Al Jazirah NewsPaper Friday  10/04/2009 G Issue 13343
الجمعة 14 ربيع الثاني 1430   العدد  13343

مع الدكتور الخويطر: في لمحات من الذكريات
د. محمد بن سعد الشويعر

 

الذي يقرأ سلسلة وسم على أديم الزمن: (لمحات من الذكريات) يدرك أن معالي الدكتور: لديه مواهب متعددة، نمت معه منذ نشأته: منها الصبر والجلد وحب الرصد في الذاكرة لكل ما يمر به، مع اهتمامه في الذكريات بما يمر به، مهما كبر أو صغر، مع روحه المرحة التي تفتق عنها المزاح البريء، مع الأحباب، وإجادة المقالب على الآخرين، مع الرد وبهدوء على من يريد النيل منه والحرص على تسجيل الذكريات، من اليوميات عنده.. وهذا بارز في أكثر كتبه.. ولذا كان محبوباً من عارفيه ولا يضجرهم ما يبدر منه نحوهم.

بل يرون ذلك في المقبلات للجلسات الاخوانية التي تزول الكلفة بها، ولا تحلو إلا بها للتعود، فكل يتقبلها، ويجهد نفسه الرد إن استطاع والغالب فيها أن الغلبة له، فيما ظهر مما جاءنا من كتبه، مع أن مجلسه يمتاز بالوقار ولا يمل من ذلك: سواء كان الأمر له أو عليه.. وقد بانت فيه هذه الخصال منذ أيام الدراسة الأولى في مكة ثم مصر وفي لندن، حتى مع حياته العملية حتى أن العلماء والأطباء يوصون بذلك، لما لهذا من أثر على صحة الإنسان.. وقد جربت بنصيحة طبية الضحك البريء، فأحسست بآثار عجزت عنها العقاقير.. فأصبحت هذه الخصلة سجية فيه عرف بها، والجد لا يناسب.

وبين الأيدي الجزء الثاني عشر، من هذه اللمحات، وفيها من الدعابة والظرافة، ما يسلى، مع سلاسة الأسلوب بقدر ما فيها من معلومات تاريخية واجتماعية، وخاصة عن الجامعة الفتية في دور تأسيسها - جامعة الملك سعود - حتى نمت وكبرت فأصبحت من الجامعات العريقة.

ولذا فإن من يقرأ كتابه هذا الذي أعطى فيه طابعاً خاصاً، بما حوى من معلومات، تتطلع إليها النفوس المتشوقة لاستطلاع معرفة، البدايات التعليمية الجامعية في بلادنا، علاوة على ما قرنها المؤلف: من بدايات في الأمور العامة للبلاد التي قفزت في فترة وجيزة في عرف الزمن، وبتقبل سريع من المواطنين، لتلحق بالمواكب في الأمم: علمياً وحضارياً واجتماعياً، في جميع المجالات وتأسيس البنى التحتية، في البلاد: مدنها وقراها، لأن جميع الأمور بدأت من خانة الصفر. ولولا أنه يحكي شيئاً عاصره، وبقرائنه، لظن الناس به الظنون، ولكنه قد حرص على التوثيق: (ومن حفظ حجة على من لم يحفظ).

وباعتباره أول من جاء من البعثة في بريطانيا يحمل أعلى شهادة علمية (دكتوراة)، فكان الأول تعييناً في الجامعة من السعوديين، فقد تحدث عن تعيينه في أول عام 1380هـ، ورصد باليوم والتاريخ العربي والافرنجي، باعتباره حدثاً مهماً (ص93).

ويقول أيضاً عن أول مواجهة: عندما عينت في الجامعة شعرت بسعادة غامرة بهذه المرتبة ومرتبها 1800 ريال في ذلك الوقت فلم أكن أعرف شيئاً عن أي عمل، والناس يتوقعون ممن يحمل الدكتوراة أن يكون عمله متميزاً وأمّلت في أن أكون موفقاً في عملي العلمي، وعملي العملي، وألا يطغى أحدهما على الآخر (96 - 97).

والكتاب فيه رصد لمراحل المسيرة، في أول سنة عملية عنده بأسلوب شيق ومعلومات موثقة، خاضها في معترك التأسيس والبناء لهذه الجامعة، ومجابهته للأمور المتعددة، معترفاً بأن هذه أول تجربة له في العمل الإداري والعملي بعد عودته من الدراسة، ومقراً على نفسه - وليس هذا بعيب - أنه استفاد في تسيير المعاملات من الموظفين الصغار: داخل الجامعة وخارجها.

وكان مما قال: بدأت عملي في الجامعة، وهي ثلاث كليات، الآداب التي فتحت عام 1377هـ، والعلوم عام 1378هـ وهما أول ما أنشئ، والجامعة فتحت عام 1377هـ، ثم أنشى بعدهما كلية الصيدلة ثم التجارة، وكان بدء الدراسة بـ(21) طالباً، وكان الملك سعود رحمه الله متحمساً لإنشاء الجامعة، فهي تاج يليق بالنهضة الثقافية التي تعيشها المملكة.

وكان الرد على المعترضين على فتحها، بحجة المبالغ الطائلة عليها، وان بعث الطلاب للخارج أقل تكلفة مما يؤكد عدم الجدوى الاقتصادية فكان الرد: إننا نستثمر رجالاً لا أموالاً وأن الذين لم يحصلوا على مقاعد الآن (21) طالباً، وفي كل عام يتضاعفون حتى يصلوا للمئات ثم الألوف فما فوق، ولذا يجب وضع البذرة الآن.

ومع تحمس الملك سعود، ومتابعة وزير المعارف - رحمهما الله - فقد اتجه المشروع نحو التنفيذ، فاستقدمت وزارة المعارف خبيراً في التعليم، هو الدكتور: محمد مرسي، فأكد للملك سعود بعد مقابلته: إيمانه بصواب الفكرة، فبدأ المشروع.

ثم ذكر المعالجة لكل ما يعترض: من المباني وكيفية حلها، ومن سكن الطلاب ومشكلاتهم حتى ألغيت.

كما أعطى فكرة عن بدء المسيرة، وتعاون هيئة التدريس، ولم يكن بينهم سعودي واحد، وتعاونهم بما يفوق التصور، وذكر من الطرائف أن الأستاذ مصطفى السقا، كان يأتي في الصباح فيجد الطلاب يغطون في نومهم العميق، فيوقظهم حتى يوصلهم لفصولهم وكانت امتحاناتهم لقلتهم، تتم في مكاتب الأساتذة، فلا صالات امتحانات، ولا أسئلة سرية ولا مراقبين (ص 98 - 108).

ومما عالجت به الجامعة مشكلات الطلاب في السكن: أسلوباً حسناً استعمله معاليه، فيه تأنيب وتأديب، فقد رأى طالباً بعد العصر في الدور الأعلى لم ينتبه لمن يراقبه، وأخذ ينزل مع الدرج، وكلما مر بلمبة كسرها.. فسارع الدكتور حتى لا يراه الطالب، ونزل من الدرج الآخر وقابله فاسقط في يده، وبدل تأنيبه اتفق معه على أن يبدل اللمبات كلها على حسابه، ويركبها بنفسه، وأكد له أنه إذا تكرر هذا منه، أو من غيره فإنه هو المسؤول ثم أكد عليه ألا يخبر أحداً من زملائه بهذا، لأن بعض أعدائه سيقومون بهذا العمل نكاية به لأنه صاحب السابقة.

ولأن شجار الطلاب، ومشكلاتهم فيما بينهم لا تنتهي، فإن الجامعة لم تستخرج من ذلك إلا بعدما ألغت سكنهم (ص 108-111).

ومن الملاحظ في استعراضه لبعض هيئة التدريس، أو من الطلاب الذي عادوا من الابتعاث فكانوا من هيئة التدريس، أو للسعوديين وغيرهم الذين استعانت بهم الجامعة للتدريس عندما مرت بالجامعة أزمة.

فهؤلاء جميعاً كان حديثه عنهم بالفرد أو العموم، يتسم بالثناء والعرفان بالمكانة، مما جعلهم يدركون بأنه ألبسهم تيجاناً يتحلى بها كل فرد، إذ أثنى عليهم فرداً فرداً، ولم يبدر منه قدحاً في أي فرد منهم، وهذا من حسن أدبه، بل قال: إنهم أعطوا من جهدهم وعلمهم مع تعاونهم، وأثنى عليهم وترحم على من مات منهم.. وقد نسي في تعامله معهم الفوارق الإدارية، فهم أخوة أعزاء عنده.. فقد كتب عنهم بأدب، وعاملهم بلطف، لما تركوه من أثر حسن.

ولظرافة هذا الكتاب، وسعة ما فيه من معارف ومعلومات في صفحاته البالغة (500) صفحة، مع الفهارس والصور.. فإنني أتوقع وراءه من الإصدارات ما يكمل به المسيرة مع الجامعة وتأسيسها، وما مر به من طرائف، من إيجاب أو سلب، فتفاعل مع الإيجاب، وتباعد عن السلب، تاركاً بصمات من الذكريات اللطيفة، التي لا تخلو من بعض المتاعب فتغلب عليها.

وأترك للقارئ الكريم، أن يستمتع بما في هذا الكتاب من معلومات ومواقف، مع أنه يحكي ذكريات سنة واحدة فقط هي عام 1380هـ.

ولعل الأيام المقبلة، تلد أجزاء من هذه الذكريات الممتعة تكملة لما سبقها في هذا العام 1380هـ ليأخذ القارئ فكرة عن هذه المسيرة، وما احتلته الجامعة من مكانة شامخة إذ غالبية الهيئة التعليمية فيها هم من أبنائها لينطبق قول الملك عبد العزيز رحمه الله في تمثله بهذا البيت:

نبني كما كانت أوائلنا تبني

ونفعل فوق ما فعلوا

ولم يقل مثله بل زاد بالفوقية..

واختم حديثي بمادة كما قال: إما عن حسن نية أو سوء نية، فقد قال: استدعاني وزير المعارف الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، فذهبت إليه في بيته، فقال: إنني عاتب عليك فقلت: على ماذا؟ قال: تبعد كتاباً للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وتضع مكانه كتاباً لسيد قطب فدهشت من هذه الفرية وقلت لمعاليه: ما بلغك بعيد عن الواقع والأمر: إن كتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب لأهميته رأى المسؤولون في القسم أنه لا يكمل سنوياً إلا نصفه فلكي يتم كله حذفوا كتاب سيد قطب وجعلوا مكانه كتاب الشيخ، فدهش رحمه الله وقال: حسبي الله ونعم الوكيل عدة مرات كيف تقلب الحقائق (ص303 - 304).

أول حصار اقتصادي في الإسلام:

للاقتصاد أثر في الحروب النفسية، والعسكرية، لأنّ الاقتصاد يمس حياة كل فرد في الشعب، وقد يكون أثره في الجيوش أخف، لأن الإمدادات والتموين، تأخذ الحيطة في الاعتبار.

وأول ما عرف الحصار الاقتصادي في الإسلام، على يد ثمامة بن أثال الحنفي، زعيم منطقة اليمامة في نجد، وتعني ذلك الوقت: منطقة الخرج حالياً: جنوب الرياض 85كم تقريباً.

ويرتبط هذا الحصار، بقصة إسلام ثمامة، التي جاءت عند ابن الأثير، في كتابه: أسد الغابة في معرفة الصحابة، وتبدأ هذه الحكاية، بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين عرض لرسول الله، وهو مشرك فأراد قتل الرسول الكريم إن مكّنه الله منه.

فقد أقبل ثمامة معتمراً وهو على شركه حتى دخل المدينة، فتحيرّ فيها، حتى قُبض عليه، فأُتِيَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر به فرُبطَ إلى عمودٍ من عُمِد المسجد، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لك يا ثمام، هل أمكن الله منك؟ فقال: قد كان ذلك يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تَعْفُ تَعْفُ عن شاكر، وإن تسأل مالاً تُعْطه. فمضى رسول الله وتركه، حتى إذا كان من الغد مرّ به، فقال: ما لك يا ثمام؟ قال: خير يا محمد إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تعف تعف عن شاكر، وإن تسأل مالاً تعطه. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو هريرة: فجعلنا، المساكين، نقول بيننا: ما نصنع بدم ثمامة؟ والله لأكلة من جزور سمينة من فدائه، أحبّ إلينا من دم ثمامة.

فلما كان من الغد، مرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ثمام؟ قال: خير يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دمّ، وإن تعف تعف عن شاكر، وإن تسأل مالا تعطه. فقال رسول الله: أطلقوه قد عَفَوْتُ عنك يا ثُمام.

فخرج ثمامة حتى أتى حائطاً من حيطان المدينة، فاغتسل فيه وتطهّر، وطهّر ثيابه ثم جاء إلى الرسول، وهو جالس في المسجد فقال: يا محمد، لقد كنت وما أجد وجهاً أبغض إليّ من وجهك، ولا دين أبغض إليّ من دينك، ولا بلد أبغض إليّ من بلدك، ثم لقد أصبحتُ وما وجه أحبّ إليّ من وجهك، ولا دين أحبّ إليّ من دينك، ولا بلداً أحبّ إليّ من بلدك، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، يا رسول الله إني كنت خرجت معتمراً، وأنا على دين قومي، فسيّرني صلى الله عليك، في عمرتي فسيّره رسول الله في عمرته وعلّمه، فخرج معتمراً فلما قدم مكة وسمعته قريش يتكلّم بأمر محمد، قالوا: صبأ ثمامة، فقال: والله ما صبوت، ولكنني أسلمت وصدّقت محمداً، وآمنت به، والذي نفس ثمامة بيده، لا تأتيكم حبّة من اليمامة، وكانت ريف أهل مكة، حتى يأذن فيها رسول الله، وانصرف إلى بلده، ومنع الحمل إلى مكة، فجهزت قريش، فكتبوا لرسول الله يسألونه بأرحامهم، إلا كتب لثمامة يخلي لهم حمل الطعام، ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(أسد الغابة 1: 294-295)


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد