Al Jazirah NewsPaper Wednesday  27/05/2009 G Issue 13390
الاربعاء 03 جمادىالآخرة 1430   العدد  13390

إنما هو حبٌّ لك لا تحيُّز ضدك 2-2
وكتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري -عفا الله عنه-

 

والوقفة الثالثة عشرة: لم يُحرِّضني الأستاذ حمد القاضي، ولا قصيدة معاليكم؛ وإنما انتفضتُ غضباً للحق بسبب عربجات خاسئة في الإنترنت أحضرها لي الشباب؛ فلما وعيتها مزقتها.

والوقفة الرابعة عشرة: أعظم به بركةً نبْشَ ذلك المدفون، وما هو إلا الحب لمعاليه باحتفاظي بقصيدته في عدد قديم من جريدة (الجزيرة).. ومنهجي أنني أقص من الجرائد والدوريات التي لن أُبقيها كاملة عندي عن كل أثير لدي، وأرتِّب ذلك في أضابير، ولا أكتفي بجمع مادة الأدب مثلاً، بل أُصُنِّفه؛ فأجعل للشعر أضابير، وللدراسات أضابير، ولتراجم الأدباء أضابير، وللأسلوبية.. إلخ أضابير.. وأما الدوريات التي أقتنيها فأصور منها فهرستَ كل عدد، وأضعه في أضابير، وأُصوِّر الكتب المحقِّقة وأُجِلِّدها مصنفة؛ ليسهل الرجوع إليها.. ومن بركات ذلك النبش أنني حركت ينابيع الدكتور فتدفَّقتْ، وأنه يُثري كتابي عن الدكتور غازي.

والوقفة الخامسة عشرة: أن أول صلتي بمعاليه حفظه الله أنني دُعيتُ إلى حفل ثقافي؛ فضيَّع دليلي الأستاذ سراج الدين إبراهيم رحمه الله المكان، وولج بنا على الدكتور في حفل له مع طلبته؛ فآثرنا البقاء عنده، وظلَّ يدعم مؤلفاتي بوزارة الإعلام لما كان وزيرها، كما ظل هو الأثيرَ في مُوْقي، النفيسَ في مهجتي إلى أن تخلل حبه سويداء القلب - مع مخالفتي له في أشياء يأتي ذكرها إن شاء الله -؛ لإحسانه المتوالي عليَّ وعلى الشيخ أبي تراب الظاهري رحمه الله، وأعظم ذلك رأفته بي لما نُوِّمت بمكة المشرَّفة ثم بجدة؛ بسبب جلطة خفيفة وقاني الله شرَّها بمنه وكرمه؛ فالحمدلله على العافية، وعلى الأجر بالتطهير؛ فإن الله إذا أحب عبده (وكان صابراً شاكراً مُسْتغفراً) أصابَ منه.

والوقفة السادسة عشرة: ذكر معاليه أن في مقالتي غمزاً؛ فراجعتُ مقالتي، وتفقَّدت ذنوبي: فما وجدت سوى موضوع ربما كان هو محل الشك؛ وذلك هو كلامي عن الغزل الإلهي - تعالى الله - عند الصوفية، ومعاليه يميل إلى التصوف، ولا أظن أنه يغلو، وكان يدعو إلى الواجب من حب رسول الله ژ، فظن معاليه أنني أغمز بهذا. قال أبوعبدالرحمن: كفى بالله عليَّ حسيباً أنني لا أُعرِّض إلا بالفجرة من الحلوليين والاتحاديين؛ لهذا أشرح لمعاليه موقفي من التصوف إظهاراً للحق، وهو بحمد الله أقدر على معرفة الحق بما منحه الله من علم ومواهب؛ فالتصوف عندي - وإن لم يكن مصطلحاً شرعياً - على ثلاثة أنحاء:

النحو الأول: تصوُّف على اصطلاح القوم، وإلا فالصوفية ليست من اصطلاح الشريعة، وهو تصوف المحسنين الذين نُشهد الله على حبهم، وهو زُهد: رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزهد صاحبيه رضي الله عنهما، وزهد من هو دونهما من التقشُّف والورع ادِّخاراً لنعيم الله يوم التغابن وتفاوت الملك الكبير، مع الاستمتاع بطيبات الرزق أحياناً، لتعليم الأمة بالإباحة؛ ولفعل المباح.. وفي هذا الزمان في ذنب الدنيا يستحب الزهد مع التوسيع على رعيتك بالرزق.. ولكن أين نحن من ذلك؟؛ فهندامنا أنيق، وهكذا مركبنا ومسكننا ومأكلنا ومشربنا وأثاثنا، وكله بأغلى الأثمان؛ فلا نملك من الزهد إلا شكر المنعِم جل جلاله بالنية والقول والعمل.. وأما حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإحياء سيرته العطرة: فليس من الزهد، بل هو من أوجب الواجبات بلا غلوِّ كما فعل النصارى، ولا جفاء كما فعل اليهود وُضلال النحل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسوتنا، وسيرته تُرقِّق قلوبنا، ومن لم يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس مؤمناً، ولا يكمل الإيمان حتى يكون هو بأبي وأمي أحب إلينا من أنفسنا وولدنا ووالدينا وأهلنا، وكل هذ الحبِّ فرعٌ لا يصح إلا بعد طاعته صلى الله عليه وسلم فيما بلَّغه عن ربه سبحانه وتعالى بوحي مَتْلُو وغيرِ متلو؛ لقوله سبحانه القطعي دلالة وثبوتاً: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (سورة آل عمران/ 31)؛ فحبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حبنا لله، ومن فضله بعد الله علينا بهديه الكريم.. ولكن علينا أن نستحيِيَ من ربنا سبحانه في دعوى حُب كاذبة؛ فنزعم أننا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من صحابته رضوان الله عليهم الذين هم خيار الأمة؛ فنحدث من الطقوس ما لم يحدثوه، وننصرف عن نصوص الشرع القطعية إلى التعبد لله بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، وماشغلهم جلال وجمال السيرة النبوية العطرة عن الإدلاج الطويل لمعرفة أحكام الشريعة، وأداء العبادات المشروعة النافلة والمستحبة.. والضعيف في مثل هذا الموطن باطل؛ لأنه مخالف لنصوص قطعية.. كما لا نتعبد لله بالحكايات والمنامات والأشعار واعتقاد الولاية لمن ليس بولي من مبتدع أو كذاب ليست سيرته سنة نبوية؛ فمن أطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأداء الواجب، وترْكِ المنهيِّ عنه، ومغالبة النفس وجهادها في فعل المستحب وترك المكروه، والتوسُّع بالمباح وشكرِ الله عليه: فقد دخل في صميم الحب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، ودخل الحب في سويداء قلبه، وعصر قلبه الألم في كل مصيبة دنيوية أصابت رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعدائه، ومقت أعدائه ولعنهم بقلبه ولسانه وفعله.. ويهتز طرباً لما أنعم الله على عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ويحب لذلك أحب الناس إليه وإلى نصرته الأقرب فالأقرب من الصِّدِّيق إلى الفاروق إلى بقية العشرة، إلى أهل بيعة الرضوان رضي الله عنهم؛ ويهتز طرباً أيضا لبسمة يبتسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرحه، ويغلب عليه حلم اليقظة بأن تهفو نفسه إلى حضور مشاهِده عليه الصلاة والسلام، فيحلم بأنه فيها؛ لشدة تأثره، وتدمع عينه لما يراه من رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولمواقفه كلما حز به أمر كدعائه اللحوح يوم بدر حتى أشفق عليه أبوبكر الصديق رضي الله عنه.. ثم إن النية التي يصدر عنها الحب نيتان: نية المقصود بالعمل وهو الله سبحانه، ولا تصح ولا تقبل هذه النية إلا بالنية الأخرى وهي (تمييز العمل المقصود)، وهو ما كان عليه أمر الشرع أو نهيه، وهو على قسمين أيضاً: عمل مردود لا يقبل من جهة الثواب، ويُسقِط العقاب عن الترك كمن صلى في دار مغصوبة؛ فصلاته صحيحة على أرجح الأقوال وهو اليقين عندي، وغصبه الدار حرام يُعاقَب عليه ويُسقط أجر صلاته إلا أن يتداركه الله برحمته.. وعمل مردود وفيه وزر، وهو على قسمين أيضاً: عبادة الله بغير ما شرع من الشرك؛ فهذا مخرج من الملة.. واقتراف بدعة لا تخرج من الملة كالمسبحة الألفية مع الأمر بالتسبيح بالأصابع وأنهن مُستنطقات يوم القيامة، وأننا نسبح الله ولا نحصي، وبهذا صح النص الشرعي بالتسبيح بالأصابع، وصح النهي عن التسبيح بالحصى المعدود وهو مثل السُّبحة الألفية.. ويُخشى على من تمادى على البدعة وهو يعلمها سوء الخاتمة؛ لأن لله سبحانه مكراً بمن يمكر به، وفتنة في المحيا والممات.

والنوع الثاني من الصوفية: قوم يُعتذر لهم، ويُحبون لما فيهم من خير، ولا يُتَّبعون فيما أخطأوا فيه كخطرات لبعض الأئمة كسفيان الثوري وإبراهيم بن أدهم، وبعض من ذكرهم أمثال أبي نعيم في حلية الأولياء.. وهكذا من غلبه وجد فنطق بالفناء وشبه ذلك، ولست أرى صواب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن قيم الجوزية (رحمهما الله تعالى، وهما العدوَّان اللدودان للتصوَّف) عندما يبلغ الاعتذار منهما لبعض الصوفية إلى توجيه كلامهم كما في الاستقامة ومدارج السالكين، ولقد أسهبت عن ذلك في أحد كتبي الأخيرة، وأظن أن ذلك في الجزء الأول من كتابي (عبد ربه في المعترك)، وبميزان العدل إن شاء الله - وأسأل ربي صدق القول والعمل - أذكر نماذج من المعادلة؛ فهذا أبوالفيض ذو النون بن إبراهيم المصري رحمه الله تعالى من عباد الله الصالحين العابدين الورعين الزاهدين رُوي عنه أنه جعل من القبيح في الدين أن تعبد الله وأنت تريد ثوابه، بل الطاعة الحقيقية أن يطلَّع الله على قلبك وأنت لا تريد منه شيئاً!!(4)، فمثل هذا أرجو أن لا يصح عنه، وإن صح عنه فهو مصادم لنصوص الشرع؛ فيعتذر له بجهله ولا يتابع عليه؛ ويكذبه قول الله سبحانه وتعالى المعصوم قطعي الدلالة في مدح من هم أفضل عند الله من ذو النون بلا ريب: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (سورة الأنبياء/ 89 -90)، ومثل هذا كثير في الشرع، واجتهد عبدالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم في العبادة وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ لأنه يريد أن يكون عبداً شكوراً، وهو يعلم عِظَم الأجر لمثل هذا الشكر؛ إذ يبلغ في الآخرة درجة لا يبلغها أحد غيره من الثقلين؛ فقول ذو النون بدعة مخالف لما عليه النص الشرعي القطعي المحكم مخالفةَ البديلِ.. وهذه معادلة ثانية: وهي أن شيخ الإسلام أبا محمد إسماعيل بن أبي إسحاق إبراهيم (من الحُفَّاظ أيضاً) ابن محمد الهروي القَرَّاب (وأخو إسماعيل أبويعقوب إسماعيل من الحفاظ أيضاً) (- 414هـ) رحمهم الله تعالى إمام من الأئمة في العلوم الشرعية وفي أكثر من فن، ومن العُبَّاد الزُّهاد، وقد داخله رحمه الله داء التصوف الذي هو فوق البدعي؛ فقال في منازل السائرين عن الدرجة الثالثة من درجات العارفين: (صفاء اتصال يُدْرِج حَظَّ العبودية في حق الربوبية؛ ويُغرْق نهايات الخبر في بدايات العيان، ويطوي خِسَّة التكاليف في عين الأزل)(5).

قال أبوعبدالرحمن: هذه الجُمل لا تُحيل إلى معانٍ معروفة في دين الله، وإنما تحيل إلى معهود كلام الصوفية الاتحاديين الحلوليين الذين يأتي الحديث عنهم، ويحتال بعضُ الخيِّرين من العباد العلماء كأبي محمد إسماعيل نفسه باصطلاح بشري يعني معنى شرعياً؛ فيجعلون الاتصال اتصالاً بلطف الرب سبحانه بعبده المؤمن وحبه له إذا تقرَّب إلى ربه بالعبودية الكثيرة الخالصة، ولكن ماذا نقول عن إدراج حظ العبودية (الذي هو أفعال العباد في عبادتهم لربهم) في حق الربوبية الذي هو أفعال الله في عباده من الخلق والتدبير.. إلخ؟.. والله لا أعرف لهذا معنى إلا اتحاد الرب والمربوب، وهو يؤكد هذا بالسياق؛ إذ تغرق نهايات الخبر الشرعي عن الله سبحانه في بدايات العيان للرب سبحانه الذي سيكون اتحاداً بِغَرَق حظ العبودية في حق الربوبية.. ثم ما هذا التعبير الشنيع الموحش عن أحكام الله الشرعية التي وصفها بِخِسَّة التكاليف؟.. أتكون أحكام الله الشرعية التكليفية خسيسة؟.. (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ).. ثم يؤكد الاتحاد ثالثة يطيِّ الأحكام الشرعية التعبدية في عين الأزل؛ فجعلوا ربهم محلاً لذوبان الخلق في الخالق تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، ثم إن الأزل ليست صفة شرعية توقيفية للرب سبحانه، ونهاية ما تدل عليه (سرمدية الزمن) الذي لا يتصورون له بداية ونهاية، وقد حققتُ هذا رداً على الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في بداية كتاب التوحيد من كتابي (الإكثار في شرح المحلى بالآثار)؛ فماذا قال العلامة العابد أبوعبدالله محمد بن أبي بكر ابن أيوب ابن قيِّم الجوزية (691 - 751هـ) سامحه الله - وبعض القوم يتعبَّد لله بتقليد شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية رحمهما الله بتقليد محض، وتعصُّب أعمى كأنهما نبيان مرسلان معصومان من الخطإ؟ -.. لقد أجهد نفسه رحمه الله في كتابه (مدارج السالكين)؛ ليجد لمثل هذه البلاغم معنى شرعياً، وهذه المرة - مع وضوح الضلال وقطعيته - كان موقفه رخواً عفا الله عنه؛ فقال: ِِوفي هذا اللفظ قلق وسوء تعبير يَجْبُره حسن حال صاحبه وصدقه، وتعظيمه لله ورسوله.. ولكن أبى الله أن يكون الكمال إلا له، ولا ريب أن بين أرباب الأحوال وبين أصحاب التمكُّن تفاوتاً عظيماً، وانظر إلى غلبة الحال على الكليم عليه السلام لما شاهد آثار التجلي الإلهي على الجبل (إذن أهل الحلول يتجلى لهم الرب سبحانه!!)، كيف خرّ صَعِقاً؟.. وصاحب التمكن صلوات الله وسلامه عليه لما أسْرِي به ورأى ما رأى: لم يصعق ولم يخر، بل ثبت فؤاده وبصره!!.. ومراد القوم بالاتصال والوصال اتصال العبد بربه، ووصوله إليه.. لا بمعنى اتصال ذات العبد بذات الرب كما تتصل الذاتان إحداهما بالأخرى، ولا بمعنى انضمام إحدى الذاتين إلى الأخرى والتصاقها بها؛ وإنما مرادهم بالاتصال والوصول إزالة النفس والخَلْق (6) من طريق السير إلى الله؛ ولا تتوهمْ سوى ذلك؛ فإنه عين المحال؛ فإن السالك لا يزال سائراً إلى الله تعالى حتى يموت؛ فلا ينقطع سيره إلا بالموت؛ فليس في هذه الحياة وصول يفرغ معه السير وينتهي، وليس ثَم اتصال حِسِّي بين ذات العبد وذات الرب؛ فالأول تعطيل وإلحاد، والثاني حلول واتحاد؛ وإنما حقيقة الأمر تنحية النفس والخلق عن الطريق؛ فإن الوقوف معهما هو الانقطاع، وتنحيتهما هو الاتصال.. وأما الملاحدة القائلون بوحدة الوجود فإنهم قالوا: (العبد من أفعال الله، وأفعاله من صفاته؛ وصفاته من ذاته)؛ فأنتج لهم هذا التركيب أن العبد من ذات الرب تعالى الله وتقدس عما يقولون علواً كبيراً.. وموضع الغلط أن العبد من مفعولات الرب تعالى لا من أفعاله القائمة بذاته، ومفعولاته آثار أفعاله، وأفعاله من صفاته القائمة بذاته، فذاته سبحانه مستلزمة لصفاته وأفعاله، ومفعولاته منفصلة عنه(7).. تلك مخلوقة محدثة، والرب تعالى هو الخالق بذاته وصفاته وأفعاله؛ فإياك ثم إياك والألفاظ المجملة المشتبهة التي وقع اصطلاح القوم عليها؛ فإنها أصل البلاء، وهي مورد الصديق والزنديق؛ فإذا سمع الضعيف المعرفة والعلم بالله تعالى لفظ (اتصال وانفصال، ومسامرة، ومكالمة، وأنه لا وجود في الحقيقة إلا وجود الله، وأن وجود الكائنات خيال ووهم، وهو بمنزلة وجود الظل القائم بغيره) فاسْمَعْ منه ما يملأ الآذان من حلول واتحاد وشطحات.. والعارفون من القوم أطلقوا هذه الألفاظ ونحوها، وأرادوا بها معاني صحيحة في أنفسهم(8)، فغلط الغالطون في فهم ما أرادوه، ونسبوهم إلى إلحادهم وكفرهم.. واتخذوا كلماتهم المتشابهة تُرساً لهم وجُنة حتى قال قائلهم:

ومنك بدا حب بعزٍّ تمازجاً

بنا ووصالاً كنت أنت وصلته

ظهرت لمن أبقيت بعد فنائه

وكان بلا كون لأنك كُنْته

فيسمع الغِرُّ التمازج والوصال؛ فيظن أنه سبحانه نَفْسُ كونِ العبد(9)، فلا يشك أن هذا هو غاية التحقيق، ونهاية الطريق.. ثم لنرجع إلى شرح كلامه (يعني شيخ الإسلام إسماعيل الهروي).. وقوله (يُدرج حظ العبودية في حق الربوبية) المعنى الصحيح الذي يُحمل عليه هذا الكلام أن من تمكن في قلبه شهود الأسماء والصفات، وصفا له علمه وحاله: اندرج عمله جميعه وأضعافه وأضعاف أضعافه في حق ربه تعالى ورآه في جنب حقه أقل من خردلة بالنسبة إلى جبال الدنيا؛ فسقط من قلبه اقتضاء حظه من المجازاة عليه؛ لاحتقاره له، وقلته عنده، وصغره في عينهِِ (10)، ثم قال ابن قيم الجوزية مفسِّراً كلام الهروي رحمهما الله تعالى: ِِقوله: (ويعرف نهايات الخبر في بدايات العيان) الخبرُ متعلَّق الغيبِ، والعيان متعلَّق الشهادة، وهو إدراك عين البصيرة لصحة الخبر، وثبوت مَخْبَرِه(11) ومراده ببدايات العيان أوائل الكشف الحقيقي الذي يُدخَل منه إلى مقام الفناء(12)، ومقصوده أن يرى الشاهد ما أخبر به الصادق بقلبه عياناً(13).. قال الله تعالى: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) (سورة سبأ/ 6)(14)، وقال تعالى: (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ) (سورة الرعد/ 19)؛ فقد قال: (أفمن رأى بعين قلبه أن ما أنزل الله إلى رسوله هو الحق كمن هو أعمى لا يبصر ذلك؟)(15)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في مقام الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه) ولا ريب أن تصديق الخبر واليقين به يُقوِّي القلب حتى يصير الغيب بمنزلة المشاهدة بالعين(16)، فصاحب هذا المقام كأنه يرى ربه سبحانه فوق سمواته على عرشه مُطَّلعاً على عباده ناظراً إليهم يسمع كلامهم ويرى ظواهرهم وبواطنهم، وكأنه يسمعه: وهو يتكلم بالوحي، ويكلم به عبده جبريل، ويأمره وينهاه بما يريد، ويدبر أمر المملكة(17).. وأملاكه صاعدة إليه بالأمر، نازلة من عنده به.. وكأنه يشاهده وهو يرضى ويغضب ويحب ويبغض، ويعطي ويمنع، ويضحك ويفرح، ويثني على أوليائه بين ملائكته، ويذم أعداءه.. وكأنه يشاهده ويشاهد يديه الكريمتين وقد قبضت إحداهما السموات السبع، والأخرى الأرضين السبع، وقد طوَى السموات السبع بيمينه كما يطوى السِّجلُّ على أسطر الكتاب.. وكأنه يشاهده وقد جاء لفصل القضاء بين عباده؛ فأشرقت الأرض بنوره ونادى وهو مستوٍ على عرشه بصوت(18) يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قرب: (وعزتي وجلالي، لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم).. وكأنه يسمع نداءه (سبحانه وتعالى) لآدم (عليه السلام): (يا آدم: قم، فابعث بَعْث النار بإذني الآن، وكذلك نداؤه لأهل الموقف (مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) (سورة القصص/ 65)، وماذا كنتم تعبدون؟(19)، وبالجملة فيشاهد بقلبه ربّاً عرَّفت به الرسل كما عرفت به الكتب، وديناً دعت إليه الرسل؛ وحقائق أخبرت بها الرسل؛ فقام شاهد ذلك بقلبه كما قام شاهد ما أخبر به أهل التواتر وإن لم يره من البلاد والوقائع؛ فهذا إيمانه يجري مجرى العيان، وإيمان غيره فمحض(20) تقليد العميان.. وقوله: (ويطوي خسة التكاليف) ليت الشيخ عبَّر عن هذه اللفظة بغيرها، فو الله إنها لأقبح من شوكة في العين، وشجى في الحلق.. وحاشا التكاليف أن توصف بخِسَّة، أو تلحقها خسة؛ وإنما هي قرة عين، وسرور قلب، وحياة روح.. صدَر التكليفُ بها عن حكيم حميد؛ فهي أشرف ما وصل إلى العبد من ربه، وثوابه عليها أشرف ما أعطاه الله للعبد(21).. نعم لو قال: (يطوي ثقل التكاليف، ويخفف أعباءها)(22) ونحو ذلك فلعله كان أولى، ولولا مقامه في الإيمان والمعرفة والقيام بالأوامر لكنا نسيئ به الظن(23).. والذي يحتمل أن يصرف كلامه إليه وجهان:

أحدهما: أن الصفاء المذكور في هذه الدرجة لما انطوت في حكمه الوسائط والأسباب، واندرج فيه(24) حظ العبودية في حق الربوبية: انطوت فيه(25) رؤية كون العبادة تكليفاً؛ فإن رؤيتها تكليفاً خسة من الرائي(26)، لأنه رآها بعين أنَفَته وقيامه بها، ولم يرها بعين الحقيقة؛ فإنه لم يصل إلى مقام (فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي)(27)، ولو وصل إلى ذلك لرآها بعين الحقيقة، ولا خسة فيها هناك ألبتة؛ فإن نظره قد تعدى من قيامه بها إلى قيامها بالقيوم الذي قام به كل شيئ؛ فكان لها وجهان: أحدهما هي به خسيسة وهو وجه قيامها بالعبد وصدورها منه(28)، والثاني هي به(29) شريفة وهو وجه كونها بالرب تعالى وأوليته أمراً وتكويناً وإعانة (30) فالصفاء يطويها من ذلك الوجه خاصة(31).. والمعنى الثاني الذي يحتمله كلامه أن يكون مراده أن الصفاء يُشهده عين الأزل(32)، وسَبْقَ الرب تعالى، وأوَّليته لكل شيئ؛ فتنطوي في هذا المشهد أعماله التي عملها، ويراها خسيسة جداً بالنسبة إلى عين الأزل؛ فكأنه قال: (تنطوي أعماله، وتصير بالنسبة إلى هذه العين خسيسة جداً لا تذكر(33).. بل تكون في عين الأزل هباء منثوراً لا حاصل لها(34)؛ فإن الوقت الذي هو طرف التكليف يتلاشى جداً بالنسبة إلى الأزل، وهو وقت خسيس حقير(35) حتى كأنه حاصل له، ولا نسبة له إلى الأزل والأبد في مقدار الأعمال الواقعة فيه، وهي يسيرة بالنسبة إلى مجموع ذلك الوقت الذي هو يسير جداً بالنسبة إلى مجموع الزمان الذي هو يسير جداً بالنسبة إلى عين الأزل؛ فهذا أقرب ما يُحمل عليه كلامه مع قلقه، وقد اعتراه فيه سوء تعبير، وكأنه أطلق عليها الخسة لقلتها وخفتها بالنسبة إلى عظمة المكلِّف بها سبحانه وما يستحقه (والله سبحانه أعلم))(36).

قال أبوعبدالرحمن: يا بعض مشايخي في مملكتنا الحبيبة.. يامن تسيئون الظن بمن نقد شيئاً من كلام ابن قيم الجوزية أو شيخه ابن تيمية في شيئ من العقيدة أو الأصول أو الأحكام العملية: كونوا على مقالتكم: (الحق يُعرف ببرهان المقال لا بأحوال الرجال)، وانتفعوا بقول ابن قيم الجوزية رحمه الله الذي مضى آنفاً: (ولكن أبى الله أن يكون الكمال إلا له)، وابن تيمية وابن قيم الجوزية وابن حزم وغيرهم رحمهم الله داخلون في معنى هذا القول؛ فلا يحملنكم كثرة خيرهما وصوابهما وعبادتهما وجهادهما على التسليم لهما بكل قول؛ فتدَّعون لهما العصمة وأنتم لا تشعرون.. يامن تُضللون أحياناً من خالف ابن تيمية وابن قيم الجوزية رحمهما الله تعالى، أو خالفهما من أذكياء العلماء ومن أهل التخصص: اعلموا حفظكم الله أن ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية رحمهما الله يخالفون تارة أو يخالفهما مَن كان البرهانُ في جانبه يقيناً أو رُجحاناً كمتابعتهما لإمام السلف الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله تعالى، ولكن إمامته للمنتسبين للسلف في زمنه ومن جاء بعدهم، وكلهم محكومون بالسلف قَبْلهم.. إنها مُتابعة بغير تدقيق في الحكم بأن من توقَّف في القول بأن القرآن غير مخلوق واقفي مُنْتَقَد.. مع أن الحق تضليل من قال: (القرآن مخلوق)، وتضليل من قال أيضا (القرآن غير مخلوق)؛ لأنه ينفى المعنى الآخر من معنيين لا يحتمل العقل والحس والشرع غيرهما؛ فوجب التوقُّف، وكيف لا يتوقَّف من لا يجد نّصاً في المسألة؟.. بل وُجِدَ الإمام أحمد رحمه الله تعالى بعد أحداث الجعد بن درهم مقالته مسبوقاً بإجماع السلف على ترك الخوض في المسألة، والتحريمِ للقَفْوِ بغير علم؛ فمن جاء ببرهان على تعيُّنِ أحد الطرفين قبلتُ منه وأنفي راغم.. ومن ذلك جَزْمُ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أن الأسباط ذرية يعقوب عليه السلام بإطلاق، والصواب أن الأسباط يراد بهم ذرية يعقوب عليه السلام في موضع، ويراد بهم في موضع آخر الرسل والأنبياء من ذرية إبراهيم الخليل عليهم الصلاة والسلام.. والأسباط وقت التنزيل للذكور من الذرية وذريتهم، ثم خَصَّص العرفُ اللغوي بعد التنزيل السبطَ لأبناء البنت مهما نزلوا، وكإنكارهما المجاز بإطلاق، وكاتباعهما للإمام أحمد وإسحاق رحمهما الله بأن الله خلق آدم على صورة الرحمن بلا تدقيق، وهو مخالف لبراهين أذكياء العلماء ومنهم ابن خزيمة رحمهم الله تعالى، وهو عندهما إمام الأئمة، ومخالف لإجماع السلف أن الله ليس كمثله شيئ، والرواية الشاذة التي احتجوا بها ضعيفة، وهي في هذا الموطن باطلة؛ لمخالفتها للقطعي، ولهذا حملها البيهقي والقرطبي في كتاب الصفات رحمهما الله تعالى - لو صحَّتْ - على وَهْمِ الراوي في فهم المعنى، والاحتجاج بما أحدثه الملحدون في التوراة لا يجوز؛ وذلك هو نص (نخلق بشراً يشبهنا)؛ لأن القطعي من ديننا نَفَى ذلك؛ فكان في حق الرب سبحانه إلحاداً، وقد أفضتُ في ذلك في أجوبة أسئلة جريدة المدينة التي هي الآن قيد النشر.. وتارة يكون الحق معهما رحمهما الله يقيناً أو رجحاناً وإن كثر المخالِف كقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (لا أول لمخلوقات الله إلا أنها مسبوقة بوجوده وتدبيره سبحانه وتعالى)؛ فهذا هو الحق؛ لأن الله جل جلاله غير معطَّل لحظة عن الخلق والتدبير والهيمنة، وهذا بخلاف ضلال ابن رشد الحفيد في القول بِقدم العالم؛ فذلك قِدَمُ مَعِيَّة، وياله من كفر!!.. ومثل قولهما في الطلاق البدعي، وفي عدم قضاء صلاة من تركها عمداً من غير عذر حتى خرج وقتها، فلا سبيل له إلا التوبة، والاستكثار من الخير؛ فذانك هما الحق.. وجزى الله ابن قيم الجوزية خيراً ورحمه في براءته من أهل الحلول والاتحاد، ورده عليهم فيما سلف من كلامه وفي جمهرة كتبه، ولكن كلام ابن قيم الجوزية نفسه فيه أخطاء جسيمة أخَفُّها أنه تمحَّل في توجيه كلام سافل ضلالي؛ ليجد له مخرجاً شرعياً ولغوياً؛ لأجل إمامة الهروي رحمه الله وورعه؛ وبهذا التمحُّل يجوز لأهل كل كفر وبدعة أن يؤولوا ضلالهم بمعانٍ مخترعة.. والحق في هذا تخطئة الهروي رحمه الله بعزم وجزم واتكال على الله، والدفاع عن إمامته بأنه أحسن الظن بكلام أهل الحلول والاتحاد المخادعين بالعبارات العائمة؛ فأورده وله محمل صحيح عنده لم يفسره.. ومن أخطاء ابن قيم الجوزية الشنيعة ههنا أنه جعل عبدالله ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم من أهل التمكن، وجعل موسى الكليم عليه السلام من أهل الأحوال.

قال أبوعبدالرحمن: والله الذي لا إله إلا هو قسماً براً إن موسى عليه السلام وجميع أنبياء الله ورسله عليهم أفضل الصلاة والسلام كلهم من أهل التمكن في العلم بالله إلا أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق، وقوله صلى الله عليه وسلم : (لا تفضلوني على يونس بن متى) عليه الصلاة والسلام من كمال عبوديته، وتواضعه لإخوانه من النبيين والمرسلين.. ومن كمال عبوديته ترحُّمُه على أخيه لوط عليهما الصلاة والسلام، ثم معارضته له بقوله: (والله إنه ليأوي إلى ركن شديد).. وليس عندنا يقين أن الله سبحانه وتعالى لو تجلَّى لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم فلن يخرِّ صعقاً؛ فعظمة الله فوق الظنون، وقد جاء عليه الصلاة والسلام إلى خديجة رضي الله عنها وقلبه يرجف لنزول الوحي.. وثبات جنانه عليه الصلاة والسلام في الإسراء في مشاهدة الأهوال باختيار من ربه لا بطلب منه؛ فأراه آياته وثبَّته.. وإن كان قصد ابن القيم الجوزي رحمه الله أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه في الإسراء كما في حديث أنس رضي الله عنه في صحيح البخاري الذي بالغ ابن حزم رحمه الله في نفيه وقال: (إنه موضوع(37)، فليس كذلك، بل هو وهم وخطأ من أحد تلامذة أنس رضي الله عنه الذي خالف جميع الثقات الرواة عن أنس، وخالف الأحاديث الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه عن ربه سبحانه وتعالى: (نورٌ أنَّى أراه؟!)، وقول عائشة رضي الله عنها: (لقد أعظم الفرية على الله من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه).. كما أن تلميذ أنس رضي الله عنه الشاذ عن ثقات رواة أصحابه توهَّم أن (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (سورة النجم/ 9)، وأن (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى) (سورة النجم/ 8) راجعٌ للرب سبحانه وتعالى، ولا يصح إلا أن ذلك جبريل عليه السلام، ولا يليق هذا الوصف برب العزة والجلال.. ومن أخطاء ابن قيم الجوزية رحمه الله أنه كرر (أحوال العارفين) التي هي اصطلاح صوفي، وأدرج موسى عليه الصلاة والسلام وكرَّمه في سياق أصحاب الأحوال.. وليس في شريعة الله أحوال غيبوبةٍ وفناء وهلوسة؛ وإنما تلك الأحوال: إما شيطانية، وإما دعاوى كاذبة.. وبعض الكذبة يتناول مثلاً قطعة (أفيون)؛ لتحصل له حال!!.. وأعبد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم (وهو في غاية خشوعه لربه سَويٌّ بأبي هو وأمي ليست له أحوال كهذه)، وحال موسى عليه السلام حال آية كونية من ربه، إذ تجلَّى ربه، ودعاوى التجلي عند الصوفية إما حال شيطانية وإما كِذْبة دجَّال أَفْيوني.

قال أبو عبدالرحمن: ليس هذا مجال إطالة، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، وفي كلام ابن قيم الجوزية رحمه الله وتأويله واعترافه بالأحوال والمعارف والمقامات بمقابِل التمكُّن من المعرفة الشرعية محل نقد كثير، بل في سائر مجلدات (مدارج السالكين)، مجال للنقد أكثر، ولا ينبغي لمسلم أن يُزكِّي هذا الكتاب إجمالاً مهما كان علم ابن قيم الجوزية وورعه، بل يعتذر له بأنه حَمَل أحوال العباد الزهاد على أحسن الوجوه لورعهم(38)، فيقبل من تأويله ماله وجه، ويُرَدُّ مالا وجه له لغة وشرعاً وضرورةَ عَقْلٍ، وتأويل ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى جميل لو أمكن تأويل كل مقالة بما تدل عليه اللغة والشرع، ولا ينفيه لغة ولا شرع ولا ضرورة عقل، وإنما أتكلم ببرهان، وإيثار للحق غير مبالٍ بأحدِ حتى لو كان في ذلك منيَّتي، فمن حاجَّني ومعه برهان حقِّ غاب عني، وقدر على إبطال براهيني خضعتُ له وقبلتُ منه، ومن حاجَّني بالتهويش والتهويل والعصبية، وادعاء العصمة لعالمٍ ما فسأمسك عن محاجَّته، وأقول: (حسبنا الله ونعم الوكيل)؛ فإن التقليد بلا برهان والحمية والعصبية للمذهب داء بلي به كثير منا، فتدرَّب عليه الصغير، وهَرِم عليه الكبير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ويكفي هذا القدر من المعادلة، وفي جعبتي ما تتسع له طروس. والفئة الثالثة: هم أهل التصوف من أهل الحلول والاتحاد، ونحلتهم خارجة عن ملة الإسلام، متنقِّصة لرب العالمين بدعوى واحديَّةٍ في الوجود تلغي خالقاً ومخلوقاً، وبدعوى تولُّد الخلق الذي هو مظهر من الخالق الذي هو جوهر؛ فسبحان الله وتعالى علواً كبيراً، ولعن الله هذا المذهب وقبَّحه، وأما تكفير القائل بهذا المذهب فالذي أدين لله به في بعض المسائل أنه لا تلازم بين الكفر والتكفير، فتكون العقيدة كفراً، ويكون المعتقد (بصيغة الفاعل) عنده شبهة؛ فيلزم إزالتها؛ فإذا التزم ما يلزمه بلا حجة جاز تكفيره في الدنيا، ولا نشهد بجنة ولا نار إلا لمن شهد له الشرع؛ لأننا لا نعلم حسن الخاتمة.. وأما في مثل هذا الموضع فالتفكير دنيوياً واجب؛ لأنه أمر لا يُعذر أحد بالجهل به؛ ولأن الشرع المُحْكَمَ الذي هو هداية للعقل جاء بالحق الصريح المحكم المنافي للحلول والاتحاد(39)، ولأن العقل قبل الشرع مطالب بالإيمان الإجمالي بكمال الرب سبحانه؛ ببراهين أن كل الرسل عليهم الصلاة والسلام قبل تبليغهم تفاصيلَ الشرع حاجُّوا قومهم بما في نفوسهم من مسؤولية الفؤاد والسمع والبصر - والفؤاد محل الاعتقاد -بما في الأنفس والآفاق من براهين ولأنه لم يخل زمن من نبي مرسل عُلِم دينُه إجمالاً بالتوار، وَوُجِدت آثار الهالكين المعَاقبين من قومه بسبيل مقيم، وإلى لقاء إن شاء الله مع (أدبيات الدكتور)، ثم لقاء ثالث مع (أدبيات الظاهري)، والله المستعان.

(4) انظر حلية الأولياء 9-340/ دار الكتب العلمية ببيروت.

(5) مدارج السالكين لابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى 3-175/ دار الحديث بالقاهرة.

(6) قال أبوعبدالرحمن: يعني عن طريق المتصوِّفين السائرين أهل الأحوال كما سيأتي من كلامه.

(7) قال أبوعبدالرحمن: ليته رحمه الله جاء بهذا المنطق عن الكلام والتكلُّم والتكليم؛ ليمنع من أحداث قول في مسألة القرآن مسبوق بسكوت السلف قبل إظهار الجعد بن درهم مقالَتَه.

(8) قال أبوعبدالرحمن: كلا لا تصحُّ إلا بخروجٍ عن دلالة اللغة ومعهود الشرع مفردة وسياقاً.

(9) قال أبوعبدالرحمن: عبارة ملتوية، والأوضح (نفسَه العبدُ نفسه).

(10) انظر مدارج السالكين 3-157 - 159.

(11) قال أبوعبدالرحمن: مخبر بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وكسر الراء، والمراد معنى الخبر الشرعي.

(12) قال أبوعبدالرحمن: من أين جاءت كلمة الفناء رحمك الله؟!.. وأنتَ الحبر العلامة العابد الحريص على سد الذريعة.

(13) قال أبوعبدالرحمن: يرى المؤمن المحسن ربه بعين قلبه بمعنى خلوص الكمال سبحانه له، وبراءته من كل نقيصة، ولا تناهي بركاته وألطافه.. وأما تصوُّر الذي حجابه النور سبحانه فهو في منتهى الجلال عن وساوس الظنون.

(14) قال أبوعبدالرحمن: يوقنون بها بالبرهان العلمي، ويعبدون الله كأنهم يرونه؛ لعلمهم بأنه الرقيب المهيمن، ولمعرفتهم بمعاني الكمال والقدسية.. لا أنهم يرونه بأعينهم، أو يتمثَّلُونه في قلوبهم.. والنص عن القرآن لا عن الله سبحانه.

(15) قال أبوعبدالرحمن: انظر التعليقة رقم (19).

(16) قال أبوعبدالرحمن: بمنزلة المشاهدة في اليقين، لا بمنزلتها مماثلةً في الرؤية.

(17) قال أبوعبدالرحمن: هذا علم يقين لا يشابه علم الشهادة؛ فلا نزال محجوبين عن عيان ماسيأذن الله بالعلم به من غيبه سبحانه، وما سيأذن الله بعلمه في الآخرة فوق ما علمه إيماننا العلمي اليقيني في الدنيا.

(18) قال أبوعبدالرحمن: ليس عندي الآن فراغ لمراجعة مخارج هذا الحديث؛ فليراجع غيري، وانظر تعليقتي رقم (19).

(19) قال أبوعبدالرحمن: يريد ما في هذا المعنى كقوله تعالى: ( أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ) (سورة الأنعام/ 22).

(20) قال أبوعبدالرحمن: لم يرد ما يقتضي الفاء في (فمحض).

(21) قال أبوعبدالرحمن: تعدية (العبد) مباشرة أفصح.

(22) قال أبوعبدالرحمن: لو قال ذلك لبقينا في بلايا ما مضى من كلامه.

قال أبوعبدالرحمن: بل لا نزال نقول: خُدِعَ بأقوال حلولية اتحادية ظن أن لها وجهاً شرعياً، ولم يُبيِّنه.

(23) قال أبوعبدالرحمن: الصواب (فيها)؛ لأن الضمير للدرجة.

(24) قال أبوعبدالرحمن: انظر التعليقة الماضية مباشرة.

(25) قال أبوعبدالرحمن: كلا!.. إنما عبارته صريحة في خسة التكاليف نفسها، وليست وصفاً للرائي، وحاشا للمؤمنين أن يعتقدوا خسة التكاليف.

(26) قال أبوعبدالرحمن: هذا حديث قدسي كريم شريف، وهو حتماً على المجاز الذي ينكره ابن قيم الجوزية وشيخه رحمهما الله تعالى.

(27) قال أبوعبدالرحمن: انظر تعليقتي رقم (31).

(28) قال أبوعبدالرحمن: يعني تعلُّقَ التكاليفِ أداءً بالعبد المربوب.

(29) قال أبوعبدالرحمن: يعني شَرَفَ صدور التكاليف عن الله سبحانه وتعالى.

(30) قال أبوعبدالرحمن: هذان تأويلان أرعنان، فصدور العبادة من العبد شرف له لا خِسَّة فيه، وهو يعتقد وجوباً أنها تكليف من ربه سبحانه وتعالى بما يُطاق.. والتأويل الثاني صحيح، ولكنه خارج محل النزاع، لأن المنكر وصف التكاليف بالخِسَّة، وهي فضل وشرف، وليست خسة بأي وجه.. ولم أضع علامات الترقيم حتى لا يتداخل تقسيمه الأول مع تقسيمه الثاني.

(31) قال أبوعبدالرحمن: ما هذا؟.. الأزل إنما هو الزمان السرمد، وليس في حق الله سرمد، فكله مسبوق به سبحانه، مضبوط بعلمه، والنص عن (الأول) سبحانه لا عن الأزل المولَّدة بعد التنزيل.

(32) قال أبوعبدالرحمن: إن كان لا بد من هذا التأويل الأرعن فهو يَسْتَقِلُّها ولا يَسْتَخِسُّها.

(33) قال أبوعبدالرحمن: لا يذهب العمل عند الله هباء إلا ما أحبطه الشرك.

(34) قال أبوعبدالرحمن: وقت العبادة يوصف عند المحسنين بالقِلَّة لا بالخِسَّة.

(35) مدارج السالكين 3-160 - 163.

(36) قال أبوعبدالرحمن: رددتُ على ذلك في الرسالة التي حققتها لابن حزم عفا الله عنه وطُبعتْ، وهي عن دعواه أن في الصحيحين حديثين موضوعين!!.

(37) قال أبوعبدالرحمن: في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن الصوفية بكتابه (الاستقامة) تأويل لبعض أخطاء الصوفية، ولكنه أقل تكلُّفاً.

(38) قال أبوعبدالرحمن: انظر عجالة كافية في هذا بكتابي عبدربه في المعترك 1-25 - 67، وجميعَ كُتَيِّبي (شيئ من العبث الصوفي)، و(ملاعب الوثبة).


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد