Al Jazirah NewsPaper Wednesday  27/05/2009 G Issue 13390
الاربعاء 03 جمادىالآخرة 1430   العدد  13390

السجن ليس شراً بالمطلق
عبدالمحسن بن علي المطلق

 

أقول في حق من سُجن ظلماً، أو وقع لظرف جال حياته.. فأنهاه إلى ذلك، أو حتى من مطامع نفسه فإنها: (لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ) (يوسف: 53) أو كان للشيطان عليه سبيل حتى أوقعه بأسوأ أعماله.

إن ليس في ذاك من عيبٍ ولا مشينةٍ ولا سوأة تعلق به حتى مماته، أبداً.. فكم وقع بخطيئة و(كل ابن آدم خطاء) كما أخبر حبيبنا صلى الله عليه وسلم أواسط القوم، فتابوا وأنابوا و(من تاب تاب الله عليه) الحديث، بل إن منهم حين جاهدوا أنفسهم بعدها، بلغوا المكانة السامية بين أقرانهم.

وهنا يقول د. عبدالكريم بكار: (حياتنا الاجتماعية أشبه ببحيرة صغيرة، يرفدها الناس بأعمالهم، فمنهم من يصب فيها ماء الورد من خلال العطاء والاستقامة والتسامح. ومنهم من يلوثها بالمياه القذرة من خلال المعاصي وأكل الحقوق والجفاء، ولكل واحد منا أن يسأل نفسه: إلى أي الفريقين ينتمي؟).

وحين سأل طفيلي عمرو بن العاص: من أُم الأمير؟ - وكانت جارية- فقال له: (هي أمة من المسلمين، فإن كان من في قلبه مرض جعل لك في قول هذا جُعلاً، فخذه هنيئاً مريئاً).. وهذا جواب الواثق من نفسه.. لكن بالمقابل نحث أولئك على الصبر، وتحمّل حماقات أولئك، أو أخذ ما يتفوّهون به بعدم المبالاة، فإنه (لا يُقيم الانتقام إلا في العقول الصغير) - كذا قال د. بلير-

ثم.. إن هذا (المكان)- أي: السجن: (إصلاح وتهذيب.. وتأديب).. هكذا يُعرف لدى أهل الاجتماع، وسوف يأتي تقريبٌ لهذا.

أما لدى أهل المسؤولية المباشرة فهو كما يقول في تعريفه، أو وضع النقاط بالفعل على حروفه: رجل الأمن الأول نايف بن عبدالعزيز: (السجن ليس إقصاءً أو انتقاماً، بل هو محطة من المحطات التي يُراجع بها المسيء حساباته مع نفسه، فيطهرها من العوائق والرذائل، أو الشرور التي أتت به إليه).

الداعي:

أُثري عن هذا (العارض) تيمناً وتبيناً لما قدّمه برنامج (السلام عليكم) في قناة (اقرأ) في حلقته المبثوثة - أو المعادة- ذات يوم موضوع مهم يوازيه ضيف البرنامج الداعية (د.عائض القرني) حفظه الله ألا وهو: (عودة السجين بعد أن قضى عقوبته إلى المجتمع وما يلاقي في الغالب من عدم قبول تؤول به - بعدها- إلى أن يعود إليه كرة أخرى، لما ينتج لديه (نبذاً) من تلقاء عامة الناس ما يصيره إلى حماقة صنيع - كردة فعلٍ - إلى مكان ما خرج منه)!.

فالعقوبة الأولى - التي نحسبها مكفرة له دنيا وآخرة: التي تتمثل في سجنه: خاصة حال التأكد من صدق توبته وحسن أوبته، قد لا تكفيه بنظر قاصري النظر، فيردفوها بعقوبة ثانية تأتي إما بالنبز أو النفور أو...الخ، فتكون ك(السيف المسلّط) على رقبته، من أعين الرقباء - من أولئك-.

ولهذا نجد الأدب النبوي حين أتى بشارب خمر، فقيل فيه (.. ما أكثر ما يؤتي به) دافع عنه الرحيم بأمته صلى الله عليه وسلم: (إنه يحب الله ورسوله) وكفى بها له.. شهادة، كما وقصة تلك التي رُجمت، وحين تمتم أحدهم بها نهره المربي الأول صلى الله عليه وسلم ب: (لقد تابت توبة لو قُسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم).

وهنا نذكر ولا ننسى أن (السجن) لا يخلو من المظلومين وهم على نوعين: إما ظلم في العقوبة كما حدث ليوسف عليه السلام: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) (سورة يوسف: 33) هذا إذا خيّر العبد بين سيئتين، فيختار عندها إما الأهون منهما، أو الأزكى لدينه وخُلقه أو ابتلى بظروفٍ أوقعته بما طالت يده، إما لعدم وجود الموجه المربي الراعي ال..الخ، فتعلّم خطأ.. أوقعه في شر صنيعه، وهكذا.

وهنا.. علينا أن نوضّح ماهية (السجن):

هو مكان تمحيص له، أو بمثابة دورة تأديب زاجرة له عما ارتكبه.

ولهذا.. قيل في تعريفه: (تأديب وتأهيل وإصلاح).

ف:تأديبها: تأديب للنفس، وأطرها على الحق وإذ عانها للسلوك الشرعي، أو ذاك الذي تواطأ على صوابه المجتمع.

وتهذيبها: أي تهذيب السلوك إلى كل نافع للنفس.

وإصلاحها: وهو ضد الإفساد، أي إصلاح ما عطب من أعمال منحرفة، أو عطب نفسيِّ، كبعض الأمراض التي عند المرء فلا يكتشفها، فإنا نعرف -من الأطباء النفسيين - أن هناك من يسرق وهو غني، أو يسرق بدون شعوره!!

إذا هي (مرحلة) عمرية كانت - مكاناً- ك: ثمن للخطأ، ثم عاد (عضواً) بالمجتمع.. صالحاً (بإذن الله).

لكن لابد هنا من ذكر علامات على التوبة هذه، ومدى صدق صاحبها بها، كخروجه بحسن سيرة وسلوك، أو بنصف المدة - استفادة من هدية ملكية عزيزة: (حفظه للقرآن الكريم) التي أسأل الله أن لا يحرم الملك فهد أجرها، فهي سُنة أقامها، وتُحسب له.. رحمه الله.

فنقول: كفى بكتاب الله (لحامله) تأديباً، بل ما إقدامه ثم اقتداره بأطرٍ همته على فعل ذلك.. إلا لخير به أو راده الله له، وقد قال تعالى: (إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا) (الأنفال: 70)، يوفّقهم لذلك، وقياساً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من يُرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، صدقاً في التوبة وحُسنا للأوبة إلى المجتمع.

فهو (بمقام) الحدود: التعزيرية - كما فعل عمر رضي الله عنه بإيداعه الحطيئة بالبئر - حتى استعطفه بأطفاله.. مُتشفعاً إليه بأبيات حتمها ب:

ألقيت كاسبهم في (بئرٍ) مُظلمة

فاغفر عليك سلام الله يا عمر

وهذه من الأمور التي أرسل بها الشارع المصلحة ومقتضاها بما يراه ولي الأمر.

كما.. وكفى به كفارة، فإنه ليس من السهل أن يُكبل المرء داخل أربعة حيطان، وبحيز بسيط، ليس فيه من ضروريات الحياة إلا النزر - فضلا عن كماليات.. بلغت اليوم درجة الضرورة - بل إن مستوى الحياة (به) دون المأمول، في الوقت الذي يُحرم به من رؤية من يُحب.. سوى في وقتٍ قصير، ومعلوم!

حتى أن يوسف عليه السلام قال: (لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ) (يوسف: 42)، أي: (لعله يرقُّ لي، فيخرجني مما أنا فيه).. والشكوى أحياناً تأتي من باب الإخبار لا من باب الضجر، يقول أحد الشعراء:

شكوت.. وما الشكوى لمثلي عادةٌ

ولكن تفيض الكأس عند امتلائها

هذا - لعله - مما يدل على أن هذا (الحد) نوع من العقوبة التي لا يستطيع المرء عليها حملاً.

أيضاً في سجن الجاني - مصلحة خفية- كأن يحول به عن حماقة صاحب الدم أو اندفاعه، أن تطاله اليد.. بغير حقٍ يأخذه (له) له ولي الأمر. كما وفيه.. لذوي الهمم - بخاصة أولئك الذين سيقوا إليه ظلماً - الخلوة.. وفراغ يصرفه إلى أن يُنتج، أي: في تحويل العقوبة إلى مثوبة، وكما أوجز عن هذا ابن تيمية - رحمه الله -: (إن في سجني خلوة، وفي نفيي سياحة..) الخ.

فهو إذاً: ليس (شراً) صرفاً.. بالمطلق.

كما وفيه - إضافة للنقطة السابقة - كشفٌ للقدرات، وما تخبيه نفسك من ملكات.. ذهب التركيز عنها: صوارف الحياة، أو السكرة أثرها.

كما وفيه.. حسن تخطيط وترتيب للقادم بعدها - أي: بعد هذه الكبوة التي آلت به إلى هذا المآل.

وبعد:

ما تقدم إلا (قليل) وقعت عليه، فأحببت أن أدلي به.. وأدلُّ إليه.

وإن كانت لغائبة عن من لا يفكر إلا: كيف يخرج، أو متى يخرج؟

هذا إن لم يذهب وقته سدى.. وراء التحسر والسؤال: كيف وقع، ولماذا فعل هذا، ومن أوصله إلى هذا... إلخ، هذه الأسئلة التي تحرق الذات من الداخل، وتحولها عن تفجير الملكات الكامنة.. بها.

mohsnali@yohoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد