له لا يستطيع عنها فكاكاً، وهنا أنبه إلى أهمية أن لا يكون الإنسان إمعة كما جاء في الحديث عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: لا يكن أحدكم إمعة إذا أحسن الناس أحسنوا وإذا أساءوا أساء، ولكن وطنوا أنفسكم إذا أحسن الناس أحسنوا وإذا أساءوا تجنبوا إساءتهم. ليس منا من لا يتأثر لكن التأثر الإيجابي هو المطلوب. كثير من الصفات التي تندرج تحت باب الآداب الشرعية نقرؤها ونحدث بها لكننا في سلوكياتنا أبعد ما نكون عنها أو عن كثير منها. ليست العبرة في الحديث ولكن في التطبيق. ليعرفك الناس بصفات إيجابية تضفي عليك بهاء وجلالاً مع سلامة القصد وحسن المعتقد. ليعرف الناس عنك أنك دقيق في مواعيدك، لا تغتاب، لا تمشي بالنميمة، لا تكذب، تغيث الملهوف وتمشي في حاجات الناس، فهذه كلها صفات إيجابية. ليعرفك الناس أنك مجيد في تخصصك ماهر فيه، ليعرفك الناس أنك أمين في كل ما يوكل إليك حريص على الإتقان مجد ومجتهد، ليعرفك الناس بالانضباط والبعد عن الخوض في سفاسف الأمور. وإياك من تعثر البدايات لأن من تعثر هان عليه التعثر ومن يلزم نفسه مواطن الظفر يهون عليه كل ما يلقى في سبيل ذلك.

تجول بطرفك وغص في آلاف القصص والأحداث عبر الشبكة العنكبوتية أو كتب التأريخ أو الرواة لتعرف بداية النهايات. مدمن المخدرات كان رجلاً سوياً مثله مثل بقية البشر لكنه تعثر ثم تعثر ثم تعثر حتى لازمه التعثر فخبا ثم انكفأ ثم سقط في حمأة الإدمان ثم مات غير مأسوف عليه. البداية كانت (شفطة) وتلتها (شفطات)، وسيجارة تلتها سجائر و(شمة) تلتها (شمات) فكان المحذور وكانت الكارثة. المخفق في دراسته كان سوياً بالتأكيد لكنه استمرأ اللعب وأضاع أوقاته وأكثر من اللهو واللعب فأخفق وتأثر ثم أخفق وقل تأثره ثم أخفق حتى صار الإخفاق ملازماً له لا يكاد يفارقه حتى ظن أنه رجل فاشل لا يمكن أن يطرق النجاح طريقه، وما ذاك إلا هزيمة البدايات. وقد أحسن الشاعرعندما قال:

من يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرحٍ بميتٍ إيلام

كل البشر الذين يمارسون عادات ضارة هزمتهم البدايات ولم يهزموها، واستمرؤوا ممارسة رذائلهم ولممهم فانقلب السحر على الساحر وتحولت الصغائر إلى كبائر لا يغسلها إلا الترك والتوبة بعد الندم. لا تجعل نفسك أسيراً لعادة ما أنزل الله بها من سلطان، وأضرب مثالاً لذلك الصقر الذي يعيش لما يقارب الأربعين سنة حتى ينعكف منقاره فلا يصلح للأكل، وتضعف مخالبه فلا يقدر على التقاط الفريسة، وليس أمامه سوى الاستسلام للموت أو الانعتاق من وضعه إن أوجس في نفسه صبراً وتصبراً. فإن عزم على الاستمتاع بالحياة فليس أمامه سوى كسر منقاره ومخالبه، فيعمد إلى صخرة على ارتفاع شاهق ويضرب بمنقاره الصخرة حتى ينكسر منقاره، وكذلك الحال مخالبه ثم ينتظر مائة وخمسين يوماً إلى أن تنمو مخالبه ومنقاره ويعيش في كامل عافيته ثلاثين سنة إضافية. أقول ذلك لمن أدمن هزيمة البدايات حتى لازمته وحتى غلب على ظنه أنه لا يستطيع منها فكاكاً. ما أحوجنا أن نكون صقوراً لنكسر منقار الانتكاس ومخالب الانغماس في الوحل فذاك هو الترياق الذي نريده لنحيا من جديد ونولد من جديد ونستمتع بحياة حرة كريمة.

akheliwi@kacst.edu.sa

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد