Al Jazirah NewsPaper Thursday  23/04/2009 G Issue 13356
الخميس 27 ربيع الثاني 1430   العدد  13356

لتطوير الجامعات وتنمية الوطن (3-3)
د. زايد بن عجير الحارثي

 

لقد انتهى المقال السابق إلى الحديث عن المدخل الأول في نظرية إصلاح البيئة الصالحة للاستثمار في أساتذة الجامعات، والآن يسرني أن أختتم هذه السلسلة باستكمال الحديث عن المدخلين الرئيسيين الآخرين لتفعيل وتجهيز بنية الاستثمار.

والمدخل الثاني هو الجامعات وما يمكن أن تقوم به لتوفير المناخ لبناء العقول المناسبة وتجهيزها لاستثمارها والاستفادة منها وتقديم النماذج والقدوة من الأساتذة. وهذا المدخل في نظري هو الأهم لتنفيذ الاستثمار من حيث تقديم الكوادر والمواد اللازمة أو رعاية واحتضان هذه الطاقات. وفي نظري واستلهاماً من مقال سابق نشر في هذه الجريدة الغراء بعنوان: (الإدارة في الجامعات فن وقيادة أم روتين وسيادة) أعتقد أن إدارات الجامعات القائدة والرائدة هي محور الارتكاز في عملية الإصلاح والتطوير والبناء الفعلي لبيئة الاستثمار، وهنا أستطيع أن أقدم ما يأتي من آراء بهذا الخصوص:

1- جعل سياسات الاستقطاب العامة للبلد في العقول والكفاءات مصدراً مهماً ومتأصلاً في أوليات إدارة الجامعات ليس من خلال حماية منسوبيها من الأساتذة من التسرب والهجرة إلى القطاعات الأخرى فقط (حتى لا يكون هناك نزيف أو فقدان للعقول Brain Drain التي هي من أسوأ وأخطر أعراض مرض الجامعات وانكفائها على ذاتها وعدم قدرتها على الدخول في الإنتاج المعرفي والشراكة الحقيقية في بناء المجتمع وتقدمه) بل ومن خلال قيادة مركبة الصعود والنهوض بالعقول إلى الأعلى من خلال تسخير وتيسير موارد الجامعات لشحذ الهمم وتوليد الطاقات ورعاية المواهب وتنسيق الجهود وتشكيل الفرق وتوحيد وتأليف القلوب والعقول نحو أهداف مشتركة تحوّل الجامعات إلى ورش عمل وخلايا نحل لا تهدأ. وهذه الآمال والطموحات سهلة الكتابة وسهلة القول، وسهولة الإعلان تحتاج إلى ترجمة في صورة تعبر عن حقيقة وظيفة ورسالة الجامعة وكذلك تحقيق أهداف ولي الأمر والحكومة الرشيدة التي تغدق بسخاء على الجامعات على وجه الخصوص والتعليم العالي بصفة عامة.

2- إن التحسينات والبدلات التي مُنحت لأساتذة الجامعات من قبل الدولة مؤخراً ومن أهمها بدل نهاية الخدمة بغرض دعم وتطوير أعضاء هيئة التدريس وتحفيزهم على أداء مهامهم التدريسية والمشاركة بفعالية في حضور الجلسات والأنشطة الجامعية العلمية سوف تسهم بلا شك في حفز ودعم الأساتذة لتطوير أدائهم وكذلك زيادة شعورهم بالأمن والأمان الوظيفي، وعلى إدارة الجامعات أن تجسّد هذه المزايا والبدلات ببراعة وتجعلها مصدراً مهماً في الاستقطاب والاستثمار بل وأن تعمل على استمراريتها والعمل على تنميتها والمحافظة على مزاياها، فهذا من شأنه أن يسهم في إصلاح سياسة الاستقطاب ونمو الجامعات.

3- إن الآمال عالية وعريضة في استكمال معززات الدعم والتحفيز للغالبية من الأساتذة في مجال البحث العلمي وخدمة المجتمع؛ لتصبح المكافآت والحوافز التي وردت في التحسينات الجديدة التي تتعلق بمنح مكافآت إضافية للحاصلين على جوائز عالمية أو إقليمية أو محلية مفعّلة ومقننة بآليات تزيد من نسبة المستفيدين منها، وكذلك الطامحون للحصول عليها.

4- إن هناك حاجة لاستكمال إخراج اللوائح الجديدة التي تمت دراستها والتي تتعلق بالبحث العلمي في الجامعات والتي ستكون حافزاً ودافعاً إضافياً وميسراً للإنتاج والانخراط في البحث العلمي للشريحة الكبرى من أعضاء هيئة التدريس الذين يترددون بل يحجمون عن المساهمات البحثية بشكل ملموس في ضوء اللوائح الحالية، ومن شأن ذلك أن يسهم في اكتمال ركائز الدعم للمنظومة المحفزة والمستقطبة للأساتذة الجامعيين.

5- إن الكراسي العلمية ومراكز بحوث التميز والمشاريع والشركات البحثية بين الجامعات والقطاع الخاص والشركات وكذلك مع الجامعات المحلية والعالمية، يجب أن تتوسع دائرتها لتشمل معظم الجامعات المحلية والمؤهلة التي تتوافر بها البنى التحتية المناسبة، وذلك من شأنه أن يوفر المناخ الآمن للبحث والإنتاج والتحفيز للأساتذة.

6- يجب أن تتاح الفرص للكليات والأقسام بتبني البحوث الجماعية بين الأعضاء وطلاب الدراسات العليا والتدرب عليها التي يمكن دعمها من ميزانيات الأقسام والكليات وأن يكون ذلك من ضمن الخطط والميزانيات السنوية بدلاً من العمل الروتيني المعتاد للأقسام والكليات.

7- وإن حلقات النقاش العلمي والندوات المستمرة على الأقل في داخل الكليات ولما لها من أهمية يجب أن تكون دورية بل ويجب أن تجعل هذه النشاطات من ضمن البرامج والسياسات التي تتبناها الجامعات في خططها واستراتيجياتها.

8- ويمكن إنشاء جوائز تميز بحثي على مستويات مختلفة لطلاب الدراسات العليا وللأساتذة الذين تسهم أبحاثهم في إنجازات أو إبداعات تطبيقية أو ميدانية أو نظرية في حل مشكلات أو إضافات علمية وأن يكون هناك منح على مستوى الجامعات أو بالتعاون مع مؤسسات أو جامعات أجنبية للمميزين من الباحثين وطلاب الدراسات العليا لمدد محدودة بفصل أو سنة، وتكون هذه الجوائز أيضاً ضمن الخطط العامة والخاصة للجامعات؛ حيث يجب استثمار وإعلاء شأن الأبحاث التي يقوم بها طلاب الدراسات العليا وخاصة مرحلة الدكتوراه فتؤدي هدفاً وغاية أبعد مما هو قائم بالفعل.

9- إن الحضور والمشاركة الفعلية في المؤتمرات والندوات والدورات وورش العمل من قِبل عضو هيئة التدريس هما من أهم روافد نمو وتطور أعضاء هيئة التدريس، ويجب أن تكون متاحة بشكل أكثر مرونة في سياسات الجامعات لمنسوبيها داخلياً وخارجياً، ولكن يجب التركيز والتحديد للمشاركات الفاعلة على تلك التي تخدم أعضاء هيئة التدريس وتنعكس على تطوير وتنمية أدائهم التدريسي والبحثي وفق آليات وضوابط لكل جامعة.

10- إن توفير الحاجات الأساسية المادية والنفسية والاجتماعية لأعضاء هيئة التدريس بالجامعات مثل السكن المناسب والعلاج المناسب والمكاتب المناسبة والتسهيلات المختلفة مثل الخدمات الأسرية ومتطلبات المراجعات مع الدوائر الحكومية وغيرها من شأنها أن تسهم في استقرار عضو هيئة التدريس وشعوره بالأمان والاطمئنان الوظيفي والنفسي وتوفير البيئة الصحية Healthy Environment بل إنها تجعل عضو هيئة التدريس أكثر ولاء وحباً لجامعته وتضاعف من أدائه وتميزه واستثمار طاقاته وكوامنه، ولعله من قبيل إحقاق الحق الإشارة إلى أن بعض الجامعات السعودية قد وفرت كثيراً من هذه الحاجات والمتطلبات لأعضائها، وقد جاء ذلك نتيجة دراسات علمية وانطباعات شخصية والحاجة قائمة إلى المزيد والتعميم لكافة الجامعات.

11- وإن الإدارة الجامعية الحصيفة والقائدة والفاعلة هي تلك التي ترفع من كفاءة عوامل الطرد للشوائب والمثبطات في بيئة الجامعة سواء كان متمثلاً في أساتذة غير صالحين وغير أكفاء أو في طلاب أو إداريين أو في آليات وقرارات وموروثات فاسدة وفي المقابل رفع مستوى الجذب والاستقطاب من كفاءات وإداريين ومناخ عام يوفر البيئة الخصبة للإنتاج والإبداع والولاء والحب والرضا.

12- وإن من سمات إدارات الجامعات الراشدة العادلة أن تؤسس لنظام تقييم مستمر وعادل للإنجاز والأداء للأساتذة متبوعاً بمكافآت وحافز وترقيات مقابل محاسبة المتكاسلين وغير المنتجين.

وأخيراً المدخل الثالث وهو المرتبط ب: مسؤوليات أعضاء هيئة التدريس وواجباتهم تجاه الاستعداد للعطاء والأداء الإيجابي الفعّال للجامعة والمجتمع. وفي هذا السياق أرى أن توفير الإمكانات والتجهيزات المختلفة والبيئة والمناخ المناسب لأعضاء هيئة التدريس يستلزم قيامهم بشحذ هممهم وتحمُّل مسؤولياتهم تجاه طلابهم وتجاه جامعاتهم وتجاه وطنهم وبذل كل طاقاتهم دون تردد أو تخاذل تجاه المساهمة الفعلية في الإنتاج حيثما طلب منهم ذلك وحيثما تحددت مسؤولياتهم وحدود أدائهم.

إنني أرى أن تفعيل أداء الواجبات وتحمُّل المسؤوليات من قبل أساتذة الجامعات لا يجب أن يكون شعارات تقرأ وتقال في المجالس والجلسات العامة وعبر الوسائل المختلفة بل يجب أن يكون ضمن لوائح الجامعات وقواعدها وآليات وأحكام للمحاسبة فهذا مبدأ إلهي قبل أن يكون مدنيا متى ما تم تطبيقه في الجامعات (وهي المكان الأمثل لذلك) متى ما عرف الجميع من يستحق المكافأة ومن لا يستحقها، ومتى ما توافر مناخ التنافس الشريف المنتج ما ارتقت الجامعات بوظيفتها ومساهمتها لتنمية الوطن، وفي هذا الصدد أرى بعض التوصيات التي أنادي بها عبر هذا المنبر الإعلامي المهم لزملائي الأساتذة في كل مكان:

1- إن شعور الأساتذة بالمسؤولية الأخلاقية والأدبية تجاه واجباتهم الأكاديمية وواجباتهم نحو طلابهم ومجتمعهم يجب أن يكون في أعلى مستوياته بغض النظر عن الحقوق النظامية والقانونية، وهذه المسؤولية والضمير الواعي اليقظ يجب أن يكونا سمة بارزة وواضحة على الأساتذة من خلال إعدادهم وتربيتهم المسبقة المبنية على الاختيار السليم لهم في مراحل تكوينهم الأولى وكذلك من خلال التدريب والتعليم المستمر في أثناء خدمتهم؛ فهم في نظر الطلاب والمسؤولين والمجتمع قدوة ومثال أخلاقي وسلوكي قبل أن يكونوا أساتذة وباحثين، والرسول صلى الله عليه وسلم خير أستاذ ومعلم حيث قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).

والشاعر يقول:

لا تحسبن العلم ينفع وحده

ما لم يتوج ربه بخلاق

العلم إن لم تكتنفه شمائل

تعليه كان مطية الإخفاق

فحُسن الخلق مع الطلاب وحسن الخلق في التعامل مع الزملاء ومع الرؤساء ومع أفراد المجتمع هو سمات العلماء المتواضعين وهو ما يجب أن يسعى لأن يتمثل فيه كل أستاذ جامعي حيث يشهد بذلك التواجد خارج ساعات المحاضرات من قبل الأساتذة بغرض البذل والعطاء للطلاب بلا حدود وبلا مَنّ ولا أذى؛ حيث الأستاذ يبذل بحب ومتعة فهذه من مواصفات الأستاذ الناجح والمميز التي تؤثر إيجاباً على طلابه وحبه لجامعاته وللعلم وللوطن.

ومن السمات المطالب بها أستاذ الجامعة التعاون مع الزملاء ومع القسم والكلية والجامعة والمجتمع في البرامج المساندة أو التطوعية، وهي كذلك مما يرفع من مكانة الأستاذ ويعلي شأنه ومقامه. وكذلك الإصغاء لحاجات الطلاب ومشاكلهم والمساعدة في حلها وفتح الحوار معهم واحترام آرائهم وتحفيزهم وصقل مواهبهم، والإبداع في طرق التدريس والعدل في التقييم هما أيضاً من أساسيات الصفات والسمات التي يجب أن يمتلكها ويتمثل بها أستاذ الجامعة.

2- وعلى الأستاذ الجامعي الذي يريد التميز والنمو والتطور ألا يكتفي بإعداده للمحاضرات في السنة أو السنوات الأولى أو يكتفي بالترقية لرتبة معينة فيتوقف عن البحث، بل عليه أن يستمر في تطوير ذاته ومعارفه ومهاراته التدريسية والبحثية والاجتماعية إما من خلال التطوير والتدريب والتعليم الذاتي أو من خلال الدورات وورش العمل والمؤتمرات والندوات واللقاءات وغيرها من وسائل ومصادر التعليم والترقي العلمي والأكاديمي والإنساني.

3- وأخيراً إن شعور وإيمان الأساتذة بواجباتهم الأخلاقية لا يغنيان عن وجود نظام فاعل ومؤثر في المحاسبة؛ فإن جدية المحاسبة ترفع من الأداء الفعّال والمميز كما تسهم في رفع مستوى الدافعية للإنجاز والإبداع، ومع إيماني واحترامي وتقديري لزملائي الأساتذة فإن بعضهم يحتاج إلى مثل هذه اللوائح المحاسبية التي تقود إلى الإنتاج وإلى الاستثمار الأمثل للطاقات المعطلة أو المتخاذلة، وإدارات الجامعات القائدة والفاعلة هي التي تشرع في تفعيل الآليات المناسبة لاستخراج أفضل ما لدى هؤلاء الأساتذة ومتى ما تم ذلك فسوف نشهد تطوراً نوعياً يتواءم مع التطور الكمي الملموس.

وفي الختام أرى أن ما ورد من أفكار في المقالات السابقة جدير بالتأمل والدراسة لأنها في نظري تحقق هدف الاستثمار الحقيقي في أساتذة الجامعات وتنمية الوطن.

وبالله التوفيق.

E- mail:zozmsh@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد