Al Jazirah NewsPaper Friday  03/04/2009 G Issue 13336
الجمعة 07 ربيع الثاني 1430   العدد  13336

نوازع
السيرة الذاتية
د. محمد بن عبدالرحمن البشر

 

كنت في حديث مع أحد الزملاء بعد إطرائه لشخص لا أعرفه، فقلت له: هل لك أن تخبرني بم أقمت حكمك على هذا الرجل الذي أرخيت له عنان لسانك، وقلت فيه ما لم يقل المتنبي في سيف الدولة؟ هل عاشرته، أو ابتعت منه أو اشتريت، أو صاحبته في سفر، أو نقلت ما قاله الناس فيه؟ فإن كان الأمر كذلك، فقولك حق، وحكمك عدل.

قال: ليس مما قلت شيء، وإنما قرأت سيرته الذاتية فقلت ما قلت، فقلت له: إن السيرة الذاتية مؤشر هام في الحكم، ولكن ليس بالضرورة أن يكون النابغ في علمه وفنه نابغاً في حكمته وقدرته الإدارية، وتعاملاته الإنسانية فأخذني جوابه لأتذكر ما بلغته فراستي في الرجال، وما ميزته في كل حال. ومرت كالخيال قطع الليل والنهار في عهد الصبا والشباب، وما قابلته من أساتذة كرام، وزملاء أعزاء، فأغلب أن الأكثر يستحقون الإطراء، وتنطبق حال أعمالهم مع حال منهجهم في الحياة. غير أن هناك القليل مما يكون له من غرائب الطباع ما لا يتناسب مع مكانته في فنه، وبروزه في عمله، وأذكر أن أحد أساتذتي عندما يعجز عن إفهام الطالب مسألة من المسائل يأخذ بضرب جبينه في الحائط، وآخر يستلقي على قفاه وهو جالس على الكرسي، فيغشاه النعاس لدقائق معدودة ثم يفيق، وغيرهم كثير. وفي عصرنا الحديث ممن كانت لهم غرائب وأعاجيب مع بروزهم في ميادينهم مثل انشتاين. أما من رؤساء الدول وقادتهم فهناك من ليس له من الحكمة نصيب، ولم يكن في مهمته مجيدا، غير أنه يصدر منه من الجنوح والهوس ما لا يقبله عقل، ولا يستسيغه منطق، والأمثلة كثيرة في التاريخ مثل الحاكم بأمر الله الفاطمي وغيره، أما في الوقت الحاضر، فقد رأينا وسمعنا والله المستعان. والجاحظ قد ألف في الحمقى والمغفلين، وأشار إلى سلوك بعض المعلمين. وقصصه معروفة بين طيات كتبه وأذكر قرأت في كتاب (الإحاطة في أخبار غرناطة) للسان الدين بن الخطيب شيئاً من هذا عن رجل في ذلك العصر يقال له أحمد بن عبد النور بن راشد، كان قارئاً للقرآن له تصانيف منها كتاب (الحلية في ذكر البسملة والتصلية) وكتاب (رصيف المباني في حروف المعاني) وغيره من التصانيف، وكان شاعراً، وأورد بيتين من قصيدة طويلة قال فيها:

لقد خامرت نفسي مدامة حبه

فقلبي من سكر المدامة لا يصحو

وقد هام قلبي في هواه فبرحت

بأسراره عين لمدمعها سبح

ومع تصانيفه وشعره فإنه قد نال نصيباً من البله والغفلة، ومن ذلك أنه اشترى ثوباً وغسله بالماء فقصر قليلاً فذرعه فوجده قد نقص، فذهب إلى من ابتاع منه الثوب وطالبه بثمن نقصه. ومن قصصه أنه ذهب مع بعض أصحابه في نزهة واستصحبوا أرزا ولبنا، فبحثوا عن قدر فلم يجدوا سوى قدر به بقية زفت مما يطلى به السواني، فقال: اطبخوا الأرز واللبن في هذا القدر، ثم اغسلوا أمعاءكم بعد ذلك، وذهب ذات مرة مع جماعة من أخلائه فوضعوا الماء واللحم فذاق المرق فلم يستطعم ملحاً فأحضر الملح ووضعه في جانب من القدر، وذاق الماء من الجانب الآخر قبل أن يذوب الملح وأخذ في زيادة الملح حتى أصبح ماء المرق ملحاً أجاجاً لا يستساغ. وأدخل يده ذات مرة في جحر صهريج فصادفت يده ضفدعاً كبيراً، فقال لأصحابه تعالوا إن هذا جحر به حجر رطب لين.

وغرائبه كثيرة أوردنا بعضها، وفي خلق الله عبر، ولاسيما الإنسان، وهذا ناتج عن طبائع البشر وخلفياتهم العلمية والثقافية، وصفاتهم الوراثية، مع قدراتهم العلمية على البروز في فنونهم.

وهذا النمط من الرجال ومثله من النساء قليل لكنه موجود، ولهذا فإن السيرة الذاتية التي لا محالة تدل على الكفاءة في فن صاحبها وموضوعه ومهنته، غير أنها ليست بالضرورة دلالة على حكمته. لذا فإن التعايش والمعرفة بالفرد تكمل الصورة وتوضح الخفي، وتبرز الحقيقة، والناس مخازن لا تعرف ما فيها قبل أن تفتح بابها، فإما أن تكون فارغة مما تطلبه وإن كانت مليئة بغيره، أو تكون مليئة بكل أنواع اللآلىء والجواهر.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد