Al Jazirah NewsPaper Saturday  09/05/2009 G Issue 13372
السبت 14 جمادى الأول 1430   العدد  13372
الراعي شيحان!
رمضان جريدي العنزي

 

البارحة كنت في مدينة (الخبر) لضرورة ومتطلبات العمل، الجو كان متوسط الرطوبة والمدينة صاخبة وأضواء نيون المحلات والشوارع رقصة غجرية في سماء المدينة وهدير السيارات العابرة موج متلاطم يهدر بأصوات نافذة، الأسواق تعج بالمتبضعين وأطياف من البشر والأجناس يتداخلون بعضهم مع بعض بشكل انسيابي وبلغات مختلفة وسحنات وجوه مختلفة وأهداف تسويقية مختلفة، هناك في الركن المقابل صوت (فيروز) تغني:

(ياداره دوري فينا

ظلي دوري فينا

تينسوا اساميهن

ننسى اسامينا)

أخذني صوت فيروز بعيداً في حلم صغير عابر له لون الخضرة وزرقة السماء وامتداد النشوة وسافر بي إلى مدن مزروعة من حلم وفراش وألوان زاهية وخيول وعربات، لم يوقظني من حلمي الصغير هذا سوى بوق مزعج لسيارة فارهة ذات ألوان متباينة يقودها مراهق أرعن، أخذت نفساً عميقاً وعبرت الشارع الآخر عائداً لغرفتي في الفندق المطل مباشرة على البحر، فتحت النافذة، الهواء عليل والموج يندفع مداً وجزراً برتم إيقاعي يبعث في النفس الراحة والطمأنينة، في العمق المقابل للبحر هناك منارة ترسل وميض نور ترشد البحارة وتدل التائهين، أقفلت النافذة واستلقيت على سريري بشكل قرفصاء، تذكّرت أحداثاً وأشياء كثيرة مضت ووجوهاً كثيرة بعضها رحل والبعض الآخر ما زال يمارس الحياة أولها الراعي شيحان جاءني طيفه بقوة تذكّرت وجهه جيداً وبدقة متناهية ولم أنس حتى ثوبه الرمادي العتيق الذي يحب أن يلبسه في كل ساعة وحين، تذكّرت ذلك وتذكّرت أكثر عندما كنا ذات ليلة شتوية باردة نشحذ الدفء من أعواد (الرمث) الرقيقة اليابسة في أحد تخوم الشمال البعيدة، كنا (نتقرفص) إلى جانب النار كالأفعى وكان هو يتدثّر بفروة رعيانية سميكة وهو اليابس كعيدان الرمث المشتعلة وأنا أتزمل ببشت وبر عتيق أطول مني وأعرض وقتها عندما احترقت أعواد الرمث وحبات (الجلة) أخذ شيحان عصا طويلة وبدأ يجمع كومة الجمر ليضع العجينة التي كان قد أعدها وكانت بحجم فطيرة (البيتزا) مباشرة على الجمر وأخذ يقلّب الجمر على العجينة مباشرة وبهدوء وحرفية و(يملها) تحت الرماد الساخن ليصنع لنا (حرفاً) أي (جمرياً) يطفئ جوعنا، (الحرف) بدا جاهزاً نقره شيحان بعصاه ليزيل ما علق به من جمر ورماد بعدها كسر (الحرف) إلى أجزاء صغيرة ووضعه في صحن صغير وبدأ يخلطه بيده اليمنى ويعجنه بالسمن البلدي الطازج أكلنا حتى الشبع، بعدها شربنا شاياً حاراً أسود حلو المذاق مطبوخاً على الجمر ذاته له نكهة ورائحة النباتات البرية، بعدها تهيأ شيحان للعزف على الربابة المصنوعة من جلد وخشب ووتر وقوس مصنوع من شعر خيل كان لصوته موسيقى جميلة يتردد صداه عبر الوديان المعتمة، وقع صوته حينها أصابني بقشعريرة في بدني تراقص لها أعواد الشيح والقيصوم والنيتول وأوراق أشجار العرعر، بعدها حكى لي شيحان ليلتها لماذا لم يتزوج؟ قال لي عندما كان شاباً كان يضع الكثير من الكحل في عينيه ويتعطّر ويمضي نهاره كله في الوديان والمراعي ماشياً خلف (شويهاته) القليلة منشداً ومغنياً ورافعاً صوته بالهجيني، وأحياناً كثيرة يذهب إلى حفلات الأعراس في بوادي الشمال يرقص (الدبكة) ويقودها هازاً منديله أو مسبحته ذات الخرز الكبير بينما بقية الصف يخبطون الأرض بأقدامهم معاً وبوقت واحد الكتف بالكتف يتمايلون قليلاً من جنب إلى جنب ويحركون ركبهم بطريقة لا شعورية.. قال لي لقد نسيت نفسي طويلاً حتى أحكمت علي السنين قبضتها وبعد فوات الأوان أدركت أن الفتيات لا يقبلن بي ورضيت بالقسمة والنصيب، أكمل شيحان بنبرة حزينة أنا الآن رجل بلغت من السنين عتياً لست مثقفاً ولا أحمل تأهيلاً أكاديمياً أو مهنياً ولا أعرف النظريات الاقتصادية ولا النظم السياسية ولا أميّز بين الدول الرأسماليه والدول الشيوعية ولا أفرّق بين (غورباتشوف) أو (جورج بوش) ولا أعرف العلاقة بين (كافور الإخشيدي) حاكم مصر القديم وبين (المتنبي) الشاعر السقا ولا أعرف علم اللغة أو المحسّنات أو بديع الكلام ولا أفرّق بين الأيدولوجيا والإنثربولوجيا أو الفسيولوجيا والسكيلوجيا ولا ما هي الشنفونيات ولا ما هي المعلّقات ولا ما هم العرب العاربة والعرب المستعربة ولا أهتم بتاريخ السلالات الهندية والسلالات القوقازية أو السلالات الشيشانية والسلالات التركمانستانية وليس لي دراية بعلم المناخ والطقس وتضاريس الأرض وجغرافيتها ولا يضيرني من هو (لينين) ولا من هو (سارتر) ولا الفرق بين (اودينس) شاعر الحداثة أو (ايديسون) مخترع المصباح الكهربائي ولا أفرّق بين العملات المالية ك(الين) الياباني و(الدولار) الأمريكي و(اليورو) الأوروبي ولا أعرف الفن التجريدي ولا الفن الإخراجي ولا الفن الفوتوغرافي ولا حتى علم الألوان والأصباغ ولا أفرّق بين رقصة (الروك اندرول) أو رقصة (السامبا) أو رقصة (الهيبيس) ولا حتى رقصات (الغجر) المختلفة ولا يهمني العراك الانتخابي بين المرشح الديمقراطي (أوباما) وبين المرشح الجمهوري (ماكين) ولا أعي أو أفقه ما هو الركود الاقتصادي والأيام السود التي تجتاح البورصات العالمية نتيجة الانكماش الاقتصادي.. لكنني في النهاية أعرف جيداً تضاريس أرضي وإقليمي وبيئتي الشمالية، سهولها وأوديتها هضابها وجبالها وتلالها وقدرات أهلها، وأعرف أن التنمية في الشمال نصف معاقة تمشي وتتوكأ على عكازين من قصب أو هي كمثل بطة عرجاء، إنني أريد لهذه التنمية كما يريدها ولاة أمرنا أعزهم الله وحفظهم ورعاهم أن تقفز مثل الغزال وثباً وركضاً ولا أريدها كما لا يريدها ولاة أمرنا أدامهم الله مثل السلحفاة تمشي الهوينا وتتوقف، إنني أريد مدن الشمال تنمو كغيرها من المدن الأخرى لتصبح منارات هدى وهدف سكنى لكثير من الناس الذين رحلوا (هجوا) إلى بقية المدن الأخرى بحثاً عن العمل وطلب الرزق ومتطلبات الحياة، إن هذا النمو يتطلب رؤية حقيقية فاعلة وخططاً إستراتيجية قريبة المدى وبعيدة المدى يقودها فريق تنموي متخصص يرسم الاحتياجات الفعلية والضرورية للمنطقة بعد دراسة متأنية وضافية ودقيقة لها شكل السرعة والعجلة وغير قابلة للتسويف والتأخير هذه الإستراتيجيات يجب أن تؤطّر إلى مستويات إنتاج فعلية وبنية تحتية قوية وصلبة، إن المناطق الشمالية الآن تفتقر إلى أبسط مقومات الخدمات الأساسية للمدن الحديثة مثل المياه المحلاَّة والمجاري والشوارع المرصوفة والمصانع والمرافق الإنشائية والشركات والأسواق التجارية الضخمة وسلاسل المطاعم العملاقة والحدائق والمنتزهات وحتى الترقيم الإحصائي للبيوت وتسمية الشوارع، إن مدن الشمال ممثلة في رفحاء والعويقيلة وعرعر وطريف وما بين هذه المدن من مراكز وقرى وهجر تعاني هذا الحرمان منذ أمد طويل، وتحتاج إلى أن يوفر لها الحد الأدنى من متطلبات الحياة الضرورية لمدن حديثة وهذا ما يأمله سكان المنطقة الشمالية وهم بالملايين، إنني أريد كما يريد غيري خطة إستراتيجية عملاقة ومسودة مشروع استثماري عظيم يطرحه أناس من أبناء المنطقة الذين يعونها جيداً من مختلف الأعمار والأجناس والمؤهلات العلمية والخبرات العملية وطبقات المجتمع الفئوية والاقتصادية وأصحاب النفوذ والمراكز يكونوا نشيطين غيورين يخدمون المنطقة ويدركون همومها ويعون متطلباتها ويسعون لجلب رؤوس الأموال وجعل الحراثات والمداحل والونش العملاقة تدك الأرض دكاً ويتطاول الناس في البنيان لكي تدب الحياة في جسد المنطقة وتنتعش النفوس وتنتشي ويعود المهاجرون من المدن الأخرى ليشاركوا في العمل وفي البناء، نعم إن المنطقة الشمالية تمتلك مقومات الحياة والعمل وهي بيئة مناسبة لكنها الآن تعيش ركوداً حركياً غير مبرر وغير معروف، إن الفرص الاستثمارية للقطاع الخاص إذا أتيحت وأزيلت من أمام طريقها كل المعوقات الإدارية واللوجستية فإننا سوف نشهد منطقه شمالية تنهض بالمنشآت الصناعية والاقتصادية لتعود فوائدها الجمة على كافه الفئات الاجتماعية هناك وتخف وتيرة الهجرة ووتيرة البطالة، إننا في بلدنا العظيم نعيش اقتصاداً منفتحاً وجذاباً للاستثمار لما يحتويه من تشريعات حكيمة ومتوازنة بعيداً عن التعقيد يزيد من شهوة المستثمرين الأجانب قبل السعوديين.. لذا أهيب بكل فرد وطني مسئول يملك مقومات الفكر ويعيش على أديم المنطقة الشمالية ويعشق الوطن السعودي الكبير ويفتديه أن يبدأ في كيفيه تأهيل نفسه ومنطقته للتحول لصالح المعركة الوطنية في الإنشاء والتعمير ليخط أكبر نقلة نوعية في مجال الحركة والحياة لمنطقه عانت كثيراً من النسيان والإهمال، إن عملية البناء والتحول تقوم على مبدأ المواطنة بكل أسسها ومفاهيمها وتفرعاتها، وانتعاش المنطقة الشمالية استثمارياً واقتصادياً يحتاج إلى دعم إعلامي مركز وكذلك إلى مجهودات مؤسسات المجتمع المختلفه هذا الدعم الإعلامي والمؤسسي يستهدف نشر وعي جديد بالمنطقة وبإمكانياتها البشرية والاجتماعية والاقتصادية هذا أولاً ويستهدف ثانياً الاستثماري الذي يبحث عن فرص استثمارية يضخ فيها جزءاً من رأس ماله لتعود عليه وعلى الآخرين بالمنفعة والفائدة. إن مستوى الطموح لدي لا يتوقف عند نقطة معينة أو مكان محدد فمهما تقدمنا نطمح بالمزيد فكيف بنا ونحن على هذا الحال المتوقف، إن من حقنا أن نطالب بالتقدّم ومواكبة التطور الحضاري السائد في أغلب أرجاء وطننا الحبيب ولا أعتقد أن ما نطمح إليه صعب أو مستحيل على أصحاب الهمم الجبارة والعقول النيِّرة الذين يبحثون عن مستقبل بناء وهادف، هذا ما قاله لي الراعي شيحان الذي ختم قوله بأنه لا يهتم بنفسه وبالعالم الآخر البعيد بقدر ما يهتم بوطنه الكبير أولاً وبإقليمه ثانياً تنهد بعدها شيحان طويلاً ثم تناول الربابة ليعزف لحناً وطنياً طويلاً يعكس مدى عشقه لوطنه ولتربته وأهله ثم أهداني وردة (ديدحان) حمراء قطفها من ربيع الشمال وطلب مني بحرص أن ألّفها بورق السلوفان المعطّر وإرسالها لوالدنا الحكيم الشهم صاحب القلب الأبيض والهمة الكبيرة والأهداف العظيمة الجليلة وأبلغه بأننا في الشمال نحبه كثيراً وندعو له ونطلب منه الدعم والمساندة وتكرار تفقد الحال.



ranazi@umc.com.sa

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد