Al Jazirah NewsPaper Wednesday  15/04/2009 G Issue 13348
الاربعاء 19 ربيع الثاني 1430   العدد  13348
خطورة الشائعات
عبد الله بن محمد السعوي

 

ما إن تكاد تتسلل طلائع خيوط الفجر وتتسرب رويداً رويداً من جعبة الزمن، مؤذنة بزحف أشعة الشمس التي تضيء الكون بالأنوار إلا ويتنامى إلى أسماعنا إشاعة مّا تنبعث من هنا أو هناك تستهدف إحدى الشخصيات العامة دينية كانت أو سياسية أو فكرية

....أو شخصية في الوسط الرياضي أو غير ذلك من الأوساط.

الإشاعة كمفردة ذات دلالة حركية - تشير إلى جهد يُبذل في سبيل تحقيق غاية ما - إكسير حيوي للحروب النفسية بدأ انبثاقه منذ فجر التاريخ متزامناً مع انبثاق الإنسان الأول، فتطور وترعرع مع تطور الحضارات القديمة والحديثة فقد كان له تموضعه الامتدادي وحضوره الباذخ لدى المصريين والصينيين واليونانيين في حروبهم قبل الميلاد بآلاف السنيين.. الشائعات التي تُعد الأزمات والقلاقل مرتعاً خصباً لتغلغلها في المجتمع تتباين بتباين محفزاتها سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو نفسية.. وهي كجزء من طبيعتها لا بد أن تتعرض أثناء التداول للتحريف الذي يصل في كثير من الأحيان إلى مستوى استبدالها بما عداها على نحو يضمن لها إثارة أكبر مما لو بقيت على ما حُبكت عليه أصلاً.. ولو استنطقنا التاريخ لأباح لنا غير مكره بأمثلة تفوق الحصر لألوان الشائعات ومدى خطورتها كما نرى في الإشاعات التي يخترعها أزلام (جنكيزخان)عن مدى ما يتصف به رجاله من وحشية ضارية.. هذه الإشاعة أفضت إلى تيسير مهمة الجيش لاحتلال مدن عديدة في الشرق العربي والإسلامي.. أيضاً إسرائيل توسلت الإشاعة إرهاصاً لاحتلال فلسطين فقد قدمت المنظمة الصهيونية العالمية مذكرة إلى مؤتمر السلام الذي عقد لليهود.. هذه الإشاعة تزعم أن ذلك هو حكم التاريخ!!.. ومن تلك الشائعات التاريخية الادعاء الفارغ بأن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل وترسانة هائلة من الأسلحة النووية والكيميائية.. هذه الإشاعة التي روّجت على نحو احتدت تداعياتها وآلت إلى ما بُرمج لها سلفاً من وضع دموي يعاين هنا وهناك، وهكذا نفخ في تلك الشائعة طلباً لكسب التأييد العالمي.

الإعلام كسلطة رابعة كثيراً ما يروِّج بعض الإشاعات خدمة لحزب ما أو حاكم ما كما نرى في الإعلام العراقي إبان حكم صدام حسين حيث صبَّ جهوده في تلميع صورة الدكتاتور ووضع تصور ذهني معين عنه وعن حاشيته وأفراد عشيرته والتصفيق الأخرق لقراراته وتبرير خروقاته السافرة وضخ كل ما من شأنه مضاعفة هيبته كما حصل في مطلع الثمانينيات عندما أُشيع أن مخابرات صدام مبثوثة في كل بقعة وأنها وضعت أجهزة تصنت في المنازل، وأن الجدران باتت لها آذان تلتقط كل مفردة تسيء إلى حزب البعث على نحو بث الرعب وأشاع الهلع وأحال الناس إلى مجرد كائنات صامتة لا تنبس ببنت شفة حيث ظنوا أن صدام على كل شيء قدير!! ومن ذلك أيضاً ما ادعاه جهاز الأمن العراقي من النجاح في إفشال محاولة إرهابية لتفجير مرقد الإمام الحسين باشرها عملاء لطهران، هذه الشائعة وظفت كإرهاص منطقي لتهجير الآلاف من الشيعة والأكراد إلى إيران بحجة انتمائهم الأصلي إلى هذا البلد!.. كثير من التنظيمات والمعارضات السياسية تلجأ لنشر الإشاعات المغرضة عن أداء بعض الحكومات يحدوهم إلى ذلك هز ثقة الجماهير بسلطتها.

إن الشائعة كثيراً ما تكون حاضرة على المستوى الرسمي عندما يتوخى من خلالها جس نبض الرأي العام وابتلاء ردة الفعل الشعبية عندما يُراد تمرير قرار اجتماعي مّا.. ثمة لون من الأمثلة تختزنها الذاكرة الشعبية وتتعاطى معها بحسبها لا تنأى عن الدائرة الموضوعية وأن لها كبير حظ من الواقع والمصداقية مثل قولهم: (لا دخان من غير نار) و (ما خبر من تحت حجر).. هذه الأمثلة، التي مع الأسف تسهم على نحو وافر في ضخ الشائعات وإذكاء أوارها وتمنح ضرباً من التأييد الإضافي للألسنة المريضة من محترفي ترويج الإشاعة ومسوقي الروايات المكذوبة ضد ضحاياهم فيشتغلون على إذاعة ما يفتقد للصحة متدثرين بهذه الأمثلة التي توفر لهم غطاءً تسويقياً يضمن لهم ولو على أقل تقدير الحد الأدنى من الإدانة للضحية المستهدفة التي قد تكون بريئة مما نُسب إليها براءة الذئب من دم ابن يعقوب!.. إن هذه الأمثلة لا يليق التعويل عليها كثيراً لأن الواقع غالباً ما ينطق بضدها.. مروجو الإشاعات لهم علامات من أبرزها، أن الواحد منهم يُحدّث بكل ما يتنامى إلى سمعه فهو مهذار، ينثال الكلام من لسانه حتى يغرق المكان، ما يصل إليه من أخبار لا يمكن أن تبقى دفينة الذاكرة لا يبوح بها لأحد! فهو مُفشٍ للسر وبامتياز!.. إنه وكالة أنباء متنقلة!، يسعى بلهث لتحقيق سبق صحفي، ولكل صحافته بطبيعة الحال!.. إن السر يؤرق صدره، يكتم أنفاسه يصيبه بالضنك، يتعذر عليه الاحتفاظ به بين جنبيه، نعم، قد يتماسك ذات رشد مّا، ولكنه تماسك عابر إذ سرعان ما يتفاقم القلق في أعماقه، فيتصدع من الداخل، مقاومته تبدأ بالتراخي، يلجأ إثر ذلك إلى التخفف من كثير من أسراره، عبر إذاعتها، وعلى أوسع نطاق ممكن؛ حتى يتنفس الصعداء!؛ مروج الإشاعة، من أكبر عشاق الثرثرة، فهو دائماً يبحث عن قصة يثرثر بها، التطفل سمة مركزية لديه، فهي أحد أبعاد شخصيته، إنه كثيراً ما يحشر ذاته في أمور شائكة ليست من شأنه، يقتحم بأسئلته حيوات الآخرين الخاصة، فضوليته التي تثير الفضول! تكون على أعلى مستوياتها عندما يشاهد اثنين تشي ملامحهما بأنهما يتداولان سراً!؛ حينما يقف في انتظار إشارة ضوئية، فهو لا يكل من التحديق، يحملق في وجوه الآخرين، يتفحص المارة بنظرات مائقة، حدقتا عينيه في حالة من التماوج القلق، يمنة ويسرة، الرقبة هنا، تكون على أعلى درجات استنفارها! إنه استنفار تفرضه مقتضيات الشبق الفضولي المزروع في وجدانه!، إنه طفولي، حتى النخاع، ديدنه التطلع المتبجح، عندما يرمق تجمهراً مّا، ينتظمه تيار من الفضول، فيكبح جراءه كوابح مركبته فجأة!، تتسمر يداه على المقود، ثم يترجل يحث الخطى إليه، لعله يهتدي إلى سر ذلك التجمهر!، يفعل ذلك ولا يعيقه شيء عنه، أما إن كان خريف عمره، لا يتيح له فرصة الترجل، بفعل زحف الشيخوخة إليه، ودبيب المرض في أوصاله، فإنه، هنا يصمم على أن يُؤتى به، يتهادى بين رجلين!؛ مروج الإشاعة أحيانا يتمسح بالديني - وخصوصاً عندما تكون الإشاعة عن فرد أو مؤسسة مّا لم تظفر بإعجابه - يتوسل لهجة يتكلف فيها الورع، وقد يُجهش مستمع ما، وقد يحوقل آخر!، وهكذا يرتدي أسمال المصلحين، ويوظف التدين في سبيل تمرير رؤى النفي المفتقرة لما يؤسس شرعية وجودها! إن تدني مستوى الوعي في الأوساط الشعبية محفز قوي على تأجيج الإشاعة، ولا سيما إذا حُبكت على نحو مُحكم ونُسجت بمهارة فائقة تستعصي على الاستنكار، وكان المستهدف بها أحد المشاهير الذي في كثير من الأحيان يكون مظلوماً فهو في حالة يُرثى لها إذ إنه لا يملك إسكات الألسنة!.

إن المقاومة الفعلية الحادة من انتشار الإشاعة تكمن في الشفافية الإعلامية العالية وسد الفراغات المعلوماتية ومكافحة الشائعة عبر تكذيبها إعلامياً من خلال نشر نقيضها دون الإشارة إليها لئلا تترك الإشاعة أثراً في الشارع المحلي ولا تفتت نسقه العام.. لا بد من تشكيل المحتوى المعلوماتي في الذهن العام على النحو الشفاف وبذل المزيد من مفردات الصراحة والمصداقية والوضوح، فالذهن الجمعي عندما يكون في حالة فراغ من المعلومة الصحيحة وشحة مواردها سيكون مؤهلاً أكثر للقابلية للتصديق العفوي المباشر.

إن الشائعات تروّج عند غياب الأخبار فغياب المعلومة الحقيقية من الجهات ذات العلاقة شأن يغذيها.. فالجماهير عندما تعيش في ظل واقع يكتنفه كثافة ضبابية هائلة مثقلة بالغموض سوف تتوق متطلعة إلى البحث عن مصادر تمدها بالأخبار مما يضاعف من فرص تمدد الشائعات.

وأيضاً عندما تتضاءل الثقة إلى أدنى مستوياتها في أي جهاز إعلامي فإن هذا سيوفر أرضاً خصبة لتولد أجواء التزييف.. إن التثبت من الأخبار منهج قرآني يجب تأصيله في الوعي الجماهيري لكي يملك القدرة على التعاطي مع متباين الأنباء بفكر تحليلي نقدي يغربل الأخبار ولا يتداولها بسهولة.

لا بد لمحاصرة الإشاعة وتجفيف منابعها وأن تتمتع الجماهير بحصانة عقلية ضد القبول المتسرع لأية حكاية أو نبأ مهما كان مصدره.. الشائعة قد تكون على المستوى الفردي وحينئذ فمواجهتها على عدة أضرب؛ أحياناً قد تكمن بالقدرة على التحلي بالقدرة النفسية على اللا مبالاة وإظهار قدر كبير من عدم الإكتراث بها وتجاهل مثيرها وعدم الدخول في ردود لا تنجح إلا في استنزاف طاقة الفرد وجره إلى معارك هامشية تجنح به إلى النضال الفارغ بعيداً عن الغايات المرسومة وحينها يحقق ما يتوخاه خصومه الذين يتفانون في سبيل استفزازه وإخراجه عن طوره وتبديد انتباهه بجره إلى صراعات خاسرة.. إن الحسد كضرب من أعمق الانفعالات الإنسانية وأعلاها ذيوعاً يكون في أوقات كثيرة هو الدافع لبث الشائعات، فالحاسد تكتسي نظراته بكآبة عميقة، وتحتقن ملامحه بالحسرة، فلا يهدأ له بال، ولا يقر له قرار، عندما يرى سواه متألقاً في مجال مّا؛ الفرد، أي فرد، عندما يبدأ يتصاعد نجمه باستمرار في أي حقل من الحقول فسيكون هدفاً لحساده، وسيظلون يشغبون عليه، بغرض التقليل من قيمته.. لماذا؟! لأنه لا سبيل أمامهم لتحقيق نجاحات مضارعة، كما أن قدرته على السمو، ستعريهم، وتكشف عن مدى دونيتهم؛ إن الشائعة هي إحدى الآليات القذرة التي يتوسلها الغوغاء للنيْل ممن لا يروق لأذواقهم على أي مستوى من المستويات.

إن النجاحات المتوالية التي يجسدها شخص ما كفيلة بأن تجعل منه مادة دسمة وموضوعاً ثرياً لكلام الآخرين، سواء أكان مدحاً أو قدحاً والحصيف اليقظ لا يلتفت لا لتصفيق المادح ولا لذم القادح، وإنما يكرس طاقاته النفسية في سبيل تجسيد الإبداع ومعانقة قمم المجد مع الأخذ في الاعتبار ضرورة التعاطي الإيجابي مع النقد البنَّاء بوصفه من أهم العوامل في تطوير الذات.

إن أقوى صفعة قاسية يسددها الناجح لشانئيه، هو أن يستمر في مواصلة مسيرته التقدمية، فتخفق داخله المشاعر العليا وتسمو اهتماماته عن حاجات الغريزة وصرخات الأنا دون أن يحفل بالمعوقات، بل يتعاطى مع تلك المعوقات بآلية فنية، بل يحيلها ببراعته إلى لون من المحفزات الباعثة على النهوض والإبداع في منحاه النوعي.



Abdalla-2015@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد