Al Jazirah NewsPaper Friday  03/04/2009 G Issue 13336
الجمعة 07 ربيع الثاني 1430   العدد  13336

هل حبّ الوطن من الإيمان؟! 2-2
د. محمد بن سعد الشويعر

 

ومن الذين اهتموا بذلك: وهو من الراصدين للسنة، والحريصين على التوثيق: المفسر المحدث الشيخ: إسماعيل بن محمد العحلواني المتوفى عام 1162هـ في كتابه: كشف الخفاء، ومزيل الإلباس، عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، وناقش الموضوع حيث قال: قال الصفاني في هذا القول: موضوع، وقال في المقاصد لم أقف عليه، ومعناه صحيح ورد القارئ قوله: ومعناه وصحيح بأنه عجيب. قال: إذ لا تلازم بين حب الوطن، وبين الإيمان.

قال: ورد أيضاً بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ}الآية. فإنها دلت على حبهم وطنهم، مع عدم تلبسهم بالإيمان، إذ ضمير عليهم للمنافقين، ولكن انتصر له بعضهم، بأنه ليس في كلامه أنه لا يحب الوطن، إلا مؤمن، وإنما فيه أن حب الوطن، لا ينافي الإيمان، انتهى، كما نقله القارئ ثم عقّبه بقوله:

ولا يخفى أن معنى الحديث: حب الوطن من علامة الإيمان، وهي لا تكون إلا إذا كان الحب مختصا بالمؤمن، فإذا أوجد فيه، وفي غيره، لا يصح أن يكون علامة قوله: ومعناه صحيح نظرا لقوله تعالى حكاية عن المؤمنين: {وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا}(246) سورة البقرة.

فصحت معارضته بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ}} (66)سورة النساء، والأظهر في معنى الحديث، إن صح مبناه أن يحمل على أن المراد بالوطن الجنة، فإنها المسكن الأول لأبينا آدم، على خلاف فيه أنه خلق فيها، أو أدخل بعدما تكمل وأتم.

أو المراد مكة فإنها أم القرى، وقبلة العالم، أو الرجوع إلى الله تعالى، على طريقة الصوفية، فإنه المبدأ والمعاد، كما يشير إليه قوله تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى}أو المراد به الوطن المتعارف عليه، ولكن بشرط أن يكون سبب حبه صلة أرحامهم أو إحسانه إلى بلده في فقرائه، وأيتامه ثم التحقيق أنه لا يلزم من كون الشيء علامة له اختصاصه به مطلقا، بل يكفي غالبا، ألا ترى إلى حديث حسن العهد من الإيمان، وحب العرب من الإيمان، مع أنهما يوجدان في أهل الكفر. أ.هـ.

ومما يدل على كون المراد به مكة، ما روى ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: لما خرج النبي من مكة فبلغ الجحفة، اشتاق إلى مكة، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}(85) سورة القصص. قال: إلى مكة.

وللخطابي في غريب الحديث عن الزهري، قال: قدم أصيّل بالتصغير.. الغفاري على رسول الله، من مكة قبل أن يضرب الحجاب، فقالت عائشة له: كيف تركت مكة؟. قال: خضرت جنباتها، وأبيلت بطحاؤها، وأغدق أذخرها، وانتشر سلمها، وفيه قال رسول الله (حسبك يا أصيل لا تخزني)، وفي رواية فقال له النبي: (وبها يا أصيل تدع القلوب تقر) (كشف الخفاء: 345).

ثم قال في المعنى روى الأصمعي: قالت الهند: ثلاث خصال في ثلاثة أصناف من الحيوان: الإبل تحن إلى أوطانها وإن كان عهدها بعيدا، والطير إلى وكره، وإن كان موضعه مجدبا، والإنسان إلى وطنه، وإن كان غيره أكثر منه نفعا.. وفي المعنى أيضاً قال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: إذا أردت أن تعرف الرجل، فانظر كيف تحنته إلى أوطانه، وتشوقه إلى إخوانه، وبكاؤه على ما مضى من زمانه. (347 كشف الخفاء).

وقال الألباني تحت رقم 36 معناه غير مستقيم، إذ إن حب الوطن، كحب النفس والمال ونحوه، وكل ذلك غريزي، في الإنسان لا يمدح به، ولا هو من لوازم الإيمان، ألا ترى أن الناس كلهم مشتركون، في هذا الحب لا فرق بين مؤمنهم وكافرهم (1 : 550).

فإذا أدركنا من هذا أن ذلك الأثر موضوع، ولا يصح نسبه للنبي، لأن الديار بأرضها وشجرها، جماد لا تحس بهذه المحبة إن وجدت، ولا يتميز عند الإنسان تربة وحجارة، عن تربة وحجارة، إلا بقدر المنفعة، وإنما الذي يعلق بذهن الإنسان، في الديار والأوطان، ما يرتبط بذكرياته وأنسه، لأن المحبة مقترنة بما يصاحبها، من أمور سنحت مع الذكريات، وما تعلق بالقلب، وبالنقيض البغض والكراهية، إذا كان قد مر بالإنسان في أي موطن، ما يكدر صفو العيش، أو ينغّص الاستقرار من أعمال وتصرفات تؤثر في الوجدان أو المال أو مشكلات طرأت: أسرية أو اجتماعية، فهذا هو المؤثر: حباً أو بغضاً، وصلة أو قطيعة، لأن الإحسان الذي يجب المنفعة معه محبة أو كراهية توجب النفور، أتى ممن يسكن هذه الديار، فالبشر الذين يحلون بتلك الأوطان، هم الذين تنطبع بهم وبأعمالهم النفوس، إيجابا وسلبا، وقد أخذ ابن الرومي الشاعر العباسي، بهذه النقطة مبيناً سبب حب الأوطان، عندما قال:

وحبب أوطان الرجال إليهمو

مآرب قضاها الشباب هنالك

وهذا تعبير صادق، بأن حب الديار من حب أهلها، والإنس بهم، وهذا الحب يعني تمني العودة لفترة زاهية من عمره، هي من النضج والتفتح، وحيوية الصبا، لأن تلك الفترة، هي التي يتمنى بقاءه فيها مستقراً، ولكنه مطلب عسير، كما يتغنى به كثير من الناس، كأمنية من الأماني يقول الشاعر:

ألا ليت الشباب يعود يوما

فأخبره بما فعل المشيب

فالإنسان الذي يحب إخوانه، لكمال إيمانه، فإنه يحن للديار التي هم فيها، ويحب عملهم الصالح، كما في حديث الرجل الذي سافر من بلد إلى بلد، ليزور أخا له في الله، وليس بينهما مصالح أو منافع دنيوية، فأرسل الله إليه ملكا في صورة رجل ليخبره أن الله يحبه (حديث شريف في الحب في الله).

والديار التي فيها علماء عارفون بالله، فإن الذي يحب، يشد الرحال إليهم ليأخذ منهم العلم، محبة لهم ولديارهم، فذلك من أجل أداء حق هذه المحبة، ولينهل مما أعطاهم الله: تعلما واقتداء بسيرهم. فهي محبة شرعية، تدفعه إلى الدعاء لهم، والذب عنهم مدافعة وحمية، ويحمي أعراضهم، حتى يدافع الله في يوم المعاد عنه، ويذب عنه.

وهذه المدافعة، التي أصلها المحبة، تنعكس على الديار التي يسكن فيها هؤلاء العلماء، باستمرار، لأنه أحس بفوائد ما أخذ عنهم من علم شرعي، فهي محبة شرعية، لا تتغير لتبقى في ذاكرته الأبدية.

ومن هذا محبة ولاة الأمور، الذين يدافعون عن الدين والعقيدة. ويذبون عن الأوطان، ويقيمون العدل، لحرصهم على تثبيت شرع الله في الديار المنوطة بهم، وإزالة ما يكدر صفو دين الله، ليحققوا بسهرهم أمن المواطن ومن ثم مدافعة الشرور، فمحبتهم ترتبط بمحبة ديارهم، التي بها تنفيذ الحدود، ليستقيم الأمن، وتحفظ الأموال، والأنفس والأعراض، وهنا تعتبر المحبة شاملة للبلاد كلها، التي تمثلها الدولة وولاة أمرها.

كما يترتب على هذا محبة كل معين على عمل يعود نفعه على الأوطان وساكنيها بالخير والفائدة الحسنة، ويدفع بهيبتهم عن الوطن والمواطن الشر، ويحبط الله به كيد الأعداء.

فهذه المحبة يخرّجها البلاغيون، بالمقولة التي تعني المراد: (الحالية لا المحلية)، أي ليس المقصود بهذه المحبة: المحل الذي هو الوطن، لأنه جماد، وإنما المقصود من يحل في هذا المكان بآثاره، ليلتئم به الشمل، ويحصل الأجر من الله سبحانه بالنية الصادقة، بالمحبة المتوطدة، والألفة المتكاملة، لأنها محبة يؤصلها الإيمان، المقصود به وجه الله، آخذاً من حديث رسول الله الذي رواه عمر بن الخطاب: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).. وإذا كانت المحبة لوجه الله: تصبح محبة واجبة على كل فرد، وهذا هو أمكن عرى المحبة، التي لا توازيها مصالح الدنيا، ولا منافسات البشر ومنافعهم.

قصة نبي الله إرميا عليه السلام

جاء عند النويري في كتابه الموسوعي نهاية الأرب: أن الله استخلف على بني إسرائيل بعد قتلهم شعيا عليه السلام، رجلا منهم اسمه (ناشية بن أموص، وبعث لهم الخضر نبيا، ويقال إن اسمه: إرميا بن حلقيا، وكان من سبط هارون بن عمران، وإنما سمي الخضر، لأنه جلس على فروة بيضاء، فقام عنها، وهي تهتز خضراء. فقال الله له عند بعثه إلى بني إسرائيل: يا أرميا من قبل أن خلقتك اخترتك، ومن قبل أن أصورك في بطن أمك قدّستك، ومن قبل أن أخرجتك من بطن أمك طهرتك ومن قبل أن تبلغ السعي نبأتك، ولأمر عظيم أجبتك، فذكر قومك نعمي، وعرّفهم أحداثهم، وادعهم إليّ.

وكانت الأحداث قد عظمت في بني إسرائيل، فركبوا المعاصي، واستحلوا المحارم، فقال أرميا: إني ضعيف إن لم تقوّني، عاجز إن لم تبصّرني، فقال الله عز وجل: أنا ألهمك، فقام أرميا فيهم، ولم يدر ما يقول، فألهمه الله عز وجل خطبة طويلة بليغة، بين لهم فيها ثواب الطاعة، وعقاب المعصية، وقال في آخرها: أحلف بعزتي لأقيضن لهم فتنة، يتحير فيها الحكيم، ولأسلطن عليهم جبارا قاسيا قلبه، ألبسه الهيبة، وأنزع من صدره الرحمة، يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم.

ثم أوحى الله إلى أرميا: إني مهلك بني إسرائيل بيافث، ويافث أهل بابل وهم من ولد يافث بن نوح، فلما خاف أرميا، وتضرع إلى الله فأوحى الله إليه: وعزتي وجلالي لا أهلك بني إسرائيل، حتى يكون الأمر في ذلك من قبلك. ثم إنهم لبثوا بعد الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية وتماديا في الشر، وذلك حين اقترب هلاكهم، ودعاهم ملكهم إلى التوبة فلم يفعلوا، فسلط الله عليهم بختنصر، فخرج في ستمائة ألف راية، يريد بيت المقدس، فلما خرج سائرا إلى بيت المقدس أتى الخبر الملك، فقال لأرميا: أين ما زعمت أن الله أوحى إليك؟ فقال إرميا: إن الله عز وجل لا يخلف الميعاد، وأنا به واثق.

فلما قرب الأجل، وعزم الله على هلاكهم، بعث الله تعالى إلى أرميا ملكا، فتمثل له رجل من بني إسرائيل، جاء يستفتي في رحمه ثلاث مرات، وهو يطلب منه أن يُحسن لأهله، إلى أن جاء الملك إلى أرميا، وهو قاعد على جدار بيت المقدس، وهو يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده، وبختنصر نازل بجنوده حول بيت المقدس، فجاء الملك لإرمنيا، وهو يقول: أنا الذي جئتك المرات الماضية بشأن أهلي، فكل شيء يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه، فاليوم رأيتهم في أمر لا يرضي الله، وهو أمر عظيم عظيم، إني سألتك بالله إلا دعوت عليهم ليهلكهم.

فلما دعا إرميا وخرجت الكلمة من فمه، أرسل الله عز وجل صاعقة من السماء في بيت المقدس، فالتهب مكان القربان، وخسف بسبعة أبواب من أبوابها، ونودي إرميا: إنما أهلكوا بفتياك ودعائك. ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس، ووطئ الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، وخرب بيت المقدس، فجمع لهم كل من كان في بيت المقدس من بني إسرائيل، فاختار منهم مائة ألف صبي، وقيل سبعين ألفا، فطلب الملوك أن يقسم لهم من الغلمان، ففعل فأصاب كل رجل منهم أربعة أغلمة، ثم ذكر عدد السّبي والمغانم، ثم جعل من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق: واحدة أقرها في الشام، والثانية سبي، والثالثة قتل. وذهب بسبي كثير لأرض بابل: ذهبا وآنية وغيرها.

(نهاية الأرب 14: 149 - 153).


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد